كيف ننتصر على أنفسنا:تنظيم العلاقة بين الإرادة والغرائز (2)

 

3 - في انفعالات الحزن:

وترى الناس إذا أصابهم ما يَكرهون فاندفعوا في هلع هالع، وجزع خالع، اعتذروا بشدَّة الصدمة الأولى، وبعجزهم فيها عن الصبر والتجمُّل. كلا إنَّها حجَّة داحضة؛ ولله الحجَّة البالغة؛ فإنَّ للحزن أثراً طبيعياً لا جناح فيه؛ وإنَّما السبيل على قَول الهُجْر، وفعل النُّكْر، الذي تبرأ منه الفطرة.

ها هنا أيضاً نجد في مِشْكاة الشريعة من الأضواء الباهرة ما يكشف لنا حدود مسؤولياتنا وما وراء تلك الحدود، ففي الأثر الصحيح الذي يَرويه البخاري أنَّ النبي صلوات الله عليه دخل على ابنه إبراهيم وهو يُعالج سكراتِ الموت، فلما رآه رقَّ له قلبه، وجعلت عيناه تَذرفان الدموع فقال له عبد الرحمن بن عوف وأنت يا رسولَ الله، فقال: (يا ابن عوف: إنَّها رحمة، إنها رحمة. ثم قال: إنَّ العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يُرضي ربنا، وإنَّنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون). 

هكذا فرَّق الرسول الحكيم صلى الله عليه وسلم بين الظواهر الحيويَّة والنفسيَّة التي ليست من كسبنا، وبين الأقوال والأفعال التي تتبع هذه الحالات الطبيعيَّة ولكنها من محض عملنا، واقعة تحت مسؤوليتنا.

4 – في غريزة التشهي والتمني:

وإليك مثالاً آخر من هذه الطبائع، المستعصية علينا في نفسها، الخاضعة لإرادتنا في توابعها ولواحقها تلك هي غريزة التشوُّف والتطلُّع، التي أودعها الله تعالى في فطرة الإنسان لحكمة بالغة؛ فهي التي تحفِّزه إلى طلب ما به قَوام حياته الماديَّة والمعنويَّة. فليس من الصواب مُكافحتها، بل ليس في الطاقة اقتلاعها؛ فإن الطبع غلاَّب كل مُغالب. ولكننا على الرغم من ذلك نستطيع مُعالجتها من طريقين: إما بتحويل اتجاهها، وإما بوقف آثارها. 

ومعنى تحويل الاتجاه أن نستبدل بالهدف الأول، الذي اتجهت إليه رغبتنا بادئ ذي بدء، هدفاً آخر يُلهينا عنه، ويعوضنا منه. 

بحيث يكون مَثَلُنا في مُعالجة أنفسنا مثل مؤدِّب الطفل حين يَراه شديد الشَّغَف بلعبة خطيرة. فالسياسة الرشيدة في هذه الحال لا تَعْمد إلى كبت إرادة الطفل كبتاً كلياً، بل تقدِّم له لعبة أخرى تشبهها أو تفضلها. غير أنَّها تكون عَديمة الخطر. وكلما كان الاستبدال لما هو أنفس قيمة وأجزل نفعاً، دلَّ ذلك على حصافة عقل المربي وكمال رشده. 

وهكذا علَّمنا القرآن الكريم كيف يكون مَوقفنا أمام إلحاح رغباتنا الجامحة: فطوراً يأذن لنا أن نُشبع رغبتنا بأسلوب آخر نستبدل فيه الحلال بالحرام، والطيب بالخبيث. وهذا هو علاج الجمهور والعامَّة. وطوراً يَلفتنا عن هذا الوضع الرخيص كله، ويصرف هِمَّتنا عن محقَّرات الأمور وسَفْسَافها، موجِّهاً إياها نحو معالي الأمور وإشرافها، وهذه هي رتبة الصفوة والخاصَّة. 

وأياً ما كان فإنَّه لا يَأمرنا بترك التشهي والتمني إطلاقاً، ولكنه يَرسم لنا أهداف هذا التمني. فلنستمع له حين يقول: [وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ] {النساء:32}. ثم يقول: [وَاسْأَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ] {النساء:32}. 

وهذا نفسه هو الأدب الذي أدَّبَ الله تعالى به نبيَّه فأحسن تأديبه؛ إذ قال له: [وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى] {طه:131}. وما أجمل الوصيَّة الذهبيَّة التي يقول فيها الرسول العظيم صلى الله عليه وسلم: (خصلتان من كانتا فيه كتبه الله شاكراً صابراً. ومن لم تكونا فيه لم يكتبه الله شاكراً ولا صابراً: (من نظر في دينه إلى من هو فوقه فاقتدى به، ونظر في دُنياه إلى من هو دونه فحمد الله على ما فضَّله به عليه كتبه الله شاكراً صابراً. ومن نظر في دينه إلى من هو دونه، ونظر في دنياه إلى من هو فوقه، فأسف على ما فاته منها لم يكتبه الله شاكراً ولا صابراً) (1).

 هذه هي سياسة تحويل الاتجاه 

وأما سياسة وقف السير فإنَّها تتبع في ظروف خاصَّة، كأنَّها استثناء من القاعدة؛ وحتى في هذه الحالات الخاصَّة، ليس المطلوب منا أن نُسكت صوت رغائبنا، وأن نحْمِلَها قـسراً على الجمود والخمود؛ فالله تعالى أرحمُ بنا من أن يكلِّفنا مالا طاقة لنا به؛ وإنَّما العلاج هو أن ندع جهاز الغريزة يدور حول نفسه، ولا نقدم له المادة التي يطلبها. 

وتلك هي السياسة التي رسمتها شريعة الصوم، فِطَاماً لنا عن المشتهيات إطلاقاً في أوقات مَعْلومة. تلك هي سياسة قَمْع الهوى التي يقول فيها الكتاب المجيد: [وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الهَوَى] {النَّازعات:40}.

ولا أطيل في سرد الأمثلة وتعداد الشواهد؛ فكلُّ غرائزنا ونزعاتنا على هذا النَّمَط، لم يجمل الله تعالى لنا سبيلاً عليها في تكوينها ولا انبعاثاتها الطبيعيَّة، ولكنه سبحانه جعل لنا عليها سلطاناً في ضبطها، وتوجيهها، وتنظيم آثارها العملية. 

***

وإلى القارئ النجيب صورة حسِّيَّة ملموسة، لعله يكون قد لمحها من خلال هذا البيان: فليتصوَّر جهازاً مُتحرِّك، يتألَّف من ثلاثة أجزاء رئيسية:

(?) مفتاح المحرك (الكونتاكت).

(?) دفة التوجيه (الدريكسيون).

(3) الرباط (الفرملة).

وليفترض أنَّ مفتاح المحرِّك في اتصال دائم بالمحرك، وأنَّ المهندس أو السائق لا يَستطيع، لأمر خارج عن إرادته، منع هذا الاتصال، وأنَّه ليس في مُتناول يده إلا (الدفَّة)، و(الرباط) - فهل يخليه ذلك من مسؤولية المصادمات والتردِّي في الحفر التي في الطريق، على حين أنَّه كان في استطاعته أن يستعمل إما (الدفَّة)، للتحويل عن الخطر، وإما (الرباط) لوقف العجلات عن السير، مع بقاء المحرِّك يَدور على نفسه.

ذلك هو مثل الوسائل الخارجة عن ملكنا (القلب الذي مفتاحه بيد الله تعالى)، والوسائل التي خوَّلها الله تعالى لنا في قيادة أعمالنا (العقل والإرادة)، وهذه الوسائل الأخيرة هي الفيصل بين طبيعة الكائنات الحيَّة المسخَّرة لغرائزها، وطبيعة الإنسان المسيطرة على قواه، المسؤول عن حسن سيرها. 

فلو تناول الإنسان كلَّ ما اشتهى ومدَّ يَدَه وسمعه وبصره إلى كل ما يهوى، وترك نفسه كالكرة أمام صولجان عواطفه، يُطيعها طاعة عمياء، دون تروٍّ ولا توقف، ولا تنظيم ولا تنسيق، فأي ميزة يمتاز بها عن الحيوان الهائم على وجهه، الذي لا عقل له ولا عقال؟

ألا فلنفكر في صلة النسب بين هاتين الكلمتين: كلمة (العقل) وكلمة (العقال) فإنَّ العقل ما هو إلا عِقَالٌ معنوي، وقيد أدبي، جامع مانع، جالب دافع؟ فيه نُقيِّد حركاتنا ونحجزها عن الشرود والوقوع في مَهَاوي الخطأ والضلال، وبه تقيَّد شوارد العلوم والمعارف التي تهدينا سواء السبيل. وإنَّ هدى الله هو الهدى. 

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 

الحلقة السابقة هـــنا

المصدر: (مجلة الأزهر، المجلد الخامس والعشرون، رجب 1372 - الجزء 7 ).

----------------

(1) رواية للترمذي في صفة القيامة.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين