قضية المرأة  -2-

 

 

 

-2-

قلت: إنَّ أكثر المتحمِّسين، والمتحمِّسات لإعطاء المرأة أكثر مما أوجبه الشرع والطبيعة لها، لا يحتكمون إلى نصوص الإسلام، وشرائعه، ولا يَعنيهم هذا الأمر في قليل أو كثير، بل إنَّ بعضهم يعمد إلى مُصادرة النصوص الدينيَّة تلميحاً أو تصريحاً، فإذا خطر لأحدهم أن يحتكم إلى نصٍّ ديني حاول أن يتعسَّف في فهمه، وأن يقسره قسراً على ما يُريد، وإن كان فقه الإسلام، وفقه اللغة العربية يأبيان ذلك.

ولعل من تجاهل التعاليم الدينية – في هذا الشأن – تجاهلاً خَبيثاً مقصوداً أن تطرح قضايا نصوص الدين فيها واضحة، وآراء الشرَّاح والفقهاء فيها معروفة ومدعَّمة بالأدلة، أقول: تطرح هذه القضايا للمناقشة كما تطرح مَسائل الأزياء ليقول فيها من يَعرف ومن لا يَعرف، بل ربما طُرحت ليؤخذ فيها رأي من لا يعرفون دون من يَعرفون.

طَرحت إحدى الصحف موضوع الطلاق والحضانة للمُناقشة، وأخذت في كل منهما رأي بعض الناس، فمن هم الذين أخذت آراءَهم، وسجَّلتها في تحقيقها الصحفي؟!.

لقد استعرضت في قضية الطلاق والحضانة آراء خمسة من مختلف أبناء الشعب:

وقد ظهر مما قاله هؤلاء أنَّ واحداً منهم لم يدرس دراسة دينية مُتخصِّصة ولم يَستند واحد منهم إلى نَصٍّ من نصوص الإسلام، ولا إلى رأي عالم من العلماء.

وقد اقترحت بعض الحكيمات أن ينصَّ على أنَّ الحضانة للأم دائماً وإلى الأبد ولا يسحب منها هذا الحق إلا في ظروف عصيبة كأن تنحرف أو يسوء سلوكها.

والصحيفة تفضَّلت فأبرزت الاقتراح كأنَّها تراه اقتراحاً عظيماً.

وما رأينا، ولا سمعنا أنَّ إنساناً جاداً، أو هيئة تحترم عقول الناس تلجأ في القضايا الخاصَّة إلى غير ذوي الاختصاص، فنحن لم نر – مثلاً – مسألة في الطب ناقشها غير الأطباء، ولا موضوعاً في الاقتصاد تكلَّم فيه غير الاقتصاديين، ولا مشكلة في الزراعة عُرضت على الطلاب أو الموظَّفين، فهل أمر القضايا الدينيَّة أهون من كل هذه الأمور؟!.

لا شك أنَّ هذا اتجاه خطير يشعر بأنَّ هذه القضايا التي هي من صميم الدين ليس من الضروري أن ننظر فيها نظرةً دينية وإنما ينبغي أن نستطلع فيها رأي عامَّة الناس لنعرف مدى حكمهم عليها، ولا علينا بعد ذلك إن كان الدين يُوافق آراء هؤلاء أو يخالفها وهو تجاهل غريب للدين في أمة هي – بحق – زعيمة للعالم الإسلامي.

ومما زاد الطين بلة أنَّ الصحيفة حين علَّقت على القانون الجديد للأحوال الشخصية رأت أنَّه لم يحقق نصراً إلا للرجل وحده، وذلك في مُعظم التعديلات.

وكأنَّ القوانين وُضعت لترضي هذا الفريق أو ذاك، أو لمجرَّد أن تكون نصراً لأحد الجنسين على الآخر، وكأنَّها لا تستمدُّ من الدين فينبغي أن توضع بحيث ترضى أو لا ترضى.

وما دام المقصود إرضاء المرأة فلن يجيء هذا القانون؛ لأنَّ المرأة العصريَّة لا يقف طموحها عند حدٍّ، وهي لن ترضى حتى تتساوى بالرجل في كل شيء، بل هي تريد أن تكون القوَّامة على الرجل.

وإذا استمرَّ الحال على هذا المنوال من ممالأة الكُتَّاب للمرأة، والبعد عن فقه الإسلام فلن يطول بنا الزمن حتى نرى المرأة تطالب بحقها في تعداد الأزواج.

وأنا لا أدري لماذا لا يرفع هؤلاء المطالبون بالمساواة التامة أيديَهم إلى الله تعالى يتضرَّعون إليه، ويطلبون منه أن يتفضَّل على المرأة فينبت لها لحية وشارباً؟!

ولا حاجة بي أن أقول: إنَّه ليس من حق هيئة من الهيئات أن تشرعَ للناس في أمور دينهم مالم تدرس هذه الأمور دراسة واعية مُستنيرة، وما لم تأخذ رأي رجال الدين فيما تدرس.

فإذا حدث، وتعدَّت هيئةٌ طورَها وقالت في شريعة الله بما لا تؤيِّده أصول هذه الشريعة، فإنَّها بذلك تزعزع الثقة فيها ولن يستمع أحد لما تقول.

وقد قرأت أنَّ دولةً من الدول سنَّت تشريعاً يحاكم من يطلق دون إذن القاضي أو يتزوج على زوجة أخرى، وهذا تجاهلٌ للحريَّة الدينيَّة التي منحها الإسلام لأتباعه ولن يشفع له أن رأياً قديماً من عالم أو فقيه قال به، فما كلُّ ما قيل يؤخذ به إذا لم يكن دليله قوياً واضحاً.

ومن العجيب أن نجد بعض الدول الغربية تميل إلى نظام تعدُّد الزوجات ويرى فيه بعض كُتَّابهم الحل الوحيد لمشكلة زيادة عدد الإناث عن الذكور، في حين نجد حكومة مسلمة تقيِّده!.

ونحن لا ندعو لتعدُّد الزوجات، ولكننا لا نحب أن يقف أحد في سبيل حرية المسلم وتبعة عمله عليه، ويكفي أن نبصِّره بالأضرار التي قد تعود عليه إذا أقدم على التعدُّد وهو غير قادر أن ينفق على أسرته، ثم له بعد ذلك ما يشاء.

كما نُدين بشدَّة أولئك العلماء الذين ينزلقون إرضاء (للبعض) فيقولون إنَّ تعدد الزوجات لا يكون إلا عند الضرورة، فليس في الإسلام هذا الشرط، بل إنَّ الإسلام يُبيح للرجل أن يتزوج على امرأته متى آنس في نفسه القدرة على الإنفاق والقدرة على العدل، ولقد نعلم أنَّ عدداً لا يحصى من الصحابة رضي الله عنهم ومن سلفنا الصالح عدَّدوا دون ضرورة.

وقد سبق أن قلت: إنَّ قضية المرأة من بين القضايا اتسمت بتنكُّر غريب لأحكام الإسلام، ولعل أظهر الموضوعات في ذلك موضع (تعدد الزوجات) فمنذ عابنا مُتعصبو الغربيين، بهذا التعدُّد، ونحن نحاول أن نظهر الإسلام أمامهم بمظهر البريء من هذه الوصمة التي يزعمونها، ومنذ ظهر سلطان المرأة ونحن نجاملها على حساب الدين في هذا الموضوع.

وأكثر الذين تكلموا في موضوع تعدد الزوجات أعطَوا لأنفسهم حقَّ المجتهد ولو كان كثير منهم لا يعرفون من الإسلام أكثر مما يعرفه المبتدئون من الطلاب.

والشبهة التي عشَّشت في رؤوسهم هي الجمع بين آيتي النساء الأولى التي تقول: [فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً] {النساء:3}، والثانية التي تقول: [وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ المَيْلِ] {النساء:129}.

ولهذه الشبهة ذهب بعضهم إلى أنَّ الشريعة الإسلاميَّة حرَّمت التعدد تحريماً باتاً، وذهب بعض المحترفين من الصحفيين على أنَّ ذلك رأي كثير من الفقهاء!.

ولعل القول يطول لو أعدنا ما قيل في الردِّ على هؤلاء، ولكن أمراً واحداً لا أدري كيف طووا أنفسهم عليه، ذلك أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم وتابعيهم والعلماء منذ الصدر الأول إلى يومنا هذا يقرءون هاتين الآيتين، ويجيزون التعدُّد قولاً وعملاً.

فهل فقه بعض المعاصرين ما لم يفقهه علماء المسلمين مدى أربعة عشر قرناً أو تزيد، وأنَّ واحداً من أولئك العلماء الأعلام ليعدل أقل تلاميذه علماً عشرات، بل مئات من هؤلاء الذين يُفتون بغير علم.

ومهما أنكرنا من قدرة أعداء الإسلام فلن نستطيعَ أن ننكرَ شيئاً واحداً، هو أنهم استطاعوا أن يُشيعوا البلبلة في فهم النصوص، وأن يُشكِّكوا بعض ضعفاء الإيمان في تعاليم دينهم، حتى تعدَّى ذلك إلى علماء الدين أنفسهم في قضية المرأة.

ولا تزال الدعوة مُستمرَّة، وحادَّة، ومُنحرفة في قضية المرأة، وآخر ما قرأناه مقالة لإحدى الكاتبات تدعو فيه إلى الاختلاط التام بين الفتيان والفتيات في كل مرحلة من مراحل الحياة، فعلى الأسرة أن تزيل رواسب الحريم، وأن تجمع بين الفتى والفتاة منذ الطفولة في صداقات عائليَّة، وتمكن لهذه الصداقات، وبذلك – كما قالت – يضمن لبنت السادسة عشر المتفتحة في مجتمعنا المتجانس انطلاقاً سوياً بلا أزمات، ولا تعقيدات.

وهكذا من أجل عيون التعقيدات المزعومة ينبغي أن نترك الأمر فوضى بين الفتيان والفتيات منذ الصغر، كأنه لا يكفي الاختلاط في الجامعة، بل ينبغي أن يكون في المدرسة الابتدائيَّة والإعداديَّة والثانوية، وفي البيوت، وفي المصنع والحقل وفي كل مكان وزمان.

وهذا آخر فلسفة المرأة المثقفة، وهذا علاجها الحاسم للأزمات التي تتعرَّض لها الفتاة في سنِّ المراهقة، أن نتركها تختلط بالشبان منذ الصغر.

وهذا كلام بطبيعة الحال لم يحسب أي حساب للآداب الدينيَّة، ولم تُلقِ صاحبتُه أيَّ بال للنصوص القرآنية، ولا شكَّ أنها تعرف هذه النصوص ولكنها عن عمد وعن قصد تريد أن تفهمنا أنَّ علاج بناتنا، وأبنائنا في غير السير على مُقتضى هذه النصوص.

ولعل من العبث أن أشرح لهذه الكاتبة ولغيرها ما جناه علينا وعلى غيرنا الاختلاط بين الفتيان والفتيات، ولكن الذي ينبغي أن تَعِيَه الكاتبة جيداً أنَّ الأزمات التي تتعرض لها الفتاة مهما كانت قاسية هي خير من أن تفقد الفتاة من الصغر شرفها.

والعجب من هؤلاء الصائحين والصائحات، لا يحلو لهم ولهنَّ كلام إلا في القضايا التي يكون في الدفاع عنها مُخالفة لقواعد الإسلام، أما حين تكون للمرأة قضية عادلة تؤيِّدها النصوص الصريحة في الدين، فإنهم وإنهنَّ لا يَلتفتون لهذه القضية، ربما لأنَّه ليس فيها ما يشبع الرغبة في التنكر لشرائع الله تعالى.

المرأة في الريف – وبخاصة ريف الصعيد – لا تنالُ حقَّها الشرعي من ميراث أبيها أو أمها، أو إخوتها، وإذا تطلَّعت واحدة إلى أخذ ميراثها جرت المساومات والمشاورات، وعقدت المجالس العرفيَّة لغرض واحد هو أن تتنازل المرأة عن نصيبها كله، أو بعضه، و ينتهي كل ذلك إلى أن تأخذ (ترضية) قد تكون خُمُسَ حقِّها أو أقل، ثم بعد ذلك يجفوها أخوتها، ويعتبرونها خارجة عن الأسرة، ولا فرق في ذلك بين الأخوة الجهلة والأخوة المتعلمين، وإني لأعرف من ذلك أشياء كثيرة تدمع لها العين، و يحزن لها القلب، فبينما تعاني بعض النساء آلام الفاقة والحاجة ينعم أخوها في ميراثها، وربما كان رجلاً نال من العلم والثقافة نصيباً، وإذا حدث وأهدى لها شيئاً في المواسم والأعياد اعتبر ذلك تفضلاً منه.

هذه ظاهرة لا تخفى على أحد فلماذا لا يُجنِّد المتحمِّسون والمتحمِّسات لحقوق المرأة أقلامَهم، وجهودَهم لهذه القضيَّة؟ ولماذا لا يُطالبون المسؤولين – كما يطالبونهم بأن يحرِّموا تعدد الزوجات – أن يسنُّوا عقاباً رادعاً لكل من يحرمُ أخته من ميراثها الشرعي؟.

إنَّنا، قرأ في أكثر من صحيفة، ولأكثر من كاتب اقتراحاً بأن تتساوى المرأة مع الرجل في الميراث، ولكنا لا نقرأ اقتراحاً بأن تأخذ نصيبها حين يحرمها أهلها منه.

إنَّ في الاقتراح الأول إنكاراً صريحاً لآية محكمة من كتاب الله، وفي الاقتراح الثاني تنفيذ لنص محكم من كتاب الله، فأي الأمرين أولى بأن نقف وراءه، وأن ندافع عنه؟.

إنَّنا لا نريد أبداً – كما قلت في مبدأ هذا الحديث – أن نبخس المرأة حقاً من حقوقها التي شرعها لها الإسلام، ولكننا نُعارض بكل قوة أية دعوة تهدف إلى أن نعارض نصاً من نصوص ديننا، ومهما كثر الداعون والداعيات إلى هذا الذي تعارضه فإنَّ ذلك لا يَثنينا أبداً عن أن نجهرَ بكلمة الدين، وأن ندافع عنها، وأن نبيِّنها للناس: [قُلْ لَا يَسْتَوِي الخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] {المائدة:100}.

وإنَّه لدين في عنق كل مسلم أيَّاً كان مكانه في الحياة أن يدفع عن دينه كل ضيم يحاول أن يناله من هؤلاء الذين لا يُبالون أين تقع معاولهم من بناء الإسلام.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 

 

المصدر: (كتاب تيارات مُنحرفة في التفكير، ص: 70).

الحلقة السابقة هـــنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين