غرور الناقصين وتزکية الآثمين

[أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (49) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا(50)] {سورة النساء}

1 – من وسائل القرآن الكريم في توجيه النصح أن يتَّخذ من الواقع مادَّة لقصصه، وأمثلة لموضوعه، والأخذ من الواقع أجدى في التأثير، وأقوى في الإفادة وأقوم في الإصلاح.

وقد وجد القرآن من شأن أهل الكتاب والمشركين مجالاً فسيحاً لاستمداد العبرة في تَربية المسلمين، ووجد من عناد أولئك جميعاً أمثلة جمَّة يضربها للمسلمين، ليجنِّبَهم سوء ما وقع فيه غيرُهم من قبل، وليباعد بين أهله وبين المخازي التي جلبت على المخالفين تشنيع القرآن، وجعلت قصصهم عبرة لأولي الألباب.

2 – وأنت ترى في الآية الأولى تنديداً بمن كانوا يُزكُّون أنفسهم زُوراً، فيمتدحونها بما ليس فيها، وينتحلون لها من الفضل والبرِّ ما لها ظانين أن تمدحهم بخير لم يصنعوه يرفع من قدرهم كما يَشْتهون.

وكان هذا شأن أهل الكتاب بدَّلوا بعد أنبيائهم، ثم احتدمت الخصومة بين يهودهم ونصاراهم.

وكان المشركون من قريش كذلك بعد: يَنتحلون لأنفسهم سيادة، ويشمخون بسيطرتهم على الأتباع من ضعفائهم، ثم كانت هذه النزعات المتشابهة من جنوح كل فريق إلى إعجابهم بما هم عليه سبباً في انحياز أهل الكتاب إلى المشركين وقتاً ما، ليواطئوهم على قتال محمد وصحبه، حتى يتخلَّصوا من دعوته التي غاظتهم جميعاً، والتي سلكت طريقها رغم تفرُّقِهم عنها، والتي أخذت تَجْرِف باطلهم بحقِّها، وتدحض كثرتهم بقوتها.

وكانوا جميعاً يَرون في الإسلام مُساواة، وعدالة، وحريَّة، ومَعَاني كثيرة يتلاشى أمامها الاستبداد الذي أَلِفوه، والكبرياء الذي استمرؤوه، والضلال الذي شبُّوا عليه وارتاحوا إليه، فلم يكن يُعجبهم أن يستجيبوا لهذا الدين، أو يستمعوا لرسوله صلى الله عليه وسلم.

3 – وإذ كانت تَزكيتهم لأنفسهم شاغلاً عن التفكير في عيوبهم، وصارفاً عن تكميل نقصهم، وقادحاً في أذهانهم أنَّهم في غير حاجة إلى هداية، أراد الله أن يَنهى المسلمين عن هذه الخصلة التي تقف بهم دون الكمال، وتقعد بهم عن مُسايرة الجديد النافع، إلى العكوف على ما كان عليه آباؤهم في حين أن الإسلام ينشد في أهله أن يكونوا الدولة الفتيَّة الناهضة إلى كل صالح مُفيد.

4 – جاء النهي عن تزكية النفس في أساليب مُتنوعة، فمرَّة يَأتي صَريحاً قَاطعاً، كقوله تعالى: [فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى] {النَّجم:32}. يعني: مدحكم لأنفسكم بالقول غير مجديكم، ولا جائز لكم، والعبرة بالتقوى في العمل، وعلم ذلك عند الله لا عند الناس.

ومرَّة يأتي النهي بصيغة الوعيد والتهديد الشديد، كقوله تعالى: [لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ العذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ] {آل عمران:188} والمزكون لأنفسهم بالقول يحبون أن يَحمدَهم الناس بما لم يفعلوا، فهم المهدَّدون بالعذاب في صريح الآية.

ومرَّة ثالثة يأتي النهي في أسلوب التشفِّي وإثارة السخرية من المزكين لأنفسهم كقوله تعالى: [أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ] {النساء:49}. فهذا استفهام للتعجُّب، ولإثارة التعجُّب والإنكار والسخرية ممن كانوا يُزكون أنفسهم بالأقاويل المكذوبة، ثم يَكشفُ عن خطئهم في زعمهم فيقول: [بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ]. يعني: أنَّ التزكية الحقَّة هي في هداية الله إلى الطاعة، وتوجيهه إلى الخير وأما العاكفون على تزكية أنفسهم فسيحاسبون على عملهم هذا، ولا يُظلمون في شر، ولا في خير، ولو كان عملهم ضئيلاً كالفتيل، وهو الخيط الذي يَعهدونه في جوف الثَّمَرة.

5 – وقد يُقال: كيف يُجزون على الخير وهم خالدون في النار لكفرهم؟

وجواب ذلك: أنَّ المزكين لأنفسهم إن كان لهم عمل طيب فإنَّه يخفَّف عنهم عذابهم بالنسبة لكافر لم يكن له عمل كعملهم، فالكفارُ جميعاً خالدون في جهنم، ولهم فيها عذاب شديد – أعاذنا الله – ولكن شدَّة العذاب تتفاوت بينهم، وفي جهنم طبقات تختلف عن بعضها، ولكل باب من أبوابها جزء مقسوم ممن قُدِّر عليهم العذاب فيها.

وفي القرآن آيات يشهد ظاهرها بذلك كقوله تعالى: [ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ] {الأنبياء:47}، [فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ] {الزَّلزلة:7}، وقوله تعالى: [وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا] {النساء:49}. وتخفيف العذاب هناك لا يشعرهم بهناءة، ولكنَّه يُقنعهم بعدل الله فيهم، ويُقيم الحجَّة عليهم، ويزيدهم نَدماً على تخلُّفهم وحرمانهم، حتى يقولوا: [رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ] {فاطر:37}.

وليس في هذا القول مُنافاة لما ورد من الآيات في سوءِ حالهم جميعاً: ففريق منهم في السعير، وفريق في الزمهرير، وفريق في سقر، وآخرون في الدرك الأسفل، وهكذا... مما يؤكد أنَّ العذاب مُتفاوت في نوعه، وأن الشرَّ فيه مُتفاوت.

6 – ونعود إلى التزكية التي كانت سبباً في النهي عنها، فأهل الكتاب يَنقسمون على أنفسهم، ويَتَبارَون في التزكية على بعضهم، فاليهود يقولون: نحن شعب الله الله المختار... نحن أبناء الله وأحباؤه... لن يعذبَنا بذنوبنا، فإننا أطهار منها كطهارة أطفالنا... ليست النصارى على شيء من الحق.

والنصارى يَرون في أنفسهم مثل ما يَرى اليهود في أنفسهم، ويقولون: ليست اليهود على شيء من الحق، وكل حِزْبٍ بما لديهم فَرِحون.

وكانت قُريش ترى لنفسها سيادةً ومكانةً فوق ما للمؤمنين بمحمد صلى الله عليه وسلم وكانوا يقولون في الإسلام والمسلمين: [لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ] {الأحقاف:11}، وهكذا من أساليب الافتراء التي يتعلَّلون بها، ويَركنون إليها.

ثم جاءت الآية الثانية تدحض هذا الافتراء في إيضاح آثم، وتقريع أشد؛ لأنَّ المزكي لنفسه يُثبت لها عند الله فضلاً ليس لها: [انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا] {النساء:50}.

7 – وهذه الآية آكدُ في التعجُّب من الأولى، وأشدُّ استهجاناً لما هم عليه من التزكية المكذوبة والكذب كله شنيع، وأشنعه الكذب على الله تعالى الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، وإذا كان كذب الولد على والده، وكذب المرؤوس على رئيسه، وكذب الخادم على مخدومه، والزوجة على زوجها، مما يعد جرأة غير هينة، وجُرْماً غير يَسير، فكيف يكون الكذب على الله شناعة، وخزياً، وضرراً بالنفس وبالناس؟.

[وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا] يعني: حَسْبُ الكاذب على الله إثمه المبين الواضح، أو المبين القاطع الذي يقطعه عن رحمة الله قطعاً لا صلة له، كإبانة الحبل بقطعه قطعاً لا تبقي له صلة.

8 – وإنما كانت التزكية بهذه المثابة من سخط الله؛ لأنَّ تصوير المرء لنفسه عند الناس بغير صفاته يحمل الناس على حسن الظن به، فيَنزلقون في حسن الظن به، فإذا غلب عليه طبعه أصابهم من ضرره مالا ينبغي أن يكون، وهذا خداع لا يلائم صالح الجماعة، ولا يتَّفق مع ما يحاوله من حمل الناس على الثقة فيه، والاطمئنان إليه ولو في المحيط الضيِّق الذي يعيش فيه.

وجهة ثانية: هي أنَّ الناس إذا رأوا من المزكي لنفسه مُناقضة لقوله، وعملاً غير مرضي، أساءوا الظن ببعضهم، وأصبح الكذب مَفْروضاً في أحاديثهم، فتضيع الثقة، وتنعدم الرحمة بينهم، والإسلام يَنفي الضرر ولو كان مظنوناً، أو من أبعد طُرقه.

9 – وهنا يقال: كيف ذلك كله: وقد امتدح القرآن تزكية المرء لنفسه في قوله تعالى: [قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى] {الأعلى:14} [قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا] {الشمس:9}.

وجواب هذا: أنَّ التزكية بالقول المكذوب هي مَورد الحظر، ومَعْرِض النهي، لما علمت فيها من أضرار بالمجتمع، وبالخُلُق، وبالدين... فوق أنَّها رياء، وخداع، وانصراف عن محاولة الكمال إلى تلك الميوعة، والإعجاب بالنفس الخ.

أما التزكية بالحق، فهي تطهير النفس من المآثم، وتجميلها بعمل الطيبات، وإسداء المعروف قدر الطاقة، فبهذا تزكو النفس: بمعنى تنمو، كما يزكو الزرع ويترعرع بخدمته وتعهده، وتلك التزكية هي المطلوبة في الآيات، وهي المحبَّبة إلى النفوس عامَّة، وفيها يكون التنافس، لا في مثل ما اصطنع أهل الكتاب، أو اصطنعت قريش، أو يصطنع المعجبون بأنفسهم حتى اليوم.

وبعد – فهذه نزعة من النزعات الفاشية بين الناس في كل طبقة وفي كل جيل، وهي لون من ألوان العقليَّة المختلفة بحكم الفطرة.

والقرآن – حينما عرض لها بالإنكار والتشنيع – لا يقصد الرجوع بهديه إلى من سبقوا، وحاقت بهم مآثمهم، وإنما قصد – كما أسلفنا – وقاية المسلمين من التدافع في الإعجاب بأنفسهم، والتهافت على تزكيتها بالدعاية المفتراة، والاشتغال بهذا الهذر عن الجد في تربية الخلق، والنظر في عيوب الأنفس ونقائصها، والأخذ بالكمال مما علَّمنا الله ومما تعارفه العقلاء، وهذا هو سبيل البقاء للذكريات الطيِّبات، ووسيلة البناء لمجد الأمم وتنقية المجتمع من تلك التعللات التي تتعشَّقها النفوس الهزيلة.

ولعل المسلمين الأولين طفروا طفرتهم من الجاهلية إلى المثاليَّة التي يتغنَّى بها التاريخ؛ لأنَّهم شغلوا أنفسهم بعيوبها، و استحثُّوا هِمَمَهم على التزوُّد من الكمال في مَعَارفهم، وفي أخلاقهم، وفي نُظُمهم عامَّة.

وقد كانت النخوة العربية تضطرم في دمويَّتهم، وفي خواطرهم، وكانت غيرتهم على التوجيه مَشبوبة في صدورهم، فلما جاء الإسلام وجد منهم تُربة صالحة لغَرْس مبادئه، ووجد فيهم أذهاناً صالحاً للتنمية، وللصقل، فما كادوا يسمعون دعوة الله، ويتذوَّقون الدين ويتنسَّمون روحه حتى نشطوا إلى وقاية أنفسهم ومجتمعهم بالخلق الصادق، ولم يشغلهم التخنُّث والتواكل بتزكية أنفسهم، والتمويه على ما بهم من وَهْن.

وإذا كانت الشعوب الإسلامية تعثَّرت في الاستعمار أزماناً، وتخلَّفت عن مُتابعة الأسلاف أحقاباً، وتخلَّت عن مَقَاصد شَامخة كانت لهم في الصدارة، فقد آذنت حياتُهم باليقظة، ونشطت هممهم إلى تدارك ما فات، وها هي ذي: تطارد الاستعمار في غير هوادة، وتجتاحه في غير تريث، حتى أخذ ينكمش في سرعة، وتنقشع سحبه في غير تَردُّد، وتقلَّصت حياتُه من أرض العروبة، وعما قَليل ينجابُ ظله عما بقي من الوطن الإسلامي.

وهذه صحوة الأمم الإسلاميَّة بدت في مظاهرها هنا وهناك، ونهض الشرق يضم صفوفه ويجمع أشتاته، ويتجهم لمن يتوانى من شعوبه، أو يجنح إلى سياسة المستعمرين، وأصبحت صيحات الشرق كله تتجاوب في ربوعه، وبين أقطاره بالدعوة إلى الاستبسال والتكتُّل والحذر من خدع الغرب التي غشيتنا زمناً ما..

ولعل امتحان العروبة والإسلام بما مضى من تحكم الاستعمار يكفي عظة وتنبيهاً لمن يخامره شك في ألاعيب اللاعبين من أمم غريبة لم يسبق لها برهان واحد على حُسن النيَّة نحو الشرق وأهله.

وخير ما يعود إلى الذاكرة اليوم وبعد طول الزمن: هو صيحة الإسلام في فجر تاريخه، حي على الفلاح، حي على الفلاح، وهو شعارنا إلى اليوم وبعد اليوم...

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

المصدر: (مجلة الأزهر، المجلد السابع والعشرون، 1 رجب 1375 - العدد 7) باختصار يسير.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين