في ظلال آيات

«قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ، فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ، فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ. هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ» ..

إن القرآن ليربط ماضي البشرية بحاضرها، وحاضرها بماضيها، فيشير من خلال ذلك كله إلى مستقبلها.

وهؤلاء العرب الذين وجه إليهم القول أول مرة لم تكن حياتهم، ولم تكن معارفهم، ولم تكن تجاربهم- قبل الإسلام- لتسمح لهم بمثل هذه النظرة الشاملة. لولا هذا الإسلام- وكتابه القرآن- الذي أنشأهم به الله نشأة أخرى، وخلق به منهم أمة تقود الدنيا..

إن النظام القبلي الذي كانوا يعيشون في ظله، ما كان ليقود تفكيرهم إلى الربط بين سكان الجزيرة وما جريات حياتهم فضلاً على الربط بين سكان هذه الأرض وأحداثها، فضلاً على الربط بين الأحداث العالمية والسنن الكونية التي تجري وفقها الحياة جميعاً.. وهي نقلة بعيدة لم تنبع من البيئة، ولم تنشأ من مقتضيات الحياة في ذلك الزمان! إنما حملتها إليهم هذه العقيدة. بل حملتهم إليها! وارتقت بهم إلى مستواها، في ربع قرن من الزمان. على حين أن غيرهم من معاصريهم لم يرتفعوا إلى هذا الأفق من التفكير العالي إلا بعد قرون وقرون ولم يهتدوا إلى ثبات السنن والنواميس الكونية، إلا بعد أجيال وأجيال.. فلما اهتدوا إلى ثبات السنن والنواميس نسوا أن معها كذلك طلاقة المشيئة الإلهية، وأنه إلى الله تصير الأمور.. فأما هذه الأمة المختارة فقد استيقنت هذا كله، واتسع له تصورها، ووقع في حسها التوازن بين ثبات السنن وطلاقة المشيئة، فاستقامت حياتها على التعامل مع سنن الله الثابتة والاطمئنان- بعد هذا- إلى مشيئته الطليقة! «قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ» ..

وهي هي التي تحكم الحياة. وهي هي التي قررتها المشيئة الطليقة. فما وقع منها في غير زمانكم فسيقع مثله- بمشيئة الله- في زمانكم، وما انطبق منها على مثل حالكم فهو كذلك سينطبق على حالكم.

«فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ» ..

فالأرض كلها وحدة. والأرض كلها مسرح للحياة البشرية. والأرض والحياة فيها كتاب مفتوح تتملاه الأبصار والبصائر.

«فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ» ..

وهي عاقبة تشهد بها آثارهم في الأرض، وتشهد بها سيرهم التي يتناقلها خلفهم هناك.. ولقد ذكر القرآن الكريم كثيراً من هذه السير ومن هذه الآثار في مواضع منه متفرقة. بعضها حدد مكانه وزمانه وشخوصه.

وبعضها أشار إليه بدون تحديد ولا تفصيل.. وهنا يشير هذه الإشارة المجملة ليصل منها إلى نتيجة مجملة:

إن ما جرى للمكذبين بالأمس سيجري مثله للمكذبين اليوم وغداً. ذلك كي تطمئن قلوب الجماعة المسلمة إلى العاقبة من جهة. وكي تحذر الانزلاق مع المكذبين من جهة أخرى. وقد كان هنالك ما يدعو إلى الطمأنينة وما يدعو إلى التحذير. وفي السياق سيرد من هذه الدواعي الكثير.

 وعلى إثر بيان هذه السنة يتجاوب النداء للعظة والعبرة بهذا البيان:

«هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ، وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ» ..

هذا بيان للناس كافة. فهو نقلة بشرية بعيدة ما كان الناس ببالغيها لولا هذا البيان الهادي. ولكن طائفة خاصة هي التي تجد فيه الهدى، وتجد فيه الموعظة، وتنتفع به وتصل على هداه.. طائفة «المتقين» ..

إن الكلمة الهادية لا يستشرفها إلا القلب المؤمن المفتوح للهدى. والعظة البالغة لا ينتفع بها إلا القلب التقي الذي يخفق لها ويتحرك بها.. والناس قلما ينقصهم العلم بالحق والباطل، وبالهدى والضلال.. إن الحق بطبيعته من الوضوح والظهور بحيث لا يحتاج إلى بيان طويل. إنما تنقص الناس الرغبة في الحق، والقدرة على اختيار طريقه.. والرغبة في الحق والقدرة على اختيار طريقه لا ينشئهما إلا الإيمان، ولا يحفظهما إلا التقوى.. ومن ثم تتكرر في القرآن أمثال هذه التقريرات. تنص على أن ما في هذا الكتاب من حق، ومن هدى، ومن نور، ومن موعظة، ومن عبرة.. إنما هي للمؤمنين وللمتقين. فالإيمان والتقوى هما اللذان يشرحان القلب للهدى والنور والموعظة والعبرة. وهما اللذان يزينان للقلب اختيار الهدى والنور والانتفاع بالموعظة والعبرة.. واحتمال مشقات الطريق.. وهذا هو الأمر، وهذا هو لب المسألة.. لا مجرد العلم والمعرفة.. فكم ممن يعلمون ويعرفون، وهم في حمأة الباطل يتمرغون. إما خضوعاً لشهوة لا يجدي معها العلم والمعرفة، وإما خوفاً من أذى ينتظر حملة الحق وأصحاب الدعوة! وبعد هذا البيان العريض يتجه إلى المسلمين بالتقوية والتأسية والتثبيت:

«وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ. إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» ..

لا تهنوا- من الوهن والضعف- ولا تحزنوا- لما أصابكم ولما فاتكم- وأنتم الأعلون.. عقيدتكم أعلى فأنتم تسجدون لله وحده، وهم يسجدون لشيء من خلقه أو لبعض من خلقه! ومنهجكم أعلى. فأنتم تسيرون على منهج من صنع الله، وهم يسيرون على منهج من صنع خلق الله! ودوركم أعلى. فأنتم الأوصياء على هذه البشرية كلها، الهداة لهذه البشرية كلها، وهم شاردون عن النهج، ضالون عن الطريق. ومكانكم في الأرض أعلى، فلكم وراثة الأرض التي وعدكم الله بها، وهم إلى الفناء والنسيان صائرون.. فإن كنتم مؤمنين حقاً فأنتم الأعلون. وإن كنتم مؤمنين حقاً فلا تهنوا ولا تحزنوا. فإنما هي سنة الله أن تصابوا وتصيبوا، على أن تكون لكم العقبى بعد الجهاد والابتلاء والتمحيص:

«إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ. وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ. وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا، وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ. وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ. وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ» ..

وذكر القرح الذي أصابهم وأصاب المكذبين قرح مثله، قد يكون إشارة إلى غزوة بدر. وقد مس القرح فيها المشركون وسلم المسلمون. وقد يكون إشارة إلى غزوة أحد. وقد انتصر فيها المسلمون في أول الأمر. حتى هزم المشركون وقتل منهم سبعون، وتابعهم المسلمون يضربون أقفيتهم حتى لقد سقط علم المشركين في ثنايا المعركة فلم يتقدم إليه منهم أحد. حتى رفعته لهم امرأة فلاثوا بها وتجمعوا عليها.. ثم كانت الدولة للمشركين، حينما خرج الرماة على أمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- واختلفوا فيما بينهم. فأصاب المسلمين ما أصابهم في نهاية المعركة. جزاء وفاقاً لهذا الاختلاف وذلك الخروج، وتحقيقاً لسنة من سنن الله التي لا تتخلف، إذ كان اختلاف الرماة وخروجهم ناشئين من الطمع في الغنيمة. والله قد كتب النصر في معارك الجهاد لمن يجاهدون في سبيله، لا ينظرون إلى شيء من عرض هذه الدنيا الزهيد. وتحقيقاً كذلك لسنة أخرى من سنن الله في الأرض، وهي مداولة الأيام بين الناس- وفقاً لما يبدو من عمل الناس ونيتهم- فتكون لهؤلاء يوماً ولأولئك يوماً. ومن ثم يتبين المؤمنون ويتبين المنافقون. كما تتكشف الأخطاء. وينجلي الغبش.

«إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ. وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ.. وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا» ..

إن الشدة بعد الرخاء، والرخاء بعد الشدة، هما اللذان يكشفان عن معادن النفوس، وطبائع القلوب، ودرجة الغبش فيها والصفاء، ودرجة الهلع فيها والصبر، ودرجة الثقة فيها بالله أو القنوط، ودرجة الاستسلام فيها لقدر الله أو البرم به والجموح! عندئذ يتميز الصف ويتكشف عن: مؤمنين ومنافقين، ويظهر هؤلاء وهؤلاء على حقيقتهم، وتتكشف في دنيا الناس دخائل نفوسهم. ويزول عن الصف ذلك الدخل وتلك الخلخلة التي تنشأ من قلة التناسق بين أعضائه وأفراده، وهم مختلطون مبهمون! والله سبحانه يعلم المؤمنين والمنافقين. والله سبحانه يعلم ما تنطوي عليه الصدور. ولكن الأحداث ومداولة الأيام بين الناس تكشف المخبوء، وتجعله واقعاً في حياة الناس، وتحول الإيمان إلى عمل ظاهر، وتحول النفاق كذلك إلى تصرف ظاهر، ومن ثم يتعلق به الحساب والجزاء. فالله سبحانه لا يحاسب الناس على ما يعلمه من أمرهم ولكن يحاسبهم على وقوعه منهم.

ومداولة الأيام، وتعاقب الشدة والرخاء، محك لا يخطئ، وميزان لا يظلم. والرخاء في هذا كالشدة.

وكم من نفوس تصبر للشدة وتتماسك، ولكنها تتراخى بالرخاء وتنحل. والنفس المؤمنة هي التي تصبر للضراء ولا تستخفها السراء، وتتجه إلى الله في الحالين، وتوقن أن ما أصابها من الخير والشر فبإذن الله.

وقد كان الله يربي هذه الجماعة- وهي في مطالع خطواتها لقيادة البشرية- فرباها بهذا الابتلاء بالشدة بعد الابتلاء بالرخاء، والابتلاء بالهزيمة المريرة بعد الابتلاء بالنصر العجيب- وإن يكن هذا وهذه قد وقعا وفق أسبابهما ووفق سنن الله الجارية في النصر والهزيمة. لتتعلم هذه الجماعة أسباب النصر والهزيمة. ولتزيد طاعة لله، وتوكلاً عليه، والتصاقاً بركنه. ولتعرف طبيعة هذا المنهج وتكاليفه معرفة اليقين.

ويمضي السياق يكشف للأمة المسلمة عن جوانب من حكمة الله فيما وقع من أحداث المعركة، وفيما وراء مداولة الأيام بين الناس، وفيما بعد تمييز الصفوف، وعلم الله للمؤمنين:

«وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ» ..

وهو تعبير عجيب عن معنى عميق- إن الشهداء لمختارون. يختارهم الله من بين المجاهدين، ويتخذهم لنفسه- سبحانه- فما هي رزية إذن ولا خسارة أن يستشهد في سبيل الله من يستشهد. إنما هو اختيار وانتقاء، وتكريم واختصاص.. إن هؤلاء هم الذين اختصهم الله ورزقهم الشهادة، ليستخلصهم لنفسه- سبحانه- ويخصهم بقربه.

ثم هم شهداء يتخذهم الله، ويستشهدهم على هذا الحق الذي بعث به للناس. يستشهدهم فيؤدون الشهادة.

يؤدونها أداء لا شبهة فيه، ولا مطعن عليه، ولا جدال حوله. يؤدونها بجهادهم حتى الموت في سبيل إحقاق هذا الحق، وتقريره في دنيا الناس. يطلب الله- سبحانه- منهم أداء هذه الشهادة، على أن ما جاءهم من عنده الحق، وعلى أنهم آمنوا به، وتجردوا له، وأعزوه حتى أرخصوا كل شيء دونه وعلى أن حياة الناس لا تصلح ولا تستقيم إلا بهذا الحق وعلى أنهم هم استيقنوا هذا، فلم يألوا جهداً في كفاح الباطل وطرده من حياة الناس، وإقرار هذا الحق في عالمهم وتحقيق منهج الله في حكم الناس.. يستشهدهم الله على هذا كله فيشهدون. وتكون شهادتهم هي هذا الجهاد حتى الموت. وهي شهادة لا تقبل الجدال والمحال! وكل من ينطق بالشهادتين: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. لا يقال له إنه شهد، إلا أن يؤدي مدلول هذه الشهادة ومقتضاها. ومدلولها هو ألا يتخذ إلا الله إليها. ومن ثم لا يتلقى الشريعة إلا من الله. فأخص خصائص الألوهية التشريع للعباد وأخص خصائص العبودية التلقي من الله.. ومدلولها كذلك ألا يتلقى من الله إلا عن محمد بما أنه رسول الله. ولا يعتمد مصدراً آخر للتلقي إلا هذا المصدر..

ومقتضى هذه الشهادة أن يجاهد إذن لتصبح الألوهية لله وحده في الأرض، كما بلغها محمد- صلى الله عليه وسلم- فيصبح المنهج الذي أراده الله للناس، والذي بلغه عنه محمد- صلى الله عليه وسلم- هو المنهج السائد والغالب والمطاع، وهو النظام الذي يصرّف حياة الناس كلها بلا استثناء.

فإذا اقتضى هذا الأمر أن يموت في سبيله، فهو إذن شهيد. أي شاهد طلب الله إليه أداء هذه الشهادة فأداها. واتخذه الله شهيداً.. ورزقه هذا المقام.

هذا فقه ذلك التعبير العجيب:

«وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ..» ..

وهو مدلول شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ومقتضاه.. لا ما انتهى إليه مدلول هذه الشهادة من الرخص والتفاهة والضياع! «وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ» ..

والظلم كثيراً ما يذكر في القرآن ويراد به الشرك. بوصفه أظلم الظلم وأقبحه. وفي القرآن: «إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ» .. وفي الصحيحين عن ابن مسعود: أنه قال: قلت: يا رسول الله. أي الذنب أعظم؟ قال:

«أن تجعل لله ندا وهو خلقك ... » ..

وقد أشار السياق من قبل إلى سنة الله في المكذبين فالآن يقرر أن الله لا يحب الظالمين. فهو توكيد في صورة أخرى لحقيقة ما ينتظر المكذبين الظالمين الذين لا يحبهم الله. والتعبير بأن الله لا يحب الظالمين، يثير في نفس المؤمن بغض الظلم وبغض الظالمين. وهذه الإثارة في معرض الحديث عن الجهاد والاستشهاد، لها مناسبتها الحاضرة. فالمؤمن إنما يبذل نفسه في مكافحة ما يكرهه الله ومن يكرهه. وهذا هو مقام الاستشهاد، وفي هذا تكون الشهادة ومن هؤلاء يتخذ الله الشهداء..

 ثم يمضي السياق القرآني يكشف عن الحكمة الكامنة وراء الأحداث، في تربية الأمة المسلمة وتمحيصها وإعدادها لدورها الأعلى، ولتكون أداة من أدوات قدره في محق الكافرين، وستاراً لقدرته في هلاك المكذبين:

«وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ» ..

والتمحيص درجة بعد الفرز والتمييز. التمحيص عملية تتم في داخل النفس، وفي مكنون الضمير.. إنها عملية كشف لمكنونات الشخصية، وتسليط الضوء على هذه المكنونات. تمهيداً لإخراج الدخل والدغل والأوشاب، وتركها نقية واضحة مستقرة على الحق، بلا غبش ولا ضباب..

وكثيراً ما يجهل الإنسان نفسه، ومخابئها ودروبها ومنحنياتها. وكثيراً ما يجهل حقيقة ضعفها وقوتها، وحقيقة ما استكن فيها من رواسب، لا تظهر إلا بمثير! وفي هذا التمحيص الذي يتولاه الله- سبحانه- بمداولة الأيام بين الناس بين الشدة والرخاء، يعلم المؤمنون من أنفسهم ما لم يكونوا يعلمونه قبل هذا المحك المرير: محك الأحداث والتجارب والمواقف العملية الواقعية.

ولقد يظن الإنسان في نفسه القدرة والشجاعة والتجرد والخلاص من الشح والحرص.. ثم إذا هو يكشف- على ضوء التجربة العملية، وفي مواجهة الأحداث الواقعية- إن في نفسه عقابيل لم تمحص. وأنه لم يتهيألمثل هذا المستوى من الضغوط! ومن الخير أن يعلم هذا من نفسه، ليعاود المحاولة في سبكها من جديد، على مستوى الضغوط التي تقضيها طبيعة هذه الدعوة، وعلى مستوى التكاليف التي تقتضيها هذه العقيدة! والله- سبحانه- كان يربي هذه الجماعة المختارة لقيادة البشرية، وكان يريد بها أمراً في هذه الأرض.

فمحصها هذا التمحيص، الذي تكشفت عنه الأحداث في أحد، لترتفع إلى مستوى الدور المقدر لها، وليتحقق على يديها قدر الله الذي ناطه بها:

«وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ» ..

تحقيقاً لسنته في دمغ الباطل بالحق متى استعلن الحق، وخلص من الشوائب بالتمحيص..

وفي سؤال استنكاري يصحح القرآن تصورات المسلمين عن سنة الله في الدعوات، وفي النصر والهزيمة، وفي العمل والجزاء. ويبين لهم أن طريق الجنة محفوف بالمكاره، وزاده الصبر على مشاق الطريق، وليس زاده التمني والأماني الطائرة التي لا تثبت على المعاناة والتمحيص:

«أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ، وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ. وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ. فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ» ..

إن صيغة السؤال الاستنكارية يقصد بها إلى التنبيه بشدة إلى خطأ هذا التصور: تصور أنه يكفي الإنسان أن يقولها كلمة باللسان: أسلمت وأنا على استعداد للموت. فيبلغ بهذه الكلمة أن يؤدي تكاليف الإيمان، وأن ينتهي إلى الجنة والرضوان! إنما هي التجربة الواقعية، والامتحان العملي. وإنما هو الجهاد وملاقاة البلاء، ثم الصبر على تكاليف الجهاد، وعلى معاناة البلاء.

وفي النص القرآني لفتة ذات مغزى:

«وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ» .. «وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ» ..

فلا يكفي أن يجاهد المؤمنون. إنما هو الصبر على تكاليف هذه الدعوة أيضاً. التكاليف المستمرة المتنوعة التي لا تقف عند الجهاد في الميدان. فربما كان الجهاد في الميدان أخف تكاليف هذه الدعوة التي يُطلب لها الصبر، ويختبر بها الإيمان. إنما هنالك المعاناة اليومية التي لا تنتهي: معاناة الاستقامة على أفق الإيمان. والاستقرار على مقتضياته في الشعور والسلوك، والصبر في أثناء ذلك على الضعف الإنساني: في النفس وفي الغير، ممن يتعامل معهم المؤمن في حياته اليومية. والصبر على الفترات التي يستعلي فيها الباطل وينتفش ويبدو كالمنتصر! والصبر على طول الطريق وبعد الشقة وكثرة العقبات. والصبر على وسوسة الراحة وهفوة النفس لها في زحمة الجهد والكرب والنضال. والصبر على أشياء كثيرة ليس الجهاد في الميدان إلا واحداً منها، في الطريق المحفوف بالمكاره. طريق الجنة التي لا تنال بالأمانيّ وبكلمات اللسان! «وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ. فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ» ..

وهكذا يقفهم السياق وجهاً لوجه مرة أخرى أمام الموت الذي واجهوه في المعركة، وقد كانوا من قبل يتمنون لقاءه. ليوازنوا في حسهم بين وزن الكلمة يقولها اللسان، ووزن الحقيقة يواجهها في العيان. فيعلمهم بهذا أن يحسبوا حساباً لكل كلمة تطلقها ألسنتهم، ويزنوا حقيقة رصيدها الواقعي في نفوسهم، على ضوء ما واجهوه من حقيقتها حين واجهتهم! وبذلك يقدرون قيمة الكلمة، وقيمة الأمنية، وقيمة الوعد، في ضوء الواقع الثقيل! ثم يعلمهم أن ليست الكلمات الطائرة، والأماني المرفرفة هي التي تبلغهم الجنة، إنما هو تحقيق الكلمة، وتجسيم الأمنية، والجهاد الحقيقي، والصبر على المعاناة. حتى يعلم الله منهم ذلك كله واقعاً كائناً في دنيا الناس! ولقد كان الله- سبحانه- قادراً على أن يمنح النصر لنبيه ولدعوته ولدينه ولمنهجه منذ اللحظة الأولى، وبلا كد من المؤمنين ولا عناء. وكان قادراً أن ينزل الملائكة تقاتل معهم- أو بدونهم- وتدمر على المشركين، كما دمرت على عاد وثمود وقوم لوط..

ولكن المسألة ليست هي النصر.. إنما هي تربية الجماعة المسلمة، التي تعد لتتسلم قيادة البشرية.. البشرية بكل ضعفها ونقصها وبكل شهواتها ونزواتها وبكل جاهليتها وانحرافها.. وقيادتها قيادة راشدة تقتضي استعداداً عالياً من القادة. وأول ما تقتضيه صلابة في الخلق، وثبات على الحق، وصبر على المعاناة، ومعرفة بمواطن الضعف ومواطن القوة في النفس البشرية، وخبرة بمواطن الزلل ودواعي الانحراف، ووسائل العلاج..

ثم صبر على الرخاء كالصبر على الشدة. وصبر على الشدة بعد الرخاء. وطعمها يومئذ لاذع مرير! ..

وهذه التربية هي التي يأخذ الله بها الجماعة المسلمة حين يأذن بتسليمها مقاليد القيادة، ليعدها بهذه التربية للدور العظيم الهائل الشاق، الذي ينوطه بها في هذه الأرض. وقد شاء- سبحانه- أن يجعل هذا الدور من نصيب «الإنسان» الذي استخلفه في هذا الملك العريض! وقدر الله في إعداد الجماعة المسلمة للقيادة يمضي في طريقه، بشتى الأسباب والوسائل، وشتى الملابسات والوقائع.. يمضي أحياناً عن طريق النصر الحاسم للجماعة المسلمة، فتستبشر، وترتفع ثقتها بنفسها- في ظل العون الإلهي- وتجرب لذة النصر، وتصبر على نشوته، وتجرب مقدرتها على مغالبة البطر والزهو والخيلاء، وعلى التزام التواضع والشكر لله.. ويمضي أحياناً عن طريق الهزيمة والكرب والشدة. فتلجأ إلى الله، وتعرف حقيقة قوتها الذاتية، وضعفها حين تنحرف أدنى انحراف عن منهج الله. وتجرب مرارة الهزيمة وتستعلي مع ذلك على الباطل، بما عندها من الحق المجرد وتعرف مواضع نقصها وضعفها، ومداخل شهواتها، ومزالق أقدامها فتحاول أن تصلح من هذا كله في الجولة القادمة.. وتخرج من النصر ومن الهزيمة بالزاد والرصيد.. ويمضي قدر الله وفق سنته لا يتخلف ولا يحيد..

وقد كان هذا كله طرفاً من رصيد معركة أحد الذي يحشده السياق القرآني للجماعة المسلمة- على نحو ما نرى في هذه الآيات- وهو رصيد مدخر لكل جماعة مسلمة ولكل جيل من أجيال المسلمين.

ثم يمضي السياق في تقرير حقائق التصور الإسلامي الكبيرة وفي تربية الجماعة المسلمة بهذه الحقائق متخذاً من أحداث المعركة محوراً لتقرير تلك الحقائق ووسيلة لتربية الجماعة المسلمة بها على طريقة المنهج القرآني الفريد:

«وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ. أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ؟ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ»

إن الآية الأولى في هذه الفقرة تشير إلى واقعة معينة، حدثت في غزوة أحد. ذلك حين انكشف ظهر المسلمين بعد أن ترك الرماة أماكنهم من الجبل، فركبه المشركون، وأوقعوا بالمسلمين، وكسرت رباعية الرسول صلى الله عليه وسلم- وشج وجهه، ونزفت جراحه وحين اختلطت الأمور، وتفرق المسلمون، لا يدري أحدهم مكان الآخر.. حينئذ نادى مناد: إن محمداً قد قتل.. وكان لهذه الصيحة وقعها الشديد على المسلمين.

فانقلب الكثيرون منهم عائدين إلى المدينة، مصعدين في الجبل منهزمين، تاركين المعركة يائسين.. لولا أن ثبت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في تلك القلة من الرجال وجعل ينادي المسلمين وهم منقلبون، حتى فاءوا إليه، وثبت الله قلوبهم، وأنزل عليهم النعاس أمنة منه وطمأنينة.. كما سيجيء..

فهذه الحادثة التي أذهلتهم هذا الذهول، يتخذها القرآن هنا مادة للتوجيه، ومناسبة لتقرير حقائق التصور الإسلامي ويجعلها محوراً لإشارات موحية في حقيقة الموت وحقيقة الحياة، وفي تاريخ الإيمان ومواكب المؤمنين:

«وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ. أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ؟ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً. وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ» ..

إن محمداً ليس إلا رسولاً. سبقته الرسل. وقد مات الرسل. ومحمد سيموت كما مات الرسل قبله..

هذه حقيقة أولية بسيطة. فما بالكم غفلتم عنها حينما وواجهتكم في المعركة؟! إن محمداً رسول من عند الله، جاء ليبلغ كلمة الله. والله باق لا يموت، وكلمته باقية لا تموت.. وما ينبغي أن يرتد المؤمنون على أعقابهم إذا مات النبي الذي جاء ليبلغهم هذه الكلمة أو قتل.. وهذه كذلك حقيقة أولية بسيطة غفلوا عنها في زحمة الهول. وما ينبغي للمؤمنين أن يغفلوا عن هذه الحقيقة الأولية البسيطة! إن البشر إلى فناء، والعقيدة إلى بقاء، ومنهج الله للحياة مستقل في ذاته عن الذين يحملونه ويؤدونه إلى الناس، من الرسل والدعاة على مدار التاريخ.. والمسلم الذي يحب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وقد كان أصحابه يحبونه الحب الذي لم تعرف له النفس البشرية في تاريخها كله نظيراً. الحب الذي يفدونه معه بحياتهم أن تشوكه شوكة. وقد رأينا أبا دجانة يترس عليه بظهره والنبل يقع فيه ولا يتحرك! ورأينا التسعة الذين أفرد فيهم ينافحون عنه ويستشهدون واحداً إثر واحد.. وما يزال الكثيرون في كل زمان وفي كل مكان يحبونه ذلك الحب العجيب بكل كيانهم، وبكل مشاعرهم، حتى ليأخذهم الوجد من مجرد ذكره- صلى الله عليه وسلم-.. هذا المسلم الذي يحب محمداً ذلك الحب، مطلوب منه أن يفرق بين شخص محمد- صلى الله عليه وسلم- والعقيدة التي أبلغها وتركها للناس من بعده، باقية ممتدة موصولة بالله الذي لا يموت.

إن الدعوة أقدم من الداعية:

«وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ» ..

قد خلت من قبله الرسل يحملون هذه الدعوة الضاربة في جذور الزمن، العميقة في منابت التاريخ، المبتدئة مع البشرية، تحدو لها بالهدى والسلام من مطالع الطريق.

وهي أكبر من الداعية، وأبقى من الداعية. فدعاتها يجيئون ويذهبون، وتبقى هي على الأجيال والقرون، ويبقى أتباعها موصولين بمصدرها الأول، الذي أرسل بها الرسل، وهو باق- سبحانه- يتوجه إليه المؤمنون..

وما يجوز أن ينقلب أحد منهم على عقبيه، ويرتد عن هدى الله. والله حي لا يموت

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين