كيف ننتصر على أنفسنا-1-تنظيم العلاقة بين الإرادة والغرائز

 

 

يخطئُ الذي يزعم أنَّ الإنسان في هذه الحياة مخلوق أعزل، قد شُدَّ وَثاقُه إلى عجلة الكون، وسُخِّر تسخيراً بطبيعته وطبيعة الأشياء، كما يخطئ الذي يزعم أنَّ الإنسان في هذا الكون سيدٌ مُطلق اليدين، يتصرف بملء حُرِّيَّتِه في طبائع الأشياء وطبيعة نفسه.

وعبثاً حاولتْ بعضُ المذاهب الفلسفيَّة أن تصوِّرَه لنا في أحد هذين الطرفين:

فالحقيقة، كما قلنا ونقول: إنَّ الإنسان مُسيَّر مخيرٌ معاً؛ ولكنه يقوم بهذين الدورين في ميدانين مختلفين.

وليس من العسير علينا في كثير من الشؤون، أن نتبيَّن ما هو من عمل الطبيعة القاهرة، وما هو من عملنا الحر المستقل؛ غير أنَّ هناك حالات خاصة تَلتبس فيها المعالم، وتشتبه فيها الحدود، ويدقُّ الفصل فيها على غير الناقد البصير، ومن هنا يَميل أكثر الناس فيها إلى التنصُّل من مسؤولياتهم، وإلقاء عبئها على كاهل الطبيعة، زاعمين أنَّهم كانوا من ممنوعين بحركة قسريَّة لا حيلة في وقفها ولا تصريفها.

تلك هي الحالات التي يَلتقي فيها عمل الغريزة وعمل الإرادة، ويكون هذا استمراراً لذلك حتى يخيَّل للمرء في بادئ الرأي أنَّه كان معطَّل الإرادة أو مسلوبها، وأنَّه كان يتحرك حركة آلية ليست من صنعه ولا من كسبه.

لا جرم كان من أول مهمَّات المربي الحكيم - حين يتولى قيادة الإرادة وتربيتها على أخذ الأمور بالقوة والحزم - أن يكشف الغشاوة التي تحيط بهذه المنطقة المختلطة المشتبهة، وأن يُبصِّر العقول بكنه الحركات النفسيَّة والجثمانيَّة التي تدور في فترة هذا الاتصال، ليعرف كل امرئ إلى أي حد تنتهي حركة الفطرة فيه، وسلطانها عليه، وعند أي نقطة تبدأ حركة اختياره واقتداره، و سلطانه ومسؤوليته.

ولسوف يَرى المطلع على وجهة نظر الإسلام في ذلك أنَّها نظرة بريئة من عُنف البرهميَّة وجفاف البوذيَّة، وغرور أدعياء الصبر والجلد في الفلسفة الإغريقيَّة، وأنها في الوقت نفسه مُنزَّهة عن مُيوعة اليسوعيَّة (1) " وخَوَر الجبريَّة، ورخاوة الكسالى في كل مِلَّة ونحلة. 

فيما يَذهب الفريق الأول إلى إنكار الغرائز، والمكابرة في سلطانها، ودعوى القدرة على محوها واستئصالها، وبينما يَميل الفريق الثاني إلى التسليم لها، والانهزام أمامها، والنزول الكلي على حُكمها، تقف الدعوة الإسلاميَّة على الجادَّة الوسطى مُشرفة بنظرها على جانبي الطريق، فتعترف بسلطان النزعات الجِبِلِّيَّة إلى حد محدود، ثم تترك المجال للهِمَم والعزائم في الوقوف بتلك النزعات عند حَدِّها، ومُقاومة الاسترسال معها في غير ضروراتها المليئة، وصدق منزِّل هذه الشريعة الحكيمة في وصفه لدعوته: [قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي] {يوسف:108}.

فلننظر الآن في الصلة بين هذين العاملين حين يَلتقيان: عامل الجِبِلَّة وعامل الاكتساب الإنساني. ولنبرز الخط الفاصل الذي رسمه الإسلام بينهما، حتى جعلهما لا يَبْغيان، ولنتأمَّل كيف كان الإسلام في تطبيقه لهذه الحدود على طائفة من الانبعاثات والانفعالات، قد وضع أوضح منهج عملي لتربية الإرادة، وتدريبها على التزام موقف الحكمة والهدى، والثبات أمام تيار الهوى.

وإليك مثلاً من ذلك:

1 - في كَظْم الغيظ، والحدِّ من الغَضب.

كلنا نعرف أنَّ ظاهرة الغضب ظاهرة مُزدوجة: فيسيولوجية وبسيكولوجية؛ أعني أنَّها عضويَّة نفسيَّة في وقت واحد. ألسنا نَرى الانفعال النفساني فيها تصحبه ثورة دمويَّة، تغلي منها مَراجل الصدر، وتَرتفع بها حرارة الجسم، وقد تتقلَّص منها عَضَلات الوجه... في أعراض تشبهها... ثم يتبع ذلك لواحق أخرى، كالجهر بالقول، والبَطْش باليد، إلى غير ذلك؟

ها هنا يتدخَّل الفرقان السماوي فيفْصِل هذه الظواهر إلى شَطْرين اثنين؛ تاركاً الشطر الأول منهما لحكم الجِبِلَّة الذي لا سلطان لنا عليه، ولا مسؤولية علينا فيه. أما الشطر الثاني، وهو شطر اللواحق، فإنَّ هذا التوجيه الحكيم يُنبِّهنا إلى أنَّه - فيما عدا الحالات المرضيَّة الشاذَّة، التي يَأخذ الغضب فيها صورة تشنُّجيَّة لا يُسيطر عليها العقل ولا الإرادة - شيء نصنعه نحن باختيارنا، داخل في نطاق مسؤوليتنا، حتى لو فرض أنَّ جهاز النطق وجهاز الحركة يقومان بوظيفتهما إذ ذاك بطريقة آليَّة اندفاعيَّة، فإنَّ نوع الكلام ونوع الحركة يبقيان خَاضِعَين لشيء من التفكير والإرادة بحيث نستطيع أن نُوجِّههما الوجهة التي نريدها، ولذلك يُطالبنا الشرع الحكيم في أشدِّ حالات الغضب، ما دُمنا مُتمتعين بوعينا وإدراكنا، أن نسيطر على حركات ألسنتنا وجوارحنا، ويحاسبنا على الأسلوب القولي والفعلي الذي نختاره في التعبير عن شعورنا. 

ذلك أنَّ قصارى الثورة الغضبيَّة - حين تَندفع إلى التعبير عن نفسها بالقول أو بالفعل أو بهما معاً - أن تكون كالشُّحْنة الكهربائيَّة التي لابدَّ لها متى اندفعت أن تفرغ، فلا سبيل إلى كَبْت حركتها، ولكن لنا سبيلاً إلى اختيار المجال الذي تفرغ فيه وذلك بوضع جهاز (مانعة الصواعق) في مكان ما، وهو كما نعلم جهاز لا يُوقف التيار الكهربائي بل يَستقبله ويتلقَّاه، ثم يحوله بعيداً عن هَدفه الأول، فكذلك نستطيع أن نتصرَّف في موقف الغضب، لا بمصادمة هذه الغريزة نفسها، ولا بمُقاومة حركتها الطبيعيَّة في بداية اندفاعها ولكن بتوجيه هذه الحركة وتحويل خط سيرها على النمط الذي رسمه لنا القدوة الأعظم صلوات الله وسلامه عليه.

فلنستمع إلى شيء من إرشاداته الحكيمة التي يوجِّهها صلى الله عليه وسلم إلى من يقع تحت سلطان الغضب، وهي إرشادات تبرهن على ما لصاحبها من علم واسع عميق، وإدراك كامل دقيق، لمدى هذه القوى النفسيَّة في حدودها الطبيعيَّة، وفيما وراء تلك الحدود. 

ففي اللحظة التي يَدفعنا فيها الغضب إلى التفوه بكلمة ننفِّس بها عن صدورنا، لا يأمرنا الرسول الحكيم صلى الله عليه وسلم بأن نسكت ونحبس أنفاسنا، بل يرشدنا بالعكس إلى أن نقول شيئاً، ولكنه يختار لنا الصيغة المعبِّرة عن هذا الانفعال: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم)، أليست هذه الكلمة وحدَها كافية لفتح صمَّام المِرْجل الذي يَغْلي في الصدر، وتخفيف الضغط الذي كان يُولِّد فيه الانفجار؟ أليس كل ما يجيء وراء هذه الكلمة يُعدُّ نافلة وتزيداً تستطيع الطبيعة أن تستغني عنه؟. فإذا ما دَفعتنا حِدَّة الغضب إلى شيء أكثر من القول، وانبعثت فينا نزعة قوية إلى البطش باليد أو غير ذلك من الحركات البدنيَّة، فإنَّ الإرشاد النبوي يُساير هذه الحركة الطبيعيَّة أيضاً في مبدئها؛ ولكنه لا يلبث أن يحول مجراها برفق بعيداً عن هدفها، فلنستمع له عليه الصلاة والسلام حين يقول: (إذا غضب أحدكم وهو قائم فليقعد، فإن ذهب عنه الغضب، وإلا ليضطجع) (2).

هل نجد أيسر وأسرع، وأدق وأنجع من هذا العلاج الروحي البدني معاً؟

2 ـ في الحب والبغض:

هذا الفرقان الحكيم بين نصيب الغريزة ونصيب الإرادة، نجده بصورة واضحة في ظاهرتي الحب والبغض، وهما حالتان نفسيَّتان، وليدتا أسباب يبدو لنا بعضها ويخفى عنا بعضها؛ فقد يكون مردُّهما إلى مجرد تجاذب الأرواح أو تنافرها، أو إلى تقارب الأذواق والآراء أو تباعدها، أو إلى غير ذلك من البوا عث، وأيَّاً ما كان فهما من صنع الله تعالى مُقلِّب القلوب، وكذلك ما يتبعها من الآثار الجِبلِّيَّة التي لا تنكر: قرة عين، وإشراق جبين، وانفساح صدر وراحة ونعيم، في لقاء من تحب ومناجاته، وأضداد ذلك في لقاء من تبغض. 

إلى هنا يقف عمل الفطرة الذي رُفعت عنا فيه الأقلام، ولكننا في غالب الأمر نُضيف إليها آثاراً من صُنْعنا، إذ نفرِّق في المعاملة بين من نحب ومن نبغض، ولا نسوي بينهما في الحكم؛ بل نكيل لها بكيلين، ونَزِنُ بميزانين: فنحابي من نحب، ونغضي عن هَفَواته، ونتحامَل على من نكره ونغطي على حسناته. 

وهذا هو الجَوْر الذي نهانا الله تعالى عنه؛ إذ يقول عزَّ شأنه: [وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى] {الأنعام:152} ويقول: [وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا] {المائدة:8}. 

هكذا حمَّلَنا الإسلام مَسؤولية عملنا، وعافانا مما ليس من كسبنا: فلم يُكلِّفنا اقتلاع عاطفة الرضا ونازعة السخط من أنفسنا، ولا كفَّ آثارهما الجبليَّة، ولكن كفَّ آثارهما الاختياريَّة الجائرة، وقد جعل لنا في ذلك الأسوة الحسنة بصاحب الخلق العظيم، فقد كان صلى الله عليه وسلم يَعدل حقَّ العدل بين زوجاته، ثم يقول: (اللهم هذا جهدي فيما أملك، ولا طاقة لي فيما تملك ولا أملك) (3).

[للمقالة تتمة في الجزء الثاني]

المصدر: مجلة الأزهر، المجلد الخامس والعشرون، رجب 1372 - الجزء 7

-----------------

(1) فرقة من المسيحية

(2) رواه أبو داود في كتاب الأدب 

(3) رواه ابن ماجه وأصحاب السنن.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين