غزوة بدر الكبرى -3-

 

مواقف مشهودة في غزوة بدر

أنفع الدروس وأبلغ العظات، ما تستلهم من الوقائع والمواقف المشهودة للأبطال وعظماء الرجال، والحروبُ والغزوات وكلُّ ما يَنتاب الأمة من شدائد وأزمات هي الميدان الذي تظهر فيه بطولة الأبطال، واستكانة الضعفاء، وإخلاص الصادقين، ومرض المنافقين، وهي البوتقة التي تميز الزائف من الجيد، والخبيث من الطيب.

وقد تكوَّنت الأمة الإسلاميَّة بعد الهجرة المحمديَّة من فئتين: فئة المهاجرين، وأصلُهم من مشركي قريش، وفئة الأنصار وأصلهم من نصارى نجران.

وما كانت بين مشركي مكة ونصارى المدينة ألفة ولا مودة، ولا كان بين فئتي الأنصار أنفسِهم ألفة ولا مودة، لأنَّ الأوس والخزرج لبثوا عشرات السنين قبل الإسلام يتحاربون ويتقاتلون.

فلما مضى على تكوُّن هذه الأمَّة عام وبعض عام، أراد الله سبحانه أن يمتحنهم بمحنة قاسية، ليبلو وحدتهم وألفتهم، ويظهر أثر الإيمان في قلوبهم، وما غرسه الرسول فيهم، وقد انجلت المحنة عن أنَّ الإسلام كَوَّن من هؤلاء المهاجرين والأنصار كتلة واحدة أخلصت وتفانت في نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ودين الله تعالى ودعوة الله سبحانه، وأنَّ شعارهم واحد وغايتهم واحدة، فالمهاجرون قاتلوا آباءهم وأبناءهم وإخوانهم، ووقف حمزة بن عبد المطلب يقاتل العباس بن عبد المطلب، ووقف علي بن أبي طالب يقاتل عقيل بن أبي طالب، ووقف كل مهاجر أمام قريب له أو نسيب، غير مُبالٍ بقرابته أو مُصاهرته في سبيل الله وإعلاء كلمة الله تعالى.

والأنصار قاتلوا قريشاً، وهم ليس بينهم وبينهم تراث، والمعاهدةُ التي عاهدوا عليها الرسول عند العقبة إنما كانت توجب عليهم أن ينصروه ويحموه ويدافعوا عنه إذا هوجم في مدينتهم، وما كانت توجب عليهم أن يقاتلوا معه في ميدان خارج مدينتهم، ولكن إيمانهم الذي فاضت به قلوبهم حوَّل حالهم وألزمهم أن ينصروا الرسول صلى الله عليه وسلم أينما كان، وأن يقاتلوا معهم في أي مكان، وهذا الإيمان هو الذي ألَّف بين قلوبهم، وأنساهم ما كان بينهم من أحقاد وأضغان.

وبهذه الروح القوية، والعزيمة الصادقة والإيمان الراسخ، نزل المسلمون ميدان القتال ببدر، وكانت للكثير منهم في هذه الغزوة مواقف مشهودة، فيها أنفع الدروس وأبلغ العظات.

فمن أظهر المواقف المشهودة في تلك الغزوة، موقف رسول الله صلى الله عليه وسلم في حسن سياسته، ودستوريته، وجعل الأمر شورى بينه وبين صحابته، تجلى هذا حين علم أنَّ قريشاً أعدَّت النفير للدفاع عن العير وقتال المسلمين، فاستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه رضي الله عنهم: هل يمضي أو يعود؟ وما مضى في المسير إلا بعد أن أجمع عليه رأي صحابته. 

وتجلى هذا أيضاً حين نزل في وادي بدر منزلاً، وأشار عليه الحُباب بن المنذر رضي الله عنه أن يغير هذا المنزل، فنفَّذ صلى الله عليه وسلم ما أشار به الحباب. وتجلى هذا أيضاً حين انتهى القتال وأسر المسلمون عدداً من المشركين، وأراد بعض المشركين أن يفتدوا أسراهم، فاستشار رؤوس أصحابه فيما يفعل.

وموقفه صلى الله عليه وسلم في شجاعته، حتى قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ولما أن كان يوم بدر والتقى الجمعان اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وما كان أحدٌ أقربَ إلى العدو منه).

وموقفه صلى الله عليه وسلم في صبره وثباته، حتى إنه لما وقف يعدِّل صفوف المسلمين، ورأى كثرة قريش وقوتهم، لم يتسرَّب على قلبه يأس ولا إلى عزمه وهن، بل تجلَّد واتجه إلى ربِّه قائلاً: (اللهم هذه قريش قد أتت بخيلائها تحاول أن تكذِّب رسولك، اللهم فنصرَك الذي وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تعبد).

وموقفه صلى الله عليه وسلم في رحمته ورقة قلبه، قال عبد الله بن عباس رضي الله عنه: لما أمسى القوم من يوم بدر والأسارى محبوسون في الوثاق، بات رسول الله صلى الله عليه وسلم ساهراً أول ليلة، فقال له أصحابه: يا رسول الله مالك لا تنام؟ فقال: (سمعت تضوُّر العباس في وثاقه) قال: فقاموا إلى العباس رضي الله عنه فأطلقوه، فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقالت عائشة رضي الله عنها: لما بعث أهل مكة في فداء أسراهم بعثت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في فداء زوجها أبي العاص بن الربيع بمال، وبعثت فيه بقلادة لها كانت خديجة رضي الله عنها أدخلتها بها على أبي العاص حين بنى عليها، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم رقَّ لها رِقَّة شديدة، وقال: (إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها وتردُّوا عليها الذي لها فافعلوا) فقالوا: نعم يا رسول الله، فأطلقوه وردُّوا عليه الذي لها.

فهذه مواقف فيها دروس في دستورية القائد، وحكمته وشجاعته، وثباته، وعطفه، ورحمته.

ومن أظهر المواقف في غزوة بدر: موقف سعد بن مُعاذ سيد الأوس رضي الله عنه وحامل لواء الأنصار، فلو رُسم الإخلاص رجلاً لكان سعد بن معاذ، وهذان موقفان من آيات إخلاصه وصدق إيمانه:

1 – استشار رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أصحابَه لما بلغه أنَّ قريشاً خرجت في عددها وعُددها للقاء المسلمين وقتالهم، فأدلى أبو بكر رضي الله عنه برأيه، وأدلى عمر رضي الله عنه برأيه، وقال المقداد بن عمرو رضي الله عنه: (يا رسول الله امضِ لما أراك الله فنحن معك، والله لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون).

وقد ساد القوم سكوت، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (أشيروا عليَّ أيها الناس) فأدرك الأنصار أنَّه يريدهم، فقام صاحب رايتهم سعد بن معاذ رضي الله عنه، وأفصح عن إخلاصه وإخلاص قومه وقال: (لكأنك تريدنا يا رسول الله؟ فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: أجل، فقال سعد: (لقد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئتَ به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامضِ لما أردت فنحن معك، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، وما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غداً، إنا لصُبُرٌ في الحرب، صدُق في اللقاء، لعلَّ الله يريك منا ما تقرُّ به عينك، فسِرْ بنا على بركة الله).

2 – نزل المسلمون منزلهم ببدر ورسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم، فقال سعد بن معاذ: (يا نبي الله نبني لك عريشاً تكون فيه، ونعد عندك ركائبك ثم نلقى عدونا، فإن أعزَّنا الله تعالى وأظهرنا على عدونا كان ذلك ما أحببنا، وإن كانت الأخرى جلست على ركائبك فلحقت بمن وراءنا من قومنا فقد تخلَّف عنك أقوام يا نبي الله ما نحن بأشد لك حبَّاً منهم، ولو ظنوا أنك تلقى حرباً ما تخلَّفوا عنك، يمنعك الله بهم، يناصحونك ويجاهدون معك) فأثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم على سعد، ودعا له بخير، وبنى المسلمون العريش للرسول صلى الله عليه وسلم.

ومن أظهر المواقف في هذه الغزوة: موقف أبي بكر وعمر رضي الله عنهما حين التشاور في فداء الأسرى، فقد روي أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بسبعين أسيراً فيهم العباس عمه، وعقيل بن أبي طالب، فاستشار أبا بكر في هؤلاء الأسرى، فقال أبو بكر رضي الله عنه: (قومك وأهلك، استبقهم لعلَّ الله يتوب عليهم، وخذ منهم فدية تقوي بها أصحابك) وقال عمر رضي الله عنه: (كذَّبوك وأخرجوك، فقدِّمهم واضرب أعناقهم، فإنَّ هؤلاء أئمة الكفر، وإنَّ الله تعالى أغناك عن الفداء، مكِّن علياً من عقيل، وحمزة من العباس، ومكني من فلان – لنسيب له – فلنضرب أعناقهم). 

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنَّ الله ليُلين قلوب رجال حتى تكون ألين من اللين، وإن الله تعالى ليشدد قلوب رجال حتى تكون أشد من الحجارة، وإن مَثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم: قال: [رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ] {إبراهيم:36}. ومثلك يا عمر مثل نوح: قال: [رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الكَافِرِينَ دَيَّارًا] {نوح:26}.

ثم لان قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم لرأي أبي بكر رضي الله عنه، فقال لأصحابه: إن شئتم قتلتموهم، وإن شئتم فاديتموهم، فقالوا: بل نأخذ الفداء.

وأخذوا الفداء من الأسرى وأطلقوهم.

وقد بيَّن الله سبحانه في سورة الأنفال خطأ هذا الاجتهاد، فقال عزَّ شأنه: [مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللهُ يُرِيدُ الآَخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ] {الأنفال:67-68}.

ومعنى الآية الكريمة: ما ساغ لنبي ولا استقام له أن يكون له أسرى ويفاوض في افتدائهم حتى يثخن في الأرض، أي: حتى يكثر القتل والجراحة في خصومه وخصوم دينه، والمسلمون وهم قِلَّة أذلَّة في حاجة إلى أن يظهروا عِزَّتهم وقوتهم، بإضعاف خصومهم وإشاعة القتل فيهم، وهذا مصداق قول عمر رضي الله عنه: (كذَّبوك وأخرجوك، وهؤلاء أئمة الكفر وإنَّ الله أغناك عن الفداء) فجملة المعنى: ما صحَّ لنبي أن يكون له أسرى حتى يذل الكفر ويضعفه بإشاعة القتل في أهله، ويعز الإسلام ويقويه بالاستيلاء والقهر، ثم الأسر بعد ذلك.

ولما أعزَّ الله تعالى الإسلام وقوَّى شوكة المسلمين، قال الله تعالى: [فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الحَرْبُ أَوْزَارَهَا] {محمد:4}. ومذهب أبي حنيفة وأصحابه في حكم الأسرى يختلف باختلاف هؤلاء الأسرى، فإن كان الأسرى من مشركي العرب، فإما أن يسلموا، وإما أن يقتلوا، ولا يجوز استرقاقهم ولا افتداؤهم ولا المن عليهم، وإن كانوا من أهل الكتاب أو من مُشركي غير العرب، فللإمام فيهم واحدة من ثلاث يختار أيها أصلح للمسلمين: إن شاء قتل الرجال المقاتلين منهم، وسبي النساء والذراري، وإن شاء استرقَّهم جميعاً وجعلهم غنيمة للمسلمين، وإن شاء منَّ عليهم وتركهم بعقد الذمَّة.

ومذهب الشافعي وأصحابه أنَّ الأسرى حكمهم واحد، وللإمام فيهم أحد أربعة على حسب ما يقتضيه نظره للمسلمين، وهو القتل، والاسترقاق، والفداء بأسرى المسلمين، والمن.

ورأي عمر بن الخطاب رضي الله عنه في أسارى بدر هو من آراء عديدة أيَّدها القرآن الكريم، وعتابُ الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم في أخذ الفدية دليل على أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم اجتهد في هذه الواقعة برأيه وبمشورة أصحابه، وأنَّ الله سبحانه جعل له أن يجتهد فيما لم ينزل به وحي، وأنَّه سبحانه لا يقره على اجتهاده إلا إذا أصاب فيه.

وفي غزوة بدر عبر بالغة، من ناحية القيادة الحكيمة، والسياسة الدستورية الرشيدة، وإخلاص الجند، وحرية الرأي، والتفاني في الجهاد، وكل ما هو مثل أعلى في الحرب ومُعاملة الأسرى، والرفق والعدل، والرحمة والإنسانية.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 

المصدر: (مجلة لواء الإسلام، العدد الثالث، المجلد الثاني، ذي القعدة 1367، سبتمبر1948).

الحلقة السابقه هــــنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين