كيف يرفع العلم ويَذهب؟

 

 إنه يذهب بذهاب أهله الذين يرجع إليهم في المعضلات، ويُحتكَم إليهم عند الخلاف، الذين إذا استُفتوا أفتوا بعلم، وإذا استقضُوا قضوا بحق، وإذا دعوا كانت دعوتهم على بصيرة.

 

وفي الصحيحين عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم   يقول: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً من العباد (أي: محواً من الصدور)، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالمٌ، اتًّخذ الناسُ رؤساء جهالاً، فسُئِلوا، فأفتَوا بغير علم، فضلُّوا وأضلوا»([1]).

 

وكان تحديث النبي صلى الله عليه وسلم بذلك في حجَّة الوداع، كما رواه أحمد والطبراني من حديث أبي أمامة، قال: لما كان في حجَّة الوداع قال النبي صلى الله عليه وسلم: «خذوا العلم قبل أن يُقبض أو يُرفع. فقال أعرابي: كيف يُرفع؟ فقال: ألا إنَّ ذهابَ العلم ذهابُ حَمَلته» ثلاث مرات([2]). 

 

ومن هنا كان موت العلماء الثقات مصيبةٌ يحزن لها المؤمنون، ويسألون الله الصبر عليها، والعِوض عنها، حتى روي عن عمر قوله: «لموت ألف عابد، قائم النهار، صائم الليل، أهونُ من موت عالم، بصيرٍ بحلال الله وحرامه»([3]).

 

ولما مات زيد بن ثابت رضي الله عنه ، كاتب الوحي، وقارئ القرآن، وعالم الأنصار، قال عبد الله بن عباس: من سرَّه أن ينظر كيف ذهاب العلم، فهكذا ذهابه[4].

 

وقال الحسن رضي الله عنه : موت العالم ثلمة، (أي: ثغرة وخلل في البناء) في الإسلام، لا يسدُّها شيءٌ ما اطَّرد الليل والنهار[5].

 

وقال ابن عباس رضي الله عنهما أيضاً: لا يزال عالمٌ يموت، وأثر للحق يُدْرس، حتى يكثر أهلُ الجهل، وقد ذهب أهل العلم، فيعملون بالجهل، ويدينون بغير الحق، ويضلون عن سواء السبيل[6].

 

وكان أبو الدرداء رضي الله عنه يقول: مالي أرى علماءكم يذهبون، وجُهَّالكم لا يتعلمون؟ تعلَّموا قبل أن يُرفع العلم، فإنَّ رفعَ العلم ذهابُ العلماء([7]).

 

كذلك كان حرصهم على طلب العلم وتعليمه وتدوينه، حتى لا يأتي وقت يفقدون فيه من يَحمله، ويقوم بحقِّه.

 

كتب عمر بن عبد العزيز في خلافته إلى أبي بكر بن حزم – واليه على المدينة – يقول له: انظر ما كان من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فاكتبه، فإني خفت دروس العلم، وذهاب العلماء، ولا يقبل إلا حديث النبي صلى الله عليه وسلم ، وليُفْشوا العلم، وليجلسوا، حتى يعلم من لا يعلم، فإنَّ العلم لا يهلك حتى يكون سراً ([8]).

 

فهو بهذا يرفع شعار: العلم للجميع.

 

قال الحافظ في «الفتح»: وقد روى أبو نعيم: في «تاريخ أصبهان» هذه القصة بلفظ: «كتب عمر بن عبد العزيز إلى الآفاق: انظروا حديث الرسول صلى الله عليه وسلم فاجمعوه»([9]).

 

من كتاب: " الرسول والعلم" 

 

---------------

([1]) متفق عليه: رواه البخاري (100)، ومسلم (2673)، كلاهما في العلم، عن عبد الله بن عمرو.

([2]) رواه أحمد (22290) وقال مخرجوه: إسناده ضعيف ، الطبراني (8/232).

([3]) جامع بيان العلم (1/127).

[4] - المصدر السابق (1/600).

[5] - رواه الدارمي في المقدمة (333).

[6] - جامع بيان العلم (1/603).

([7]) رواه الدارمي في المقدمة (251).

([8]) علقه البخاري بصيغة الجزم في صحيحه في كتاب العلم، باب كيف يقبض العلم (1/31).

([9]) رواه أبو نعيم في تاريخ أصبهان (1/366). وانظر : فتح الباري (1/195). 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين