
افتتان الشباب المتديّن بالمتطرّفين أصبح ظاهرة خطيرة مقلقة ، لأنّها لم تعد قاصرة على انحراف الفكر ، وفساد الفهم ، وإنّما تعدّت إلى المواقف السلوكيّة : من التكفير ، واستحلال الدماء ، والانسياق الأعمى وراء رايات عُمّيّة ، ونكرات مشبوهة ، لا يعلم أحد موردها ومصدرها .. ثمّ الموت في هذا السبيل ، الذي يخسر فيه الإنسان دنياه وآخرته ، ويكون شرّاً وبلاءً على دينه وأمّته ..
فكان لا بدّ من الوقوف على أسباب هذا الافتتان ، وتعاون العلماء والدعاة إلى الله تعالى ، وكلّ غيور على دينه وأمّته لمعالجة هذا الأمر ، والقضاء على أسبابه .
ويمكننا إجمال هذه الأسباب في النقاط التالية :
1 ـ الخلل في البناء العقليّ والنفسيّ للشباب ، وطبيعة الشباب المتمرّدة . وهو ما جاء التعبير عنه في السنّة : « بسَفاهة الأحلام » .
2 ـ الخلل في التكوين العلميّ والفكريّ .
3 ـ الافتتان بالبطولة ، والانتصارات الموهومة ، والشعارات البرّاقة .
وأكثر الشباب بعيدون عن الحكمة القائلة : وما كلّ برق لاح لي يستفزّني ..
4 ـ ردّة الفعل غير المتّزنة والمحبطة ، على واقع مليء بالظلم والإجرام ، والقهر والعدوان ، بصورة ظاهرة للعيان ، وفي كلّ مكان ، ولا أحد ينتصر لكرامة الأمّة المهدورة ، وحقوقها المضيّعة .
5 ـ واقع الأمّة المتخلّف على كلّ المستويات ، والتبعيّة المفروضة عليها منذ عقود .
6 ـ الانسياق مع طبيعة الاستعجال الفطريّة ، والجهل بسنن الله في الخلق والأمر .
ففي الشباب طاقة حيويّة هائلة ، وروح متمرّدة ، واندفاع أهوج ، وطبيعة استعجال ، لم تنضجها التجارب ، ولا تقبل التعقّل أو التريّث ..
وإذا كان أكثر الناس لا يتعلّمون إلاّ من تجاربهم .. فإنّ أكثر الشباب ليسوا بذوي تجربة أصلاً ، ثمّ هم لا يعترفون بتجربة أحد ..
7 ـ الفجوة الكبيرة بين الأمّة وعلمائها الربّانيّين .. والفراغ لا بدّ أن يملأ .
فأكثر العلماء الموثوقين في دينهم وعلمهم لا تتّسع صدورهم للشباب ، ولا يقتربون منهم ، ولا يصبرون على تعليمهم ، وإذا رأوا منهم ما يعدّونه سوء أدب زجروهم ، وأغلظوا عليهم بالقول ، ممّا يجعل الشباب ينفرون عن مجالستهم ..
وهذه النقطة لها أسبابها الموضوعيّة ، وتحتاج إلى مزيد من البيان ، ولا ينفع فيها الاقتصار على لوم الشباب ، وإلقاء المسئوليّة عليه والاتّهام ، كما هي اللغة الشائعة على ألسنة كثير من العلماء الموثوقين ومحبّيهم ..
ويمكن إجمال هذه الأسباب في النقاط التالية :
1 ـ الثقة بالعلماء لا تفرض فرضاً ، وإنّما تفرضها مواقف الدفاع عن الحقّ ، والالتزام الأمثل بدين الله تعالى ، وسنّة نبيّه صلّى الله عليه وسلّم وهديه .
2 ـ كثرة اللوم والتقريع من العلماء للشباب ، وانتقاصهم ، والتقليل من طاقاتهم وإمكاناتهم ، ممّا ينفرّهم عن الاتّصال بالعلماء والتلقّي عنهم .
3 ـ لغة الخطاب لدى بعض العلماء قاسية منفرّة ، متعالية جافية ، متشنّجة متّهمة ، بعيدة عن الرفق والهدي النبويّ . وقد انتقلت هذه اللغة وللأسف إلى أولادهم ، مع أنّ العلماء ينبغي أن يكونوا الأبوّة الحانية للشباب والقيادة الحكيمة للأمّة ، ولا يعذرون بالتخلّي عن مسئوليّتهم نحوهم .
4 ـ وقوف بعض العلماء مواقف التهم ، دون أن يبيّنوا للناس حجّتهم فيما يعملون .
5 ـ كثرة علماء السوء ، الذين يبيعون دينهم بعرض من الدنيا ، جعلت العلماء الربّانيّين في مواقف لا يحسدون عليها .
6 ـ انفصال كثير من العلماء عن الواقع ، واشتغالهم بما يضرّ الأمّة ولا ينفعها .
7 ـ عشوائيّة العمل الدعويّ مع الشباب لدى كثير من العلماء ، أو بعدهم عنه أصلاً ، واشتغالهم بمسائل فرعيّة ، يقتلون بها أعمارهم ، وأوقات الأمّة .
8 ـ قلّة صبر العلماء على أخطاء الشباب وتجاوزاتهم ، وهم أعلم الناس بهدي النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في الصبر على خطأ الجاهل ، والرفق في تعليمه .
9 ـ تمسّك كثير من العلماء بمناهج عليها ملاحظات كثيرة ، وإصرارهم عليها ، ونشرها بين الناس ، واستماتتهم في الدفاع عنها ، وهي لا تخدم حقّاً ، ولا تدفع باطلاً ..
ولي على هذه الأسباب أمثلة ومواقف ، عاينتها بنفسي ، ولا يتّسع المقام هنا لذكرها ، ولعلّها لا تخفى على أكثر المهتّمين المتابعين .
وأختم مقالي بهذه النقول الذهبيّة عن أئمّة الإسلام :
قال الفضيل بن عياض رحمه الله : « لو أنّ أهل العلم شحّوا على دينهم ، وأكرموا العلم وصانوه , وأنزلوه حيث أنزله الله , لخضعت لهم رقاب الجبابرة ، وانقاد الناس لهم , ولو اشتغلوا بما يَعنيهم لعزّ الإسلام وأهله , ولكنّهم استذلّوا أنفسهم , ولم يبالوا بما نقص من دينهم ، إذا سلمت لهم دنياهم ، وبذلوا علمهم لأبناء الدنيا ، ليصيبوا ما في أيديهم , فذلّوا ، وهانوا على الناس » .
وقال الإمام الذهبيّ رحمه الله : « الصدع بالحقّ عظيم ، يحتاج إلى قوّة وإخلاص ، فالمخلص بلا قوّة يعجز عن القيام به ، والقويّ بلا إخلاص يُخذَل .. فمن قام بهما كاملاً فهو صِدّيق ، فلا أقلَّ من التألّم والإنكار بالقلب ، وليس وراء ذلك إيمان ، فلا قوّة إلاّ بالله عزّ وجلّ » . سير أعلام النبلاء 11ـ 234
ويقول ابن القيم رحمه الله : « وأيّ دين .؟ وأيّ خير .؟ فيمن يَرى محارمَ الله تُنتهَكُ ، وحُدودَه تُضيّعُ ، ودينَه يُتركُ ! وسنّةَ رسُول الله صلّى الله عليه وسلّم يُرغَبُ عنها ! وهُو باردُ القلب ، سَاكتُ اللسان ، شَيطانٌ أخرسُ ، كما أنّ مَن تكلّمَ بالباطل شَيطانٌ ناطقٌ ! » .
جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

التعليقات
يرجى تسجيل الدخول