علماء لا يقتنون الكتب!!

لا يختلف العقلاء والحكماء في أنّ الكتاب يعدّ من أهم وسائل نشر العلم، وتخليد المآثر، ويروى أنّ ملك الهند قال لولْده، وكان له أربعون ولداً: «يا بني أكثِروا من النظر في الكتب، وازدادوا في كل يوم حرفاً؛ فإن ثلاثةً لا يَستوحشون في غربة: الفقيه العالم، والبطل الشجاع، والحُلو اللسان الكثير مخارج الرّأي».

وقال أبو عثمان الجاحظ (ت: 255 هـ) يمدح الكتاب: «الكتاب نِعمَ الذُّخر والعُقدة هو، ونِعمَ الجليسُ والعُدَّة، ونِعمَ النُشرة والنُّـزهة(1)، ونِعمَ المُشتغَل والحِرفة، ونِعم الأنيس لساعة الوَحْدة، ونِعمَ المعرفةُ ببلاد الغربة، ونِعْمَ القرين والدَّخيل، ونِعمَ الوزير والنَّـزيل».

وقال الوشّاء (ت: 325 هـ): «اعلم أن أول ما يجب على العاقل المنفصل بصفته عن الجاهل، أن يتبعه ويميل إليه، ويستعمله ويحرص عليه، مجالسة الرجال ذوي الألباب، والنظر في أفانين الآداب، وقراءة الكتب والآثار، ورواية الأخبار والأشعار وأن يحسن في السؤال ويتثبت في المقال»(2).

إلا أن المصادر أمدتنا بأخبار بعض الأدباء والعلماء الذين لم يكونوا يقتنون الكثير من الكتب، وذلك لأسباب مختلفة.

فبعضهم كان لا يقتني الكتب اكتفاءاً بحفظه، قال إسماعيل بن نوبخت: «ما رأيت قط أوسع علماً من أبي نواس ولا أحفظ منه مع قلّة كتبه، ولقد فتّشنا منـزله بعد موته فما وجدنا له إلا قمطراً فيه جزاز مشتمل على غريب ونحو لا غير»(3).

وبعضهم كان لا يقتني الكتب اعتمادًا على الاستعارة، فقد ورد أنّ أبا حيان، محمد بن يوسف بن حيان الغرناطي، أثير الدين (ت: 745 هـ) «كان يعيب على مُشتري الكتب، ويقول: أنا أيّ كتاب أردته استعرته من خزائن الأوقاف، وإذا أردت من أحد أن يعيرني دراهم ما أجد ذلك»(4).

وبعضهم كان لا يقتني الكتب تقتيراً، فقد ذكر عن ثعلب (ت:291 هـ) أنه كان لا يُرى بيده كتاب ويتّكل على حفظه، فأما إقتاره على نفسه فإنّه كان غاية فيه(5).

وبعضهم كان لا يقتني الكتب زهدًا في الدنيا، قال علي بن حرب: «كنا ندخل على قاسم الجرمي (ت: 193 هـ)، وما في بيته إلا قِمَطر فيها كتب على خشبة في الحائط، ومطهرة يتطهّر منها، وقطيفة ينام عليها»(6).

وبعضهم كان لا يقتني الكتب لضيق ذات اليـد، فقد ذكر أنّ الشيخ عبدالرحمن بن عبد الكريم الغيثي المقصري الزبيدي اليمني (ت: 975 هـ) «كان من الفقر على جانب عظيم؛ بحيث لا يملك إلا شيئاً يسيراً من الكتب»(7).

وكان أبو مروان ابن مالك القرطبي، كان كثير الجهاد والرباط، مذكراً للعامة، يقرأ عليها كتب التفسير والرقائق، ولم تكن له كتب(8).

وبعضهم كان لا يقتني من الكتب إلا ما يحتاجه في تخصصه، قال القاضي ابن سهل: لم يكن عند ابن مالك من الكتب إلا فقه؛ فيها معاني النحاس ومختصره في المدوّنة، وأراه ذكر المستخرجة، وأشياء من الكتب قليلة، فكان إذا ذكر عنده المكثرون في الكتب وجمع الدواوين، يقول: لا أدري هذه كتبي والله لأموتنّ وأنا أجهل الكثير مما فيها، فماذا يصنع بالإكثار منها! (9).

 

*************

الهوامش:

 

(1) العُقدة، بضم العين: ما فيه بلاغ الرجل وكفايته. العُدَّةُ: ما يعدّ لحوادث الدهر من المال والسلاح. النُـشرة: التعويذة، وقد يكون المراد النَّشرة: الانتشار للنـزهة.

(2) الموشى: للوشاء، مكتبة الخانجي، القاهرة (ص: 6).

(3) وفيات الأعيان: لابن خلكان، دار صادر، بيروت (2/ 96).

(4) نفح الطيب: للمقري، دار صادر (2/ 543).

أبو حيان الأندلسي الجياني، كان فيه خشوع، يبكي إذا سمع القرآن، ويجري دمعه عند سماع الأشعار الغزلية، وكان يفتخر بالبخل، ويقول: أوصيك احفظ دراهمك، ويقال عنك بخيل ولا تحتج إلى السفّل.

(5) إنباه الرواة على أنباه النحاة: للقفطي، دار الفكر العربي، القاهرة (1/183).

ثعلب: إمام الكوفيين في النحو واللغة، كان راوية للشعر محدثاً، مشهوراً بالحفظ. الأعلام (1/267).

(6) تهذيب التهذيب: لابن حجر، دار الفكر، بيروت (8/ 307).

(7) تاريخ النور السافر عن أخبار القرن العاشر: للعيدروس، الكتب العلمية، بيروت (ص: 152).

(8) ترتيب المدارك وتقريب المسالك: لعياض اليحصبي، مطبعة فضالة، المغرب (8/ 137). أبو مروان ابن مالك القرطبي (ت: 460 هـ)، عبيد الله بن محمد، طبيب وفقيه أندلسي

(9) الديباج المذهب: لابن فرحون، دار التراث، القاهرة (1/ 439).

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين