كلمة في التهاني

 

يتطرّف في موضوع التهنئة بالمناسبات الزمانية طرفان، طرف يبدّعها لأنه لا يعلم لها أصلا في السنّة، وطرف يبالغ فيها حتى لتكاد أن تفقد مقصودها من الإفراط في ابتذالها! وبين الطرفين أطراف متباينة يمكن أن تصنّف بقربها من أحد الطرفين.

بداية فإن التهنئة بشهر رمضان أو بيوم الجمعة أو حتى بالعيد نفسه إنما تتعلّق بالعادات لا العبادات، والأصل فيها الإباحة..

وتكرار التهنئة المعتدلة بها من الأمور الاجتماعية اللطيفة التي تنشر الوئام، وثقافة الصفاء والود والاحترام، وهي تدخل يقينا ما لم تتضمّن مخالفة وغلوّا في زمرة (وقولوا للناس حسنا)، وبالكلمة الطيبة التي تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها.

كما أنها تدخل في مضمون التحية التي أمرنا أن نحيي بأحسن منها أو ردّها، ولعلها تدخل في مضمون إفشاء السلام على من عرفنا ومن لم نعرف..

وفيها من المعاني الإيجابية تذكير الناس بأيام الله (وذكرهم بأيام الله إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور)، وحثّهم على استغلال المناسبات الطيبة بما تستحقه، ولفتهم إلى فضل الله ورحمته في مواسم الخير فيفرح بها المتقون (قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون).

ومن هنا فإن الحديث عن بدعيّة مثل هذه التهنئة ليس مناسبا، لأنه يخلط بين العبادات التوقيفية والعادات المرعيّة، وأثر هذه التهنئة ملحوظ اجتماعيا، فهي معنى من معاني صلة الرحم، والتواصل الودود بين المؤمنين، وفيها تحبّب وتفقّد وتذكير إيجابي إذا تناولناه بقدره..

 

لكن المزعج في الأمر هو المبالغة فيها فوق حدّ الاعتدال، وابتذالها بحيث تصرف فيها كلمات لا تعبّر عن حقيقة المشاعر، وأسوء ما فيها هي حالات الاستنساخ لكلمات منمقة، يعجب القارئ سبكها، لكنها لا تخترق شغاف قلبه، لما يشعره فيها من تكلّف وسجع، وكلمة متواضعة تخرج من القلب، تقع من قلب المخاطب موقعا لا تصله كلمات كبار الأدباء المستنسخة!

عدد من رسائل الأصدقاء التي تصلني أراها جميلة كتماثيل الشموع الملونة، ولكنها جثة هامدة لا تكاد تشعر بنبضها! خاصة حين تتكرر ذات الرسالة بضع مرات من عدد من الأصدقاء الذين لا يعرفون أنها وصلتك من غيرهم!

وأقبح من ذلك ما يكتبه بعضهم في مجموعات عامة ورسائل جماعية من عبارات مبالغة، كتهنئة خاصة، وأخصّك  بها لأنك بها أحقّ وو  ثم تكتشف أن هذه العبارة بصيغتها المنسوخة مبذولة لكل من حولك وما حولك، ولا تخصّك!

وأقبح القبح حين تتضمّن عبارات مغلوطة، وأحاديث موضوعة، وأفكار مشوّهة، ثم تسوّق للناس باسم التهاني!

ويشاكله سوءا حين يطولها أحدهم حتى لتبدو كأنها خطبة الوداع! ثم لا يكتفي بعضهم بذلك، بل يشغلك في المناسبة الواحدة بثلاث أو أربع تهاني! فيسبقك بها قبل الكل بحسب تعبيره، ثم يكون أول من صبّح عليك في صبيحتها، ثم يذكرك بها قبل أن تنقضي، حتى لتكاد أن تفرّغ لرسائله مساحة في جوالك، تحول دون متابعاتك لكثير مما يهمك متابعته، وخاصة في المجموعات الكبيرة!

أخشى أن بعض تلك المراسلات يدخل في اللغو والقيل القال، والانشغال بها خاصة حين يبدأ الأخ في إرسالها لقائمة أصدقائه قد يستغرق وقتا يستهلك جزءا مما يوصي الناس باستغلاله من هذه المناسبات، ثم يظن بعد ذلك أنه يحسن صنيعا! فكم من مذكّر للناس بساعة الإجابة يوم الجمعة مشغول عنها بنسخه ولصقه ومراسلاته، وكم من مذكر بالأيام البيض لا يبيّض بها صحيفته، وكم من كاذب في مبالغاته ببذل الحب جماعيا لكل من يراسلهم، فيكتب في مجموعة عريضة: إخواني إني أحبكم جميعا في الله! وهكذا تبهت الكلمات وتمسي رخيصة، لا تحرّك عاطفة، ولا تقوّي آصرة، ولا توحّد قلبا ولا صفّا، لأنها أقرب لكلمات المناهجة حين يبتذلون عبارة (والله من وراء القصد) حتى في شقّهم للصفّ وإثارتهم للفتنة!

 

لأجل أن تكون لكلماتنا روحها، ولكي تحقّق غرضها، فإنني أدعو للتخفيف من التهنئة العامة، والتواصل ثنائيا للتهنئة بصدق وقصد، وأن تكون تهنئتك بخواطرك الأصلية لا بما تستورده، فالمستورد مجمّد فاقد للحيوية والفيتامين...

وقدوتي في ذلك حبيبنا صلى الله عليه وسلم: (يا معاذ! والله إني لأحبك، أوصيك يا معاذ)، ولا أمنع من التهنئة العامة والتحية العامة حيثما اقتضتها المجالس، بالاختصار الذي يقتضيه المقام. والله أعلم

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين