كتب مباركة! وأخرى منـزوعة الدسم

أنا رجل درويش، أؤمن كثيرًا بالبركة التي يُحلها الله تبارك وتعالى في بعض الأشخاص والأعيان والأموال!

وأؤمن - بالنص والحس - أن الرجل قد يربح شيئًا يسيرًا فيبارك الله تعالى له فيه ويثمّره وينميه، حتى يكون ثوابه عند الله مثل جبل أحد، وحتى تعم فائدته بين الناس وبركته وأثره.

وآخر قد يغنم الشيء العظيم يسلبه الله عز وجل - بحكمته - بركته فيكون غنيًّا فقيرًا، مالكًا مسلوبًا، واجدًا محرومًا!

بارك الله تبارك وتعالى في شاة أم معبد العجفاء، فدرت حتى روِي منها المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم والصديق، وتركا لأهل الخباء ما رواهم بعد أن أدهشهم!

وبارك الله تبارك وتعالى في مال حليمة السعدية، التي أخصبت وأخصب أهل محلتها بعد إمحال!

وبارك الله تبارك وتعالى في طعام كان عند رسول الله  أكل منه أهل بيته طويلًا، حتى ملته أمي الطاهرة عائشة رضي الله عنها ففني، وبارك في طعام كان عند أبي بكر أكل منه عدد عديد من الرجال.

وكما يبارك الله تبارك وتعالى في الأموال يبارك في البقاع، فتجد إحداها مباركة مخصبة، تكون مدخل نعمة على صاحبها، وأخرى تشح بخيرها - ربما - بغضًا لأصحابها أو قاطنيها!

ويبارك الله في كلمة خرجت عفوًا على لسان عالم رباني، فتعيش بعده مئات السنين! ألا ترون إلى بعض ما قال سادتي الحسن البصري، وابن القيم، وابن عطاء الله، وغيرهم من الموفقين، الذين كانوا ينطقوا بالكلمة الحكمة كأن عليها نورًا من النبوة؟!

وكذلك الكتب: فمنها الكتاب المبارك الذي يكتب الله تبارك وتعالى له القبول بين طلاب العلم وغيرهم، فيشيع بين الناس عامتهم وخاصتهم، وتتعدد طبعاته، ويكثر بين الناس تداوله، ويتهافت الخلق على شرائه واقتنائه!

وكم من الكتب ما لا يذكر الناس عنوانه، ولا كاتبه، ولا موضوعه، ولا قيمته! رغم أنه مكتوب في الفقه، أو التفسير، أو الحديث، أو الاعتقاد!

ولقد كتب الكاتبون ألوفًا، بل ملايين من العناوين، فيها من العلم والخير حظ عظيم، لكنها لم تحظ بالبركة، بل لم يعرف الناس أسماءها، ولا قرؤوا ما فيها!

وأضرب مثلًا يقرب الصورة:

كم عندنا من أساتذة ذوي مناصب كبرى أكاديمية وأسماء لامعة إعلامية؟ وكم لهم من كتب؟ انظر - فقط - في جامعة الأزهر بفروعها العديدة، وجامعات الشام، والعراق والمغرب العربي، والخليج - وخاصة السعودية - تجد ألوفًا من الأساتذة، لهم عشرات الألوف من الكتب؛ لكنها - أزعم- منـزوعة الدسم، عديمة البركة: فلا كتّابها معروفون، ولا هي متداولة، اللهم إلا بين طلاب الجامعة الذين قد يفرض أساتذتهم عليهم شراء هذه الكتب "الهامدة" وإلا!

وأين الكتب التي فرضت على طلاب المدارس ليدرسوها، وعلى الشعب ليبتلعها مرغمًا: الميثاق الوطني، وفلسفة الثورة بتاع عبد الناصر، وأخضر القذافي، وإشراقات حكامنا ألأشاوس الملهمين!؟

بل إنه حتى الكاتب الواحد: قد ترى له كتبًا أكثر قبولًا من كتب، كتبًا يفتش الناس عنها، ويهتمون بها، ويغالون في أثمانها.

انظر إلى بركة صحيح البخاري وبقية الكتب التسعة، كم نهل منها الخلق، وكم بورك فيها، وكم دُعي بظهر الغيب لكاتبيها!

كم كتب الكاتبون غير رياض الصالحين، والأربعين النووية!

وكم كتب أهل الفقه غير والموطأ، والرسالة، والمغني،المجموع، وبداية المجتهد!

وكم كتب النحويون غير الشذور والقطر وابن عقيل!

وكم! وكم! وكم؟!

لكن ربك - رب القلوب سبحانه - يفتح أفئدة الناس لعمل ويغلقها دون آخر!

حتى في أيامنا هذه لن يخطئ المتأمل لحركة الكتاب كم بارك الله تعالى في بعض المؤلفات - رغم الاختلاف حول جزئيات في بعضها - حتى إنه ليتبادر إلى الأذهان أنها وحيدة في بابها:

رياض الصالحين، الأربعون النووية، فقه السنة، في ظلال القرآن، حياة الصحابة، الحلال والحرام، جامع العلوم والحكم، الإحياء، التحرير والتنوير، تفسير المنار، كتب القرضاوي والغزالي! وأشباه ذلك مما كتب له القبول في الأرض.

وقد يتبادر هنا سؤال: لماذا يكتب الله لكتاب هذا القبول؛ مع أن الجهد فيه قد يكون محدودًا، أو يبدو - للأكاديميين - أقل عمقًا من غيره؟ وإلا فبربك أخبرني: ما الإبداع الهائل المبذول في الأربعين النووية، أو في رياض الصالحين؟

صحيح أنها تعكس - في ترتيبها، وتبويبها - منهجًا متكاملًا، وفقهًا عميقًا، ومعرفة فائقة بالسنة المطهرة، لكن لا يمكن أن يقارن أحد مثلًا بين الجهد الذي بذله النووي رحمه الله - نفسه - في "المجموع" أو "تهذيب الأسماء واللغات"، أو "الأذكار" حتى، ومع ذلك فأزعم أنه لا يكاد يخلو بيت من بيوت الصحوة من نسخة من رياض الصالحين (في دليل معرض الكتاب بالدوحة سنة 1997 كانت ثمة أربع وخمسون طبعة من دور نشر مختلفة لهذا الكتاب وحده! في أقل من خمس سنوات على ما أذكر)!

* وأعتقد أن هناك أسبابًا جوهرية لحلول البركة والقبول للكتاب - بغض النظر عن حجمه واسم صاحبه - على رأسها توفيق الله تعالى للكاتب إلى نية صالحة بيضاء، تجعله راغبًا - فقط - فيما عند ربه تبارك وتعالى.

وكل طلاب الحديث يعرفون الكلمة "الجميلة" الأثيرة عن الإمام مسلم بن الحجاج عليه رحمة الله ورضوانه، لما راجعه بعضهم، حين نوى أن يجرد الصحيح بعد أستاذه البخاري رحمه الله فقال: "ما كان لله دام واتصل".

وفعلًا أدام الله صحيح مسلم، فتلقته الأمة بالقبول والرضا والعناية، حتى إن المغاربة قدموه على البخاري من بعض الوجوه!

أما من كَتب بنية مدخولة! من كتب ليجادل العلماء، أو ليماري السفهاء، أو ليصرف وجوه الناس إليه - كما قال سيدي المصطفى صلى الله عليه وسلم فإن علمه منـزوع البركة، مجرد من الثواب! بل ربما حرم صاحبه الجنة!

* ومن الأسباب الجالبة للبركة - في ظني - أصالة المنهج وارتباطه بينابيع الإسلام الصافية. فالكاتب الذي تكون مرجعيته: قال الله تعالى، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، غير من تكون مرجعيته هواه أو هوى غيره، وظنونه وظنون غيره ، وشطحاته وشطحات غيره.

من تكون مرجعيته الآثار، غير من يكون احتجاجه بمجرد الفذلكة، والحذلقة، واستعراض العضلات.

سمعت من أستاذي الدكتور عبد العظيم الديب كلمة جامعة وقعت من قلبي موقعًا: إذا أردت أن تكتب شيئًا يبقى فعليك بخدمة القرآن والسنة، ولا تغتر بغير ذلك!

* ولعل من الأسباب أيضًا تحري الحلال، والحرص على ألا يدخل جوف العالم إلا طيب يرضاه الله تعالى!

* وكذا التواضع واستصغار النفس الذي صار تراثـًا في الكتب خصوصًا في زماننا الذي طغت فيه جرأة الصغار، والتعالم الذي صار صفة غالبة، والروح الاستعراضية التي هي نفحة من جنون العظمة التي تستولي على بعض الناس، فتجعل أحدهم يعتقد أنه خير الناس، وأعلم الناس وأشدهم ثقة بدخول الجنة.

بقيت شبهة أن يحتج عليّ محتج، أو يعترض معترض: وهل بارك الله تبارك وتعالى أيضًا في دواوين نزار، وأغاني الأصفهاني، وألف ليلة وليلة، وشمس المعارف الكبرى؟ وقد طبع مع هذه وأشباهها مئات الألوف من النسخ!

وبدهي أننا في سياق الطاعة لا الاستدراج، والطهارة لا الغثاثة، والبحث عن الرضوان لا عن سخط الرحمن!

وهل تستوي عين بصيرة، بألف عين عمياء؟ أو يد ضاربة بألف شلّاء!

لا أعتقد:

ألم تر أن السيف يصغر قدره ........ إذا قيل إن السيف أمضى من العصا؟!

(همسة أخيرة): وصلنا الآن إلى زمن الكتاب اللي من 3 صفحات، والصفحة ونص، وربع الصفحة، والملل من القراءة، والعلم الكبسولي، والعلم السائل، والعلم المحقون، والعلم المشموم، والعلم (الملبوس) ولا حول ولا قوة إلا بالله!؟

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين