غزوة بدر الكبرى -1-

بدر: قرية في الجنوب الغربي من المدينة المنورة، بينهما نحو مائة كيلو متر وثلاثين، وهي في الطريق بين مكة والمدينة، وبها آبار قديمة غاض ماؤها يسمى الواحد منها القَلِيب، وبها آبار عديدة للسقي، وهي من محطات القوافل بين مكة والشام، وكانت يجتمع بها للعرب في كل سنة سوق عام، ويتصل بهذه القرية وادٍ فسيح، جانباه الشرقي والغربي كثبان مرتفعة من الرمال، وهما العُدْوتان: فجانبه الشرقي هو العدوة الدنيا من المدينة، وجانبه الغربي هو العدوة القصوى عنها.

في صبيحة يوم الجمعة 17 من رمضان من السنة الثانية للهجرة، وقعت في ساحة هذا الوادي معركة حربيَّة بين المسلمين والمشركين، هي معركة قاد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه جيش المسلمين، وهي أول معركة تجلَّت فيها آيات تأييد الله تعالى للمسلمين، وإمدادهم بقوته ومعونته سبحانه، وآيات حكمة الرسول صلى الله عليه وسلم ودستوريته وقيادته وسياسته، وآيات إخلاص الأنصار والمهاجرين في نصرة دين الله تعالى وإعلاء كلمته، وقد انتهت بنصرة المسلمين وهزيمة المشركين، حتى قال بعض المفسرين: إنَّها هي الفتح المبين الذي امتنَّ الله تعالى به على رسوله في قوله الكريم: [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا] {الفتح:1}.

فمن الواجب على المسلم في رمضان من كل عام، أن يذكر هذه الغزوة، وأن يستلهم منها الدروس والعبر، ويفكر في أول أمر المسلمين، إذ نصرهم الله تعالى ببدر وهم أذلة، وإذ أعزَّ بهم دينَه وهم قِلَّة، ليؤمن بأنَّ قوة الإيمان فوق قُوى العدد والعُدد، وبأنَّ وحدة الكلمة هي أمضى سلاح، ولن يصلحَ آخر هذه الأمَّة إلا بما صلح به أولها، ومن الجدير بأن يذكر من هذه الغزوة ما يأتي:

1 - ما سبب وقوع هذه الغزوة؟

2 – ما القوى التي اشتركت فيها من الفريقين؟

3 – ما أهم العوامل التي أعانت على نصر المسلمين وهزيمة المشركين؟

4 – ما أظهر المواقف المشهودة فيها للرؤوس من الصحابة رضي الله عنهم؟

5 – ما أظهر نتائجها ودروسها؟

1 – ما سبب وقوع هذه الغزوة؟

لما تمَّت هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم من مكة إلى المدينة، قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم السنة الهجرية الأولى كلها يدعم فيها الوحدة بين المسلمين، ويعقد المعاهدة بينهم وبين اليهود؛ لأنَّ أول أساس تقوم عليه أية دولة هو وحدة أفرادها، وأمنهم جانب من يعيشون بينهم، ولهذا عمل على محو ما بقي بين الأوس والخزرج من آثار العداء والبغضاء، وآخى بينهم وبين المهاجرين، وعقد معاهدة بين المسلمين ويهود المدينة، تكفل لليهود حريتهم في عقائدهم، وإقامة شعائر دينهم، وتوجب عليهم أن يكونوا مع المسلمين ضد من حاربهم، وأن لا يكونوا مع عدو لهم.

ولما شعر المسلمون بقوتهم ووحدتهم وبالأمان من جانب من يعيشون بينهم، فكَّروا في شأن قريش، الذين أخرجوهم من ديارهم وأموالهم بغير حق، وفرَّقوا بينهم وبين أولادهم وأرحامهم بالغلظة والقسوة، ووقفوا في سبيل دينهم ودعوتهم بغياً وعدواناً، فكَّروا كيف يستردون من هؤلاء الغاصبين أموالهم التي سلبوها؟ وكيف يثأرون من هؤلاء المعتدين لدينهم الذي حاربوه، وعِزَّتهم التي أذلوها؟ وقد هداهم إلى السبيل لاسترداد حقوقهم من هؤلاء الغاصبين، والثأر لكرامتهم من هؤلاء الظالمين: أنَّهم بيثرب، ويثرب ممر قوافل قريش التجارية في ذهابها إلى الشام وإيابها منها، وكانت القوافل تحمل إلى الشام من مكة وما جاورها منتجات بلاد الحجاز وحاصلاتها، وتعود إلى الحجاز من الشام بمصنوعات بلاد الروم ووارداتها، وكانت لهذه القوافل رحلتان: رحلة الشتاء ورحلة الصيف، ومن لم يعمل لاسترداد حقه والثأر لكرامته، لا يراعى له حق ولا تقدر له مكانة.

ولهذا أخذ المسلمون يرصدون قريشاً وقوافلها ويتحسَّسون أخبارها، ويعملون على أن يظفروا منها ببعض ما لهم، ويجزوا ظالميهم عن بعض سيئاتهم، ويُظهروا فيهم وفيمن مالأوهم نور الله تعالى، الذي ظنوا أنَّهم أطفؤوه وأخمدوه.

ولهذا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مع بعض أصحابه من المدينة في صفر من السنة الثانية للهجرة يريد قريشاً وبني ضمرة، فلم يلاق قريشاً، وحالفته بنو ضمرة، وعاد إلى المدينة بعد أن وصل إلى مكان اسمه ودَّان.

أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة بعد عودته من ودَّان بقية صفر وأوائل ربيع الأول، وفي مقامه هذا لم ينسَ قريشاً، ولم يهمل أمر تتبعهم، فبعث عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب رضي الله عنه في ستين من المهاجرين ليلقوا جمعاً من قريش، فالتقى الركبان ولم يقع بينهما قتال، وبعث أيضاً حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه في ثلاثين من المهاجرين ليلقوا جمعاً آخر من قريش على رأسهم أبو جهل بن هشام، فالتقى الركبان وحجز بينهما مجدي بن عمرو الجهني، الذي كان موادعاً للفريقين، فلم يقع بينهما قتال.

وفي أواخر ربيع الأول خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأس مائتين من المهاجرين والأنصار إلى بُواط، ليلقوا قافلة لقريش على رأسها أمية بن خلف، فلم يلاق القافلة لأنها غَيَّرت طريقها، وسلكت طريقاً غير المألوفة.

وفي جمادى الأولى خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في نحو مائتين من أصحابه، ونزلوا بمكان اسمه العُشيرة ببطن ينبع ينتظرون مرور قافلة لقريش، علموا أنَّها خرجت من مكة تقصد إلى الشام، وأن رجالها من 30 إلى 40، وعلى رأسهم أبو سفيان بن حرب، وأنها تحمل صادرات وفيرة، وهذه القافلة هي عير قريش، ولكن المسلمين بعد أن وصلوا إلى العُشيرة علموا أنَّ قافلة قريش مرَّت بها في طريقها إلى الشام قبل وصولهم إليها بيومين، فأقاموا بالعشيرة بقية جمادى الأولى، وليالي من جمادى الآخرة، وتمت في مقامهم هذا مُوادعة بينهم وبين بني مدلج وحلفائهم من بني ضمرة، وعادوا إلى المدينة فأقاموا بها بقية جمادى الآخرة وشهري رجب وشعبان.

وفي أوائل رمضان من السنة الثانية للهجرة، علم المسلمون أنَّ عير قريش في طريق عودتها من الشام إلى مكة، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (هذه عير قريش فاخرجوا إليها لعلَّ الله أن ينفلكموها).

فخرج جمع من المهاجرين والأنصار وعلى رأسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الثامن من رمضان للقاء هذه العير، وقدَّموا بين أيديهم عيونهم لرصدها واستطلاع أخبارها حتى لا تفوتهم في إيابها كما فاتتهم في ذهابها.

وعلم أبو سفيان بن حرب رضي الله عنه رأس العير من عيونه التي بثَّها لما قارب الحجاز أنَّ محمداً صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم خرجوا من المدينة للقائه، فاتخذ طريقاً غير الطريق المألوفة، وسار بالعير في طريق ساحلي بعيد عن يثرب ليتفادى لقاء المسلمين، وفي الوقت ذاته وللاحتياط للطوارئ أرسل رسولاً إلى مكة يستنفر قريشاً لنجدته، وإنقاذ عيرهم من المسلمين إذا هم لاقوها، وقد أثار الرسول حمية قريش وهممهم، فنفروا خفافاً وثقالاً وشيوخاً وشباناً، ومعهم كل ما لهم من سلاح ورماح وعدة للقتال، حتى كانت رجال قريش كلها في ذلك الحين إما مع أبي سفيان في العير، أو مع أبي جهل في النفير، ومن كان منهم لا في العير ولا في النفير، فهو إما هرم، أو ذو عاهة، أو ليس ذا شأن.

انتصف رمضان من السنة الثانية للهجرة والأمر على هذه الحال: المسلمون وعلى رأسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سائرون في الطريق التي توصلهم إلى لقاء العير، والمشركون في عددهم وعُددهم سائرون في الطريق التي توصلهم إلى العير، والعير وعلى رأسها أبو سفيان سائرة في طريق ساحلي غير مألوفة بعيدة من يثرب، وقد قاربت مكة ولم تلاقِ المسلمين الذين خرجوا ليغنموها، ولا المشركين الذين نفروا لينقذوها. 

علم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون وهم في الطريق أنَّ المشركين نفروا من مكة في عددهم وعُددهم لقتال المسلمين وإنقاذ العير، وعلم أيضاً أن العير نجت من طريقها الساحلي ووصلت إلى مكة، وأنَّ الذين ينتظرون مُلاقاتهم هم نفير قريش لا عيرها، وعلم المشركون أيضاً أن العير نجت، وأن المسلمين لم يلاقوها في إيابهم كما لم يلاقوها في ذهابهم.

هذا الموقف أدَّى إلى انقسام في الرأي بين المسلمين لأنَّ العير التي خرجوا للقائها قد فاتتهم، ولأن استمرارهم في المسير قد يؤدي بهم إلى ملاقاة نفير قريش وقتاله، وهم لم يخرجوا لحرب ولا قتال، ولم يستعدوا لحرب وقتال.

وإلى أصحاب هذا الرأي أشار الله سبحانه بقوله: [وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الكَافِرِينَ] {الأنفال:7}. 

ومنهم من رأى أن يستمروا في سيرهم ولو أدَّى إلى مُلاقاة النفير وقتاله؛ لأنَّ رجوعهم يؤوَّل ضعفاً وجبناً، وهم في أول عهدهم في حاجة إلى مهابتهم، وهذا الانقسام في الرأي وقع أيضاً بين المشركين، فمنهم من رأى أن يعودوا إلى مكة لأنَّ عيرهم نجت، ومنهم من رأى أن يواصلوا السير حتى يصلوا ماء بدر، وهناك ينحرون ويشربون ويطربون احتفالاً بنجاة عيرهم، ولتتحدث القبائل بابتهاجهم.

وليقضي الله أمراً كان مفعولاً، ترجَّح عند المسلمين الرأي القائل بمواصلة المسير، وترجح عند المشركين الرأي القائل بمواصلة المسير، وما أصبح يوم الجمعة 17 من رمضان حتى تراءى الجمعان في ساحة وادي بدر، المسلمون بجانبه المرتفع من جهة المدينة وهو العُدوة الدنيا، والمشركون بجانبه المرتفع من جهة مكة وهو العُدوة القصوى، ولما تراءى الجمعان لم يكن بد من الحرب والقتال، فنزل المشركون الميدان معتزين بعددهم وعِددهم، مختالين مبتهجين بنجاة عيرهم، ونزول المسلمون الميدان في قلة من العدد وبغير عدد، ما أدركوا العير التي خرجوا لأجلها، وما استعدوا لحرب رموا بأنفسهم في نارها، ولكن الله تعالى يؤيد بنصره من يشاء، إنَّ في ذلك لعبرة لأولي الأبصار.

يتبع

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 

المصدر: (مجلة لواء الإسلام، العدد الأول، السنة الثانية، رمضان1367، يوليو 1948).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين