في تنظيم الإحسان طمأنينة المحسنين

 

 

قال الله تعالى:[لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ] {البقرة:273}.

جدَّت في هذه السنة حركة نرجو أن يكون فيها للأمة خير وبركة، تلك حركة مقاومة التسول الصناعي، الذي ابتليت به الأمة في فئة من أبنائها، انحطت نفوسهم وفقدوا الكرامة والعزة، وذهب عنهم الإحساس بشيء يسمى شمماً أو إباءً، أو شرفاً أو عفة، فلم يكن لهم همٌّ إلا في إحراز ما في يد الغير بلا مقابل، سوى الظهور بمظهر العجز والفقر والمسكنة، يصرفون من التفكير في ابتكار الأساليب الخداعة ما يستدر الدموع من العيون رحمة بهم، ويدر الأكف بالصدقات إحساناً إليهم، ويبقى الناس في عماية من أمرهم، وجهل بدخيلة حالهم، حتى ينقضى عمر أحدهم ـ وما أطول أعمارهم ـ فيتكشف الأمر عن ثروة متنوعة من مال مختلف الأشكال، ما بين فلوس صغيرة، ونقود ذهبية، وفضيلة وفيرة، وأوراق مالية كثيرة، وأمتعة مختلفة الأشكال لا تجمعها رابطة، ولا يأتلف منها قديم بجديد.

بلى: وقد يظهر مع هذا كله عقارات ثمينة، وعمارت شاهقة، فيدرك الناس أمران لا مفر منهما: دهش يملك عليهم تفكيرهم، وندم على ما أعطوا لأولئك الخداعين المغررين يملك عليهم أيديهم، فلا تطاوعهم بعدها بعطاء لمن يظهر بمظهر المسكنة، بل نرى الكثير من المحسنين يكون أكثر ما يكون إساءة ظن بالمستجدي متى رأى أثر المبالغة في إظهاره المسكنة، وهنا ينجم شران مستطيران: أشدهما: قبض يد الإحسان عن المستحقين الحقيقيين، وثانيهما: ظهور هؤلاء المتسكعين بالمظهر المشوه للمجموع الإنساني، المصور للأمة بصورة شنيعة، من فقد الشفقة، وانحلال الرابطة.

من هذا كله كان نظر العقلاء وأهل الخير إلى مشروع قانون التسول نظر اغتباط ورضا، نظر ارتياح واستحسان. وإنا لنرجو من هذا الاغتباط والرضا، من هذا الارتياح والاستحسان، أن يكون مصدر خير عظيم لإمداد مشروعات الملاجئ الخيرية، التي أعدت لإيواء من يثبت أنهم مستحقون للإحسان استحقاقاً صادقاً، وأنهم عاجزون عن الكسب عجزاً حقيقياً، أولئك الذين لايستطيعون ضرباً في الأرض ومنهم من يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف، وهم أقل أولئك التعساء حظاً من الإحسان، لأنهم لا يسألون الناس إلحافاً، وقد بدت عليهم آثار المتربة، بل المخمصة. فمن تتبع حالهم عرفهم بسيماهم معرفة صحيحة، لا  تلبيس فيها ولا تدليس.

هذا هو تنظيم الإحسان، وهذا هو باب الطمأنينة للمحسنين على أن إحسانهم قد صادف محلاً، وأن برَّهم قد لاقى موضع الحاجة، وذلك أكبر ما يعني المحسن في إحسانه.

ولقد ينقطع بذلك تعلل المتعللين في قبض أيدهم عن الخير بقولهم: وما يدريك فلعل الذي يستجديك هو أغنى منك وأثرى! وكيف كنا، لومهم وقد تفنن الناس في الأقاصيص عنهم بالحق وبالباطل، بما ملأ النفوس اشمئزازاً من تلك الفئة وقسوة عليها، وقد يكون ذلك في بعضهم لا في أكثرهم، ولكن الشك إذا دخل نفس المحسن كان قبض اليد أقرب إليه من بسطها. وإن حادثة واحدة تنشرها صحيفة يومية عن مستجد خلَّف ثروة كبيرة، لكافية لاختلاق مائة قصة تشبهها، من قديم وجديد، من خيال مختلق، بتفنن متقن، ومن حادثة حقيقية. والنفوس مولعة بالإصغاء للمستغربات.

وإن أمارة تمكن الخير من نفوس الأمة وتأصل عاطفة الإحسان فيها، أن تُقبل على إمداد هذه الأعمال الخيرية المحضة، سواء منها الملاجئ المستجدة أو القديمة، أو مطاعم الشعب التي أغدقت على كثير من البؤساء الذين لا تكاد أيديهم تصل إلى عمل منتج يبرون به  أنفسهم وأولادهم، ولو أن عظماءنا سمحوا لأنفسهم الفينة بعد الفينة في تعرّف حال العاملين في بعض المهن الشاقة الضعيفة الإنتاج، لرأوا فيهم باباً واسعاً للشفقة والرأفة، وخير أن يكون برهم عن طريق فيه حفظ لكرامتهم نوعاً ما، أو على الأقل فيه السلامة من تعويدهم الاستجداء الذي متى ذاقوه استمرأوه وأكبوا عليه، فلا ترتفع رأسهم لعمل نافع، ولا لحفظ كرامة.

ولنُشعر أنفسنا في كل حال أن هذا العطف والبر بالفقير على ذلك الوجه الجميل يتضمن معنى مما يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً ) وكفى بالتساند في أصل العيش وضرورة الحياة شداً لبناء الأمم، وتمتينا لصلاتها، نسأله جلَّت قدرته أن يوفق الجميع إلى ما فيه رضاه، والله المستعان. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 

المصدر: مجلة نور الإسلام العدد 36، جمادى الثانية 1352هـ. 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين