عقلٌ يبصر ويهتدي بنور الشرع والنقل

 

 

جزاكم الله خيراً على جهودكم في بث الوعي ، وما تبذلونه في بثِّ الأفكار الناضجة للارتقاء في أحوال الأمة ، ومحاولة التنبيه على أسباب تخلفها وكيفية معالجة أمراضها.

ولكن هذا لا يمنع من التناصح الأخوي ، وأن يسدد بعضنا بعضاً للوصول للرشاد، وهذا ليس تشهيراً ، لأنّ ما نحن بصدده قد خرج على العلن ، وسبق من قبل التناصح في السر ولكنه لم يجدِ للأسف .

طالما أن الهدف خدمة الثورة السورية فلماذا يكون هناك الهجوم على العلماء والمشايخ باسم التنديد بالآبائية العلمية والتراث؟ 

أليس هذا الأسلوب يؤدي إلى التقليل من منزلة العلماء والمشايخ ، وإظهارهم بمظهر غير لائق أمام العامة والمثقفين ؟ 

وإذا كانت الثورة السورية بسبب ندرة العلماء والمشايخ فيهم – وخاصة في الداخل - صارت تعاني من ظهور الفكر المتشدد الخارجي ، والتنظيمات التكفيرية : ألستم بهذا الأسلوب في الهجوم على العلماء والمشايخ تزيدون في القطيعة بينهم وبين الناس ، وبالتالي سيزيد التطرف والجهل  ؟؟.

قرأت في موقعكم ( كلمة المؤسسة لشهر شباط 2016) بعنوان : 

( الخطوة الأولى في الطريق الصحيح) : للطبيب محمد سيد يوسف ، وطبعاً ما يطرحه يمثل فكر المؤسسة ، لأنهم اختاروا هذا الطبيب يتكلم بالنيابة عنها.

وإنني وجدت بعض الأفكار في هذه الكلمة تتوافق مع ما يطرحه العلمانيون والملحدون لنقد الإسلام في مواقعهم كما نجده في موقع (الحوار المتمدن ) .

وفي البداية لابد من بيان الفكر الذي يدعو إليه هذا الطبيب قبل نقد كلمته، فقد قرأت بعض ما ينشره هذا الطبيب في صفحته فوجدته يُمَجِّـد بالمهندس الماركسي محمد شحرور وأنه يحمل فكراً تجديدياً لتفسير الإسلام ( مع أن محمد شحرور أحلَّ الزنا بين الرجل والمرأة بالتراضي إذا كانا غير متزوجين باسم ملك اليمين ، وأباح الخمرة إذا شربت لبعض الوقت، وخير المسلم بين صيام رمضان أو عدم صيامه مع الفدية، ويعتبر أن كل أمم الأرض بكل ديانتها مهما كانت عقائدهم مؤمنين لا فرق بينهم وبين المسلمين، مع ما يقوم من تفسيرات باطلة ومشوهة للقرآن الكريم لتتوافق مع الفكر الماركسي).

فأخشى أن تبيض أفكار الشحرور وتفرخ في موقعكم ومجالسكم من حيث تشعرون أو لا تشعرون .

بالإضافة إلى أن هذا الطبيب يعتبر عوام الناس أدق فهماً وأرشد من الفقهاء والعلماء ، ومتقدمون عليهم بمئات السنين لأنهم يستطيعون الوصول للأحكام الشرعية بفطرتهم ، ثم يتهكم بالفقهاء مبيناً أنه قد يشمل قوله تعالى : ( ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) من يس?مَّـوْن بالفقهاء، بل ويعتبر الفتاوى والعقائد له فترة صلاحية تنتهي بانتهائها.

والآن لننظر للأفكار التي تضمنتها كلمة : (علماء ودعاة الثورة السورية): 

1- يقول الكاتب الطبيب : ( وإنه وبالرغم  من فتح أبواب العلم المختلفة على مصارعها والنقلة النوعية في عالم التواصل ..والتي أثبت  هذا العقل استطاعته تطويرها والتعامل معها .. فإن معظم المؤسسات الدينية المختلفة  سواء الأكاديمية او المشيخية - و بسبب الظروف التي آلت اليها نتيجة للأفكار والأساليب التقليدية القديمة - لا زالت تعطي إجابة واحدة للسؤال الجدلي!! ، أيهما يقدم ، العقل ام النقل ؟؟    لتقدم النقل ، معللة عدم الوثوقية في مخرجات العقل  !؟) .

#الجواب :

نتيجة غريبة توصل لها الكاتب : فهو يزعم أن علماء الأمة قدموا النقل على العقل لأنهم لا يثقون بمخرجات العقل !!!! .

وهذا لا يمت بواقع العلوم التي شيدها علماء الأمة بصلة ، فكان النقل والعقل رائدين لهما بصورة متلازمة راقية .

والحقيقة أنّ القاعدة التي افترضها الكاتب ليس صحيحة ، وبالتالي كانت النتيجة خطأ ، فليس عندنا في عقيدتنا الإسلامية وتصوراتنا المنبثقة من كتاب الله وسنة رسوله هذه الإشكالية أصلاً حتى نسأل أيهما يُقدّ?م العقل أم النقل ؟؟!! .

لأن العقل والنقل كما يقول الإمام الغزالي : "اعلم أن العقل لن يهتدي إلا بالشرع ، والشرع لم يتبين إلا بالعقل فالعقل كالأُس، والشرع كالبناء، ولن يغني أسٌّ ما لم يكن بناء، ولن يثبت بناء ما لم يكن أس. ... وأيضاً فالعقل كالبصر، والشرع كالشعاع، ولن يغني البصر ما لم يكن شعاع من خارج ، ولن يغني الشعاع ما لم يكن بصر. فلهذا قال تعالى: ?قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ* يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ? [المائدة:15-16].

وأيضاً فالعقل كالسراج والشرع كالزيت الذي يمده فما لم يكن زيت لم يحصل السراج، وما لم يكن سراج لم يضئ الزيت، وعلى هذا نبه الله سبحانه بقوله: ?اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ? إلى قوله: ?نُورٌ عَلَى نُورٍ? ، فالشرع عقل من خارج ، والعقل شرع من داخل، وهما متعاضدان، بل متحدان" ) اهـ .

فالعقل أداة للوثوق بصحة ورود النقل، ثم هو أداة لفهم مضمونه، وإدراك المعنى الذي يدل عليه ، فتعاليم الكتاب والسنة كالمصباح تنير للعقل معالم الطريق ، وتهديه للحق .

وإن صحيح المنقول متفق دائماً مع صريح المعقول، ومتفق مع العقل الصافي عن شوائب الأهواء والرغائب النفسية .

ولكن صحيح المنقول الثابت قد يتعارض مع العقل المشب?ع بنظريات بشرية وأفكار غربية صنعتها عقول انقطعت صلتها مع وحي السماء، وارتوت من فلسفات مادية دخيلة على ديننا.

2- ثم يقول الكاتب : ( قد آن لتلك المؤسسات بمختلف صورها ان تولي العقل حقه وان تستهدف تطويره نحو إعماله بتمحيص كل ما ولج ويلج إليه  و تحرره و تدفع به  لينشط من غير قيد او شرط ، ومن غير املاءات او فرض أشكال وصور لتفاعله او كبح لخيالاته)

#الجواب:

أ- هذه دعوة لتأليه العقل حتى لا يكون مقيداً بما جاء في كتاب الله أو سنة نبيه، ودعوة مبطنة للخروج على النصوص الشرعية سواء كانت دلالتها قطعية أو ظنية  .

ب- وإن علماء الأمة قديماً وحديثاً ، لم يهملوا العقل : بل اجتهدوا وأعملوا عقولهم وقضوا ليالي وشهوراً لفهم مسألة أو حكم ، ومثاله مبيت الإمام الشافعي عند الإمام احمد ثم صلاته الفجر دون أن يتوضأ وهو يستنبط الأحكام والفاوئد من حديث نبوي واحد. 

وكذلك ما نسهده في العصر الحاضر من تداول القضايا الفقهية في المجامع الفقهية ، وقد يستمر لدورة او اثنتين .

3- ثم يقول الكاتب : ( إن العمل على إطلاق الحرية للعقل  ليتفاعل و يختلف ويبدع ، و ليقوم بغربلة الأفكار والمفاهيم من خلال تجربتها واقعياً ).

#الجواب : 

أ- هناك أفكار جاءت في نصوص شرعية قطعية الدلالة فينبغي أن نكيف الواقع ونطوعه بناء عليها، وليس الواقع هو الحاكم والمرجع النهائي.

ب- والإبداع ليس بالخروج على ثوابت الأمة التي دلت عليها النصوص القطعية ، وإنما يكون الإبداع في استلهام المعاني بحدود ما تحتمله  تلك النصوص وكذلك في الوسائل والآليات التي يبدعها المفكرون في تقديم مبادئ الإسلام وقيمه وأحكامه وفق مستجدات العصر. 

4- ثم يقول الكاتب : ( يجب تحفيز العقل باتجاه هذا الهدف قد يكون عملا خلاقاً، ليكون بديلاً عن إشاعة مفاهيم الثوابت و المسلمات او التحليل والتحريم من غير انضباط - رغم كونها مقيدة دينيا - والتى يسعى من يكرس إشاعتها و تعميمها بهذا الشكل لمزيد من السيطرة ووضع القيد على الفكر والإبداع في مختلف المجالات).

#الجواب :

أفكار نمطية سقيمة جاء بها العلمانيون والملحدون للخروج على عقائد الإسلام وأحكام الشريعة الإسلامية باسم الحرية والإبداع ، لذلك يتوافق الكاتب مع هؤلاء فيدعونا للخروج على ثوابت الإسلام ومسلماته، ويطلب منا عدم الاكتراث بأحكام التحليل والتحريم ليكون العقل هو وحده الذي يحلل ما يشاء ويحرم ما يشاء .

5- ثم يستمر الكاتب فيقول : ( منبهاً الى وجوب تفحص الأفكار الآبائية وتمحيصها من خلال العلم والعقل والذَين  تجمعهما علاقة عكسية مطردة، وإعادة النظر في  جميع المعتقدات والأفكار و غربلتها -مهما كان مصدرها- ، واستبصار الأمور بشكل جديد  باستخدام عقل الواقع واللحظة والمكان قد يكون الخطوة الأولى لعودة الأمة لسلوك الطريق الصحيح ).

#الجواب: 

أ- قضية الآبائية شعار ماكر للعبث في دين الله وإشاعة الفوضى فيه، وأصبحت شماعة للقفز على تعاليم الإسلام الثاتبة ، مع أن الآباء مجرد ناقلين لهذه التعاليم الربانية وليست من صنع أفكارهم .

ب- والحقيقة أن كل علم من العلوم يبدأ أخذه عن طريق المختصين به ، وذكر آرائهم واحترامها ، وهكذا الشأن في الابتداء في تلقي العلوم الإسلامية المتنوعة فلابد من تلقيها على متأهلين فيها وخبراء في معرفتها ، فالآبائية التعليمية لابد منها للمبتدئين ، وعندما تصبح لدى طالب العلم ملكة علمية ، ونبوغاً في الفهم والإدراك ، وصارت لديه قدرة على الاستنباط : فعند ذلك لا مانع من الاستقلالية والتفرد ، أما أن تكون دعوة في ابتداء الطلب إلى البعد عن أخذ العلوم عن المختصين بها بحجة الآبائية : فهذا يؤدي إلى العبث والفوضى.

لذلك رأينا هذا واضحاً في كلام الطبيب عندما يدعونا للعبث فيقول: (عوام الناس أدق فهماً وأرشد من الفقهاء والعلماء لأنهم يستطيعون الوصول للأحكام الشرعية بفطرتهم) .

والغريب أن هذا الطبيب لا يقبل من العامة أن يصلوا بفطرتهم إلى تشخيص المرض ووصف العلاج وإجراء العمليات الجراحية ، ولكن يجعل الدين مستباحاً لهم ، وكأن الوصول إلى الحكم الفقهي ليس له قواعد وأصول .

وهو بذلك يضرب عرض الحائط قول الحق سبحانه : (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ) ، ويلغي المنهجية والآلية التي وضعها النبي صلى الله عليه وسلم للوصول للحكم الشرعي ليس بمجرد الفطرة عندما أراد أن يبعث معاذ بن جبل إلى اليمن فقال : كيف تقضي إذا عرض لك قضاء ؟ قال : أقضي بكتاب الله . قال : فإن لم تجد في كتاب الله ؟ قال : فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ،قال : فإن لم تجد في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : أجتهد رأيي ولا آلو) .  أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي .

ج- ومما يؤكد على تناقض الكاتب أنهمرة يشيد بالعقل وانه يجب الاعتماد عليه في النظر من جديد، ومرة يشيد بفهم العوام المعتمد على (الفطرة) والذي ليس له اي نصيب من العقل.

وبهذا يتبن ان المقصود ليس الوصول للحق ومعرفته ، بل نسف الدين والارث العلمي الضخم الذي هو جهد الامة جمعاء لقرون طويلة ، واتباع الهوى باسم الفهم الجديد .

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين