قيمة الحياء

 

 

معنى الحياء: كما قال الزمخشري في تفسيره: تغير وانكسار يعتري الانسان من خوف ما يعاب به أو يذم بسببه، وهو مأخوذ من الحياة ففيه ما في معناها من يقظة إدراك، ودقة إحساس، وحركة وحيوية، ولكنه في حياة الإنسان ميزة كبرى لا توجد في غيره من الأحياء، وخاصة من خصائصه التي يرتفع بها قدره، ولا يشركه فيها غيره، ذلك لأنه ثمرة العلم بما هو حسن وما هو قبيح، والشعور بحسن الحسن وقبح القبيح، والرغبة في عمل الحسن والنفور من القبيح، ثم الحرص على صيانة الكرامة بعمل الحسن وترك القبيح.

فمن يتصور قبح الفواحش كالزنا، وينفر منها طبعه يمنعه الحياء من الوقوع فيها أو الاقتراب منها، ومن يخش أن يظهر كذبه إذا حدث أو خيانته إذا خان، أو نفاقه إذا نافق يمنعه الحياء أن يكذب. أو يخون، أو ينافق، ومن يعرف الله ويعرف إحسان الله، وفضله عليه، وعلمه به، يمنعه الحياء منه أن يستهين بحرماته، ويتعدى حدوده، ويعصيه جهراً أو سراً، بل يبذل كل ما يستطيع من جهد وقوة في العمل بما يرضيه، والتقرب إليه بحسن العبادة والتجمل أمامه بلباس التقوى، وهي كما يقول الله تعالى: [يَا بَنِي آَدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآَتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ] {الأعراف:26}.

ومن ذلك: تظهر قيمة الحياء في توجيه السلوك، وتقويم الأخلاق، وصيانة الكرامة، فهو من الكرامة، فهو من القيم الإنسانية الكريمة العظيمة، وهو من الإيمان كما قال صلى الله عليه وسلم الحياة من الإيمان، وكما قال صلى الله عليه وسلم: الحياء لا يأتي إلا بخير،، وليس الحياء مظهراً للشعور بالضعف أو الخوف ـ كما يزعم بعض المستهترين والمستهترات، ممن زين لهم الشيطان أعمالهم وضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، وإنما هو قوة تدفع إلى الخير، وتمنع عن الشر، وترتفع بقيمة الإنسان إلى المستوى الكريم الذي يشير إليه قول الله:[وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي البَرِّ وَالبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا] {الإسراء:70}.

ذلك لأنه ليس من الحياء – طبعاً وشرعاً – : الخوف من مواجهة الظالم أو الآثم بإنكار ظلمه وإثمه، أو السكوت عن حق إذا كان في السكوت عنه ضياعه، فذلك عيب يمنع الحياء من الوقوع فيه، والتعرض للذم واللوم بسبه، وقد كان صلى الله عليه وسلم أشد الناس حياء، ومع ذلك ما ترك نهياً عن منكر، ولا أقر فعل باطل، ولا سكت عن تقويم معوج، ولا تهاون بحق من حقوق الله، بل لقد واجه الدنيا كلها وهي تتألب عليه، وتتحزب ضده بما عرف عنه من صدق إيمان، وشجاعة قلب، وتسمو روح، وقال لعمه وهو يطلب الرفق به ويقومه: (والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته).

فالخوف مما يعاب غير الخوف مما يهاب، والمؤمن الصادق يخشى أن يقع فيما يعاب به أو يذم عليه، ولا يرتاب أو يهاب، أو يشعر بالضعف أمام غير الله إذا وجد نفسه بين أمرين أحدهما يغضب الناس. وثانيهما يرضي الله، فإنه يقدم على ما يرضي ربه، ولسان حاله يقول:

فليت الذي بيني وبينك عامر=وبيني وبين العالمين خراب

إذا صح منك الود فالكل هين=وكل الذي فوق التراب تراب

وإذا كان الحياء دليل اليقظة والحيوية، وصحة الضمير، وتقوى الله فإن على العكس منه الاستهتار، بالقيم، والفضائل، والمجاهرة بارتكاب المآثم، أو التحدث عنها في مجانة وعهر وفخر، فذلك دليل على بلادة الإحساس، وموت الضمير، وانحطاط الخلاق، وقد قال صلى الله عليه وسلم في بيان حال هؤلاء المستهترين: كل أمتي معافى إلا المجاهرين، وإن من المجانة أن يعمل الرجل بالليل عملاً ثم يصبح وقد ستره الله فيقول: عملت الباحرة كذا وكذا، وقد بات يستره الله، ويصبح يكشف ستر الله عنه.

ومن ذلك يعلم أن المجاهرة بارتكاب المعاصي، وعدم المبالاة بفعل السيئات، ثم الحديث عنها بما يشهرها ويظهرها، إنما ينشأ عن قلة الحياء في النفس، و ضعف الإيمان في القلب، ومن كان ذلك شأنه فليس له أن يطمع في عفو الله ومغفرته ورحمته، كما يفهم من قوله صلى الله عليه وسلم: كل أمتي معافى إلا المجاهرين، إنما يطمع في ذلك[وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ] {آل عمران:135}.

أما هؤلاء فخطبهم جسيم، وذنبهم عظيم، لأنهم لم يكتفوا بما اقترفوا من السيئات، بل تبجحوا وتوقحوا، وتحدثوا عنها كأنها حسنات تعلي من أقدارهم، وتغري غيرهم بالاقتداء بهم، وفي ذلك إشاعة للسوء وإغراء بالجرائم، والمآثم وإفساد للجميع...

وصدق الله إذ يقول: [وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الهَوَى فَإِنَّ الجَنَّةَ هِيَ المَأْوَى] {النَّازعات:40-41}.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم

المصدر: مجلة لواء الإسلام العدد 9جمادى الأولى 1393هـ الموافق يونيه 1973

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين