من المهمّ جدّاً أن أنظر إلى أتباع الشرائع الثلاث بعينٍ
فضائيّةٍ مستقلّةٍ وموضوعيّة. وسيساعدني كثيراً للتوصّل إلى نتيجةٍ موضوعيّةٍ في
هذا الأمر أن أسأل نفسي أوّلاً:
هل اختار أتباعُ كلّ شريعةٍ شريعتَهم بأنفسهم حقّاً؟ هل
ولدتهم أمّهاتهم على غير شريعةٍ، ثمّ مُنحوا الفرصة ليكبروا وينضجوا فيدرسوا ما
حولهم من الشرائع قبل أن يتخّذوا قرارهم في اختيار الشريعة التي سيتبعونها؟ أم
حرموا أنفسهم من تلك الفرصة، ولم يمارسوا ذلك الحقّ المصيريّ؟
طبعاً، يولد الناس جميعاً على لا شيء أوّلاً، ثمّ يكبرون
ويترعرعون متشرّبين شريعة آبائهم تلقائيّاً عاماً بعد عام. فالبوذيّ هو كذلك لأنّه
اتّبع أبويه، والهندوسيّ هو كذلك لأنّه اتّبع أبويه، وكذلك المسلم السنّي، والمسلم
الشيعيّ، والمسيحيّ الأرثوذكسيّ، والمسيحيّ الكاثوليكيّ، واليهوديّ... إنّها لا
تعدو مسألة وراثةٍ لا خيار للمرء فيها غالباً! ويلخّص لنا هذه الحقيقة نبيّ
المسلمين في كلمات:
-
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَال: قَالَ
النَّبِيُّ (ص):
"مَا مِنْ مَوْلُودٍ
إلّا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ
وَيُنَصِّرَانِهِ..".
[متّفق
عليه، واللفظ للبخاري]
وبدهيٌّ أن يتشبّث أتباع كلٍّ من الشرائع الثلاث بشريعتهم
على أنّها وحدها الصحيحة بين باقي الشرائع. لقد ورثوها عن آبائهم، وسوف يعيشون ويموتون
عليها، ليحاسَبوا، كما يحاسَب آباؤهم، على انتمائهم لها في الحياة الآخرة، لهم أو
عليهم، ومن غير أن يبذلوا أدنى مجهودٍ فكريٍّ أو بحثٍ موضوعيٍّ، غالباً، ليتحقّقوا
فيما إذا كانوا أو كانت شريعتهم على صواب، وكانت الشريعتان الأخريان على خطأ؟ إنّها
القصّة الأزليّة نفسها التي ما زالت تتكرّر على مرّ الأجيال.
وإنّها لمسألةٌ مصيريّةٌ لكلّ صاحب شريعة، أيّة شريعة، حين
يبلغ سنّ النضج، وحتّى يحمي نفسه من أيّ خطأٍ فادحٍ وأبديٍّ محتمل، أن يجعل من
نفسه في هذا الموضوع باحثاً علميّاً، تماماً كأي باحثٍ جامعيٍّ رصين، ليس بهدف نيل
شهادةٍ عاليةٍ من إحدى الجامعات هذه المرّة، ولا لاكتشاف مادّةٍ، أو التوصّل إلى
علاجٍ، أو اختراع جهازٍ ما، أو صنع آلةٍ تنتفع منها البشريّة، بل ليضمن لنفسه
مصيراً أبديّاً آمناً بعد الموت!
ولن يتمّ مثل هذا النوع من البحث بشكلٍ علميٍّ سليمٍ
إلّا بأن ينتزع الباحث نفسه، افتراضيّاً، من داخل الصورة أو الشريعة التي هو عليها،
ثمّ ينظر إليها من الخارج متفحّصاً، ومقارناً لها مع باقي الشرائع. هذا وحده يمكن
أن يساعده على أن يرى بموضوعيّةٍ وتجرّدٍ ما لم يكن قادراً على رؤيته أو الحكم
عليه وهو داخل الصورة، وأن يجد إجاباتٍ عن مثل هذه الأسئلة الخطيرة:
1-
هل كنت أقف حقّاً في الموقع الصحيح والآمن من الصورة؟
2-
أين موضع الخطأ، أو ربّما الأخطاء، التي أصبح بإمكاني
الآن، وأنا خارج الصورة، أن أتبيّنها في الصورة، فأتجنّبها وأتخلّى عنها؟ وأين
مواضع الصواب فأوثّقها وأتقبّلها وأتبنّاها؟
3-
أين المواقع التي لا أملك دليلاً عقليّاً على صحّتها، أو
سأوصي بإعادة النظر في توثيقها أو بتعديلها في الصورة، أو ربّما بحذفها نهائيّاً
منها؟ وأين المواقع التي تبيّنتْ لي، بالبحث الموضوعيّ المجرّد، صحّتُها
ومنطقيّتها ومصداقيّتها؟
4-
لماذا كان عليّ ألّا أفكّر مطلقاً في الانتقال إلى
شريعةٍ أخرى؟ ما الخطأ في تلك الشرائع؟ وما دليلي العلميّ أو المنطقيّ أو
التوثيقيّ على ذلك؟
5-
وإذا كانت المسألة بمثل هذه الخطورة؛ فهل عليّ، وفي
أمرٍ مصيريٍّ كهذا، أن أتقبّل شريعة أبويّ، أيّاً كانت، لمجرّد أنّه صادف أن كنت
ابناً لهما، من غير أن أشغل نفسي كثيراً بالتحقّق من صحّتها؟ ماذا لو كان والداي
وآباؤهم وأجدادهم من قبلهم على خطأ؟
6-
إذا كان لا بدّ في النهاية من أن يكون أحد الفريقين على
خطأ: إمّا الوالدان وإمّا الآخرون، فلماذا يأتي الجواب دائماً وبلا تردّد: بل
الآخرون! نقولها هكذا بثقةٍ مطلقة، وربّما مع الشعور بالإشفاق على أولئك الآخرين، بل
ربّما السخرية منهم ومن "جهلهم"، ولكن من غير أن نفكّر بأنّ الآخرين،
أيضاً، يقولونها عنّا بمثل هذه الدرجة من الثقة والإشفاق والسخرية؟ وهل هناك مؤمنٌ
بدينٍ أو مذهبٍ أصلاً لا يكون على مثل هذه الدرجة نفسها من الثقة المطلقة بدينه أو
بمذهبه؟
7-
وإذن، إلى من أحتكم في أمر هاتين الثقتين المطلقتين المتناقضتين
المتصارعتين؟ وإن لم أسارع الآن للاحتكام إلى عقلي وبحثي وأدواتي العلميّة في أمرٍ
خطيرٍ ومصيريٍّ كهذا، فمتى؟
* * *
أخيراً، لو حدث لي، أنا الباحث الفضائيّ، وكنت واحداً من
أتباع هذه الشرائع الثلاث، أو أيّ مذهبٍ من مذاهبها، فكيف لي أن أمسك بالخيار
الصحيح، وأنعطف نحو الجانب الآمن والمضمون؟
حين أضع نفسي في مقعد هؤلاء؛ أجد أن لا مفرّ لي حقّاً من
الانسحاب خارج الصورة، والارتقاء بعيداً في أعالي الفضاء، لأنتهي هناك إلى مرصدي
فوق كوكبي النائي؛ أنظر منه إلى أهل الأرض، وإلى دياناتهم، وشرائعهم، ومذاهبهم،
فألتقطها بملقطي المعقّم، وأُدخلها إلى مخبري، وأسلّط عليها مجهري، وأضع أمامي على
الطاولة هذه الأسئلة المصيريّة التي لا بدّ أن تطرح نفسها على أتباع كلّ شريعةٍ أو
مذهبٍ لو أرادوا لأنفسهم نهايةً أبديّةً سعيدةً وآمنةً:
1-
هل
أنا متأكّدٌ مائةً بالمائة، بل مليوناً بالمائة، عقليّاً وحسابيّاً ومنطقيّاً،
أنّني ولدت على الدين أو الشريعة أو المذهب الصحيح؟ ولماذا أفترض ذلك؟
2-
هل
أنا واثقٌ مائةً بالمائة، بل مليوناً بالمائة، عقليّاً وحسابيّاً ومنطقيّاً، أنّ
الآخرين، كلّ الآخرين، ولدوا على الدين الخطأ؟ ولماذا أفترض ذلك؟
3-
صحيحٌ
أنّه ليس أمراً سيّئاً أن ألتزم بدينِ أبويَّ أو بمذهبهما، ولكن سيكون أمراً أكثر
من سيّء، بل أخطر بكثيرٍ ممّا أتصوّر، ألّا أضع ديني أو مذهبي حين أعي وأشبّ عن
الطوق؛ تحت مجهر العلم والعقل والمنطق، لأتأكّد، وبشكلٍ موضوعيٍّ جليّ، وقبل فوات
الأوان، أنّني أقف في الموقع الصحيح من الملعب؟
4-
ما
هو مقياسي الذي يمكن من خلاله أن أتأكّد ممّا إذا كانت شريعتي محض سماويّة، أم اختلطت
فيها أهواء البشر وأقوالهم مع كلمات السماء؟
5-
إن
كنتُ يهوديّاً، وكانت شريعتي تستند إلى مصدرين اثنين: قال الله، وقال موسى، كما
يجب أن تكون، فهل جاء في كتاب موسى ما يَدينُ أو يرفض أيّة شريعةٍ تأتي من بعده،
حتّى إن كانت هذه الشريعة الجديدة تؤكّد صحّة نبوّة موسى وسماويّة كتابه؟
6-
وإن
كنتُ مسيحيّاً؛ فهل جاء في كتاب المسيح ما يَدينُ أو يرفض أيّة شريعةٍ تأتي بعده،
حتّى إن كانت هذه الشريعة الجديدة تؤكّد صحّة نبوّته وسماويّة كتابه؟ وهل قال
المسيح حقّاً: إنّ كلّ من لا يصدّق بأنّني صُلِبت، أو من لا يصدّق بأنّني ابن
الله، بل اكتفى بالاعتقاد أنّني "رسولُ الله، وروحُه، وكلمتُه"، كما يقول نبيّ المسلمين،
سيُحرم من الجنّة ويخلد في جهنّم؟ وأين يقول المسيح هذا؟
7-
يؤكّد
كتاب المسلمين: أنّ الله {لم يَلِدْ ولَم يُولَد}،
ويؤكّد أنّهم {ما قَتَلُوهُ وما صَلَبُوهُ ولَكنْ
شُبِّهَ لهُم}، ويؤكّد أنّه: {كَفَرَ
الذين قالوا إنّ اللهَ ثالثُ ثلاثةٍ}، ثمّ يؤكّد المصير الحتميّ للذين
كفروا: {إنّ الذين كفروا في نارِ جهنّمَ خالدِين
فيها أبداً}، فمن منّا إذن، نحن الثلاثة، جديرٌ بأن يعيد حساباته،
ليتأكّد من أنّه يسير في الاتّجاه الصحيح، ويرسو على برّ الأمان؟
ولكنّ أكثر ما يحيّرني في أمر كتاب المسلمين على
الإطلاق، وقد حمل إلى الناس الرسالة السماويّة الأخيرة، هو إلحاحه العجيب على أهل
الشريعتين السابقتين أن يلتزموا على الأقلّ، إن أصرّوا على رفض الرسالة الجديدة،
بأحكام ما أُنزل إليهم من كتب: التوراة والإنجيل!
ولا أظنّ كتاباً لدينٍ ما غير كتاب الإسلام هذا؛ قد
امتلك مثل تلك الثقة الكبيرة بنفسه ليدعو أتباع شرائع أخرى سبقته للالتزام بما جاء
في كتبهم هم، وتطبيق أحكامها، فضلاً عن توثيقه لنبوّة كلّ الأنبياء الذين نصّت
عليهم كتبهم، بل توثيق تلك الكتب على أنّها بمثابة فصولٍ من كتابٍ واحد، وعلى أنّ
كتابه الجديد هو الفصل الأخير، والموثِّق والمؤكِّد لذلك الكتاب الكبير، وقد جاء
"مُصَدِّقًا لِّمَا
بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ":
-
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَىٰ شَيْءٍ حَتَّىٰ
تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ ۗ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن
رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا ۖ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [المائدة: 68]
-
وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ
اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ ۚ وَمَا
أُولَٰئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ ﴿٤٣﴾ إِنَّا
أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ ۚ يَحْكُمُ
بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ
وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِن كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ
شُهَدَاءَ ۚ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي
ثَمَنًا قَلِيلًا ۚ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ
الْكَافِرُونَ ﴿٤٤﴾ وَكَتَبْنَا
عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنفَ
بِالْأَنفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ ۚ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ ۚ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ
الظَّالِمُونَ ﴿٤٥﴾ وَقَفَّيْنَا
عَلَىٰ آثَارِهِم بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ
التَّوْرَاةِ ۖ وَآتَيْنَاهُ الْإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِّمَا
بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ ﴿٤٦﴾ وَلْيَحْكُمْ
أَهْلُ الْإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فِيهِ ۚ وَمَن
لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴿٤٧﴾ وَأَنزَلْنَا
إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ
وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ۖ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ ۚ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ۚ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَٰكِن
لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ ۖ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ۚ إِلَى
اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ
تَخْتَلِفُونَ ﴿٤٨﴾ [المائدة:
43-48]
التعليقات
يرجى تسجيل الدخول