فضول العيش أشغال

(من تمام النعمة عليك: أن يرزقك ما يكفيك، ويمنعك ما يطغيك، ليقل ما تفرح به، ويقل ما تحزن عليه)

  إذا قرر المؤمن الجهاد في سبيل الله، والاشتباك مع قوى الباطل في حرب موصولة الكر والفر فيجب أن يُحدد صلته بما في الدنيا من متع وما تهواه النفس من لذات... 

ذلك أن التمشي مع مغريات الحياة يفتح الشهية للمزيد، ويعلق القلب بمطامع تشغله عما يجب أن يخلص له. 

وصدق المتنبي إذ يقول:

ذِكْرُ الفتى عُمْرُهُ الثّاني وَحاجَتُهُ  مَا قَاتَهُ وَفُضُولُ العَيشِ أشغَالُ

 

 وترضية النفس بمستوى من العيش يضمن الكفاية، وينفى الفضول، أعون شيء على رفع الجبهة، وتوفير العزة، وإرضاء الله تعالى. 

قيل يوماً لأحد شيوخ الأزهر: افعل كذا وإلا أصابك ما لا تحمد عقباه!  فقال: هل سأمنع من التردد بين بيتي والمسجد! قيل: لا...  قال فافعلوا ما بدا لكم.

 ولما سجن الشيخ عليش في أعقاب الثورة العرابية قيل له: تملق الخديوي ليعفو عنك.  فقال قصيدته التي مطلعها:

 الزمْ بابَ ربك واترك كل دون= واسأله السلامة من دار الفتون

 لا يضيق صـدرك ، فالحـادث يهـون =لا يكثر همُّك ما قدِّر يكون

وأساس هذا السلوك: توطين النفس على أسلوب من العيش، خفيف المؤنة، قليل التكلفة .

والإنسان في هذا المجال يمكن أن يمتد ويمكن أن ينكمش.

 والنفس طامعة إذا أطعمتها=وإذا ترد إلى قليل تقنع

 ونحن لا نحرم حلالاً، ولا نحجر واسعاً، وإنما نصف الطريق التي لابدَّ من سلوكها لأصحاب الرسالات وحمَلة الدعوات.  فإنَّه لا يتفق طمع في الدنيا وانتصار للمثل العليا.  ولا ينسجمان الحرص على إعلاء كلمة الله، والحرص على تكثير المغانم واسترضاء الخلائق، وفى الحديث: (يا أيها الناس هلموا إلى ربكم، فإنَّ ما قلَّ وكفى خير مما كثر وألهى) .

 وضوابط الكفاية ليست لها خطوط معينة، بل هي تختلف باختلاف الطبائع والأحوال والبيئات.

  ومن العبث تحديد مستوى معين من النفقات لرجل، أو لأسرة، يقال: إن ما وراءه إسراف.  فربَّ ضرورة لشخص تعتبر ترفاً لشخص آخر... 

إن الحالة النفسية هي الحكم الفذ في هذه الظروف، ولذلك يوصى ابن عطاء الله بتقليل ما نفرح به إجراء لمطالب المرء في أضيق نطاق، حتى إذا مسته وعكات الجهاد لم يكن هناك ما يستدعي الأسى...

 والواقع أن الفقر والغنى أخلاق نفسية قبل أن يكون أعراضاً دنيوية.

 فكم من ذي مال يبيت مؤرَّقاً وراء المزيد، شاعراً بالفقر، لأنَّ كل ما يَطلب لم يتحقق له.

 وكم من مُقلّ بات قرير العين لأنه يرى ما لديه كافياً شافياً، ولذلك يقول الشاعر:

 غنى النفس ما يكفيك من سد خلة=فإن زدت شيئا عاد ذاك الغنى فقرا 

وفى تجاربنا مع الناس رأينا نقائض تستدعى التأمل... 

هذا رجل له مال وبنون، طال أجله، وأدبر شبابه، وكان يجب أن يتهيأ للآخرة بزاد الحسن.  إنه لو قتل في سبيل الله ما ترك وراءه شيئا يخاف عليه، لا الزوجة العجوز ولا الأولاد الكبار.

 ومع هذا فإنه شيطان أخرس، يفْرَق من كلمة حق، ويوجل من موقف شرف، ويتشبث بأذيال الحياة طالبا المزيد!!  على حين رأينا شباباً لهم آمال ، وعليهم أعباء، ومثلهم لو توثقت علائقه بالدنيا ما كان في سيرتهم عجب.  ومع هذا يذهلون عن الدنيا المقبلة، ويتركون الذرية الضعاف لكفالة الله، ويقبلون على مواقف الاستشهاد بنبل وجلال.

 إن الأحوال النفسيَّة، لا مستويات المعيشة، هي التي تصنع الناس.  وإذا كان لهذه المستويات عمل فهو أنها عنصر مساعد، أو لعل هذه المستويات هي التربة التي تنضج شتى البذور، فتبلغ بالورد تمامه، وبالشوك منتهاه من غير أن تخرج بعنصر عن طبيعته...  إننا نسمع صراخاً طويلاً لرفع مستوى المعيشة، وأنا بين الذين رفعوا عقائرهم بقوة لمحاربة البؤس والمسكنة.  ولكن يجب أن يفهم الماديون أن الحياة الإنسانية الآن أفقر إلى الأخلاق منها إلى الأرزاق، وأفقر إلى تقدير قيمها الروحية منها إلى تقدير قيمها المادية، وأفقر إلى ذكر الله منها إلى ذكر ما سواه.

 وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

 من كتاب الجانب العاطفي من الإسلام.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين