لا حسدَ إلا في اثنتين

روي في الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (لا حسدَ إلا في اثنين: رجلٍ آتاه الله مالاً فسلَّطه على هَلَكتِه في الحق، ورجلٍ آتاه الله حكمةً فهو يَقْضي بها، ويعلمها الناس).

المعنى:

ذكر النووي في شرح مسلم قال العلماء: الحسد قسمان حقيقي ومجازي، فالحقيقي: هو تمني زوال النعمة عن صاحبها، وهذا حرامٌ بإجماع الأمَّة مع النصوص الصحيحة.

وأما المجازي: فهو الغبطة وهو أن يتمنَّى مثل النعمة التي على غيره من غير زوالها عن أصحابها، فإن كانت من أمور الدنيا كانت مباحة وإن كانت طاعة فهي مستحبة.

والمراد بالحديث: لا غبطة محبوبة إلا في هاتين الخصلتين:

إحداهما: أن ينعم الله على رجل بالغنى فينفقه في الوجوه التي يرتضيها الدين، والأخرى أن يمكن رجلاً من علوم الشرع وفهمها فيحكم بها بين الناس وينشرها فيهم.

فالغبطة محمودةٌ والحسدُ مذمومٌ، لأنَّه خُلق ذميم مع إضراره بالبدن وإفساده للدين حتى أمر الله تعالى بالاستعاذة من شَرِّه فقال تعالى: {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} [الفلق:5].

وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (دَبَّ إِلَيْكُمْ دَاءُ الْأُمَمِ مِنْ قَبْلِكُمْ، الْحَسَدُ وَالْبَغْضَاءُ، وَالْبَغْضَاءُ هِيَ الْحَالِقَةُ، لَا أَقُولُ تَحْلِقُ الشَّعْرَ، وَلَكِنَّهَا تَحْلِقُ الدِّينَ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَا تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلَا تُؤْمِنُوا بِي حَتَّى تَحَابُّوا، أَفَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ: أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ).

فأخبر صلى الله عليه وآله وسلم بحال الحسد وأنَّ التحابَّ ينفيه، وأن السلام يبعث على التحابب فصار السلام إذن نافياً للحسد.

وقال بعض السلف: الحسد أول ذنب عصي الله به في السماء، يعني حسد إبليس لآدم عليه السلام، وأول ذنب عصي الله به في الأرض يعني حسد ابن آدم لأخيه حتى قتله.

وقال بعض الحكماء: من رضي بقضاء الله تعالى لم يُسخطه أحد ومن قنع بعطائه لم يدخله حسد.

ولو لم يكن من ذم الحسد إلا أنه خُلق دنيء يتوجَّه نحو الأكْفَاء والأقارب ويختص بالمخالط والمصاحب، لكانت النزاهة عنه كرماً والسلامة منه مغنماً، فكيف وهو بالنفس مضر وعلى الهم مصر، حتى ربما أفضى بصاحبه إلى التلف من غير نكاية في عدو ولا إضرار بمحسود، وقد قال معاوية رضي الله عنه: ليس في خصال الشرِّ أعدل من الحسد يقتل الحاسد قبل أن يصل إلى المحسود.

وحقيقة الحسد شدَّة الأسى على الخيرات، تكون للناس الأفاضل وهو غير المنافسة وربما غلط القوم فظنوا أن المنافسة في الخير هي الحسد، وليس الأمر على ما ظنوا؛ لأنَّ المنافسة طلب التشبُّه بالأفاضل من غير إدخال ضررٍ عليهم.

وقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: (المؤمن يَغبط، والمنافقُ يحسد)(1).

واعلم أن دواعي الحسد ثلاثة: 

أحدها: بغض المحسود فيأسى عليه بفضيلة تظهر أو منقبة تشكر فيثير حسداً قد خامر بغضاً.

والثاني: أن يظهر من المحسود فضل يعجز عنه فيكره تقدمه فيه واختصاصه به فيثير ذلك حسداً لولاه لكفَّ عنه.

والثالث: أن يكون في الحاسد شُحٌّ بالفضائل، وبخلٌ بالنِّعَم، وليست إليه فيمنع منها ولا بيده فيدفع عنها؛ لأنها مواهب قد منحها الله من شاء فيسخط على الله عزَّ وجل في قضائه ويحسد على ما منح من عطائه.

وهذا النوع من الحسد أعمُّها وأخبثها إذ ليس لصاحبه راحة ولا لرضاه غاية، فإن اقترن بشر وقدرة كان بوراً وانتقاماً وإن صادف عجزاً ومهانة كان جهداً وسقاماً.

يقول الغزالي رحمه الله تعالى في كتابه (الإحياء): (باب في علاج مرض الحسد): 

قد علمنا أنَّ الحسد من الأمراض العظيمة للقلوب، ولا تُداوى أمراض القلوب إلا بالعلم والعمل – والعلم النافع لمرض الحسد هو أن تعرف تحقيقاً أن الحسد ضرر عليك في الدنيا والدين، وأنه لا ضرر فيه على المحسود لا في دينه ولا في دنياه بل ينتفع به فيهما ومتى عرفت هذا عن بصيرة ولم تكن عدو نفسك امتنعت عن الحسد لا محالة.

أما كونه ضرراً عليك في الدين فهو أنك بالحسد قد سخطت على قضاء الله تعالى، وكرهت نعمة الله التي قسمها بين عباده، وانتقدت عدله الذي أقامه في ملكه بخفي حكمته فاستنكرت ذلك وهذه جناية كبرى في عين التوحيد والإيمان.

وأما كونه ضرراً عليك في الدنيا فهو أنك تتألم بحسدك في كبد وغمّ كلما أنعم الله تعالى بنعمة على أعدائك، ولا تزال تتعذَّب إذا صرف عنهم بليَّة نزلت بهم، فتبقى مُتعب القلب ضيِّق الصدر، ومع هذا فلا تزول النعمة عن المحسود بحسدك ولو كنت تؤمن بالبعث والحساب ما حَسدت.

وبعد: فإنَّ ما يُستنبط من الحديث الذي بين أيدينا:

1 – النهي عن الحسد المذموم لأنه يوقع العداوة والبغضاء بين الناس من غير داعٍ مقبول ويسيء إلى صاحبه ويقلقُ بالَه.

أما الحسدُ المحمود (الغِبْطة) فمرغوب فيه، إذ يؤدي إلى أعمال الخير والتسابق فيها وهذه صفات تكفل السعادة للفرد والجماعة.

2 – الحثَّ على إخراج المال وإنفاقه في وجوه الخيرات والبر كبناء المساجد والمصانع الملاجئ ومساعدة الأرامل وتعليم الأيتام، ومعالجة المرضى وأمثال ذلك.

وفي هذا محاربة للأَثَرة واسترضاء لله تعالى وللناس، ومساعدة على تخفيف آلام المجتمع.

3 – الحثَّ على نشر العلوم الشرعية وعدم الضنِّ بها، ويقاس عليها سائر العلوم النافعة وفي هذا محاربة للجهل وقضاء على آثامه وجرائمه، وإنهاض للأمم وإنقاذ لها من مَهَاوي الضلالة وحضيض الجهالة.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم 

المصدر: مجلة لواء الإسلام، العدد الثاني، السنة الثالثة عشرة، 1378هـ = 1959م.

************ 

(1) قال الحافظ العراقي في تخريج أحاديث الإحياء: لم أجد لَهُ أصلا مَرْفُوعا، وَإِنَّمَا هُوَ من قَول الفضيل بن عِيَاض، كَذَلِك رَوَاهُ ابْن أبي الدُّنْيَا فِي ذمّ الْحَسَد.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين