لم يأمر النبي بإخراج زكاة الفطر قوتا

لم يأمُرِ النّبيُّ بإخراج زكاة الفطر قُوْتاً

د. علي محمد زينو

 

الحمدُ لله، والصلاة والسلام على عبده ومصطفاه، سيدِنا محمّد وعلى آله وصحبه ومَن اهتَدى بهُداه. وبعد.

فقد انتشر مقطعٌ مصوَّرٌ لأحد المتكلِّمين - ممّن يَزعُمُ ويُزعَمُ له البصرُ بأصول الفقه - فيه الكثيرُ من التحامُل على السّادة الفُقهاء، والافتئاتُ على السلَف الصالح، والخلَف العالِم، والله المستعان.

فقد انطلق المتكلمُ في كلامه مِن التأسيس في ردّ كلام أئمّة السلف والخلف على قاعدة «الأصلُ في العبادات التوقيفُ»، فأساء فهمَها، ثم اتّكأ على سُوء فهمِه لها في تفريعِ أنها تعني بِدعيّةَ وبُطلانَ وردَّ كلِّ صفةٍ وهيئةٍ في عبادةٍ من العبادات لم يأتِ بها التوقيفُ، أي: الرّوايةُ عن النبيّ .

والذي يجب التأكيدُ عليه أن هذا التفريعَ الفاسدَ على القاعدة الصحيحة باطلٌ أشدَّ البُطلان، فاسدٌ غايةَ الفساد، ويستطيع أضعَفُ الناس في العلم ـ ممّن سلِم من التعصُّب ـ أن يستحضرَ من أفعال الصحابة والتابعين وأئمّة المسلمين جيلاً بعد جيل مقداراً وفيراً من الشواهد العملية التطبيقية على انحرافِه، إلا أنّ التعصب الـمُجرِّئَ على تخطيء الصّحابة ـ فمَن بعدَهم من الأساطين ـ يدفع إلى التّعامي عن الشمس في رابعة النهار!

ثم زعم هذا المتكلّم أن النبيَّ أمر بإخراج زكاة الفطر قُوتاً، وهذا تقوُّلٌ على النبيِّ ، وهو منقوضٌ بقاعدة ذلك المتكلّم التي انطلَق منها؛ إذ لا دليلَ من الرواية قطُّ فيه أن النبي أمر بإخراج زكاة الفطر «قُوتاً»، بل الواردُ عنه ذِكرُ أصنافٍ تُخرَجُ منها زكاةُ الفطر؛ هي ـ بمجموع الأحاديث ـ التمر، والزبيب، والشعير، ومنه السُّلْت الواردُ في بعض الروايات، والأَقِطُ، والبُرُّ، أو الحِنطة، وهي المقصودة بـ«الطعام» الواردِ في بعض الروايات.

فكان على ذلك المتكلّم ـ وفقاً لقاعدته ـ منعُ إخراج أيِّ شيءٍ عدا هذه الأصناف المذكورة؛ لأنّ التوقيفَ بالروايةِ لم يأتِ إلا بها، وهذا عينُ منهج الظاهرية الذين لم يُجيزوا إخراجَها إلا من التمر والشعير فحسبُ، بل عمَد كبيرُهم ابنُ حزمٍ إلى ردّ الأحاديث والآثار التي ورد فيها أن الصحابةَ كانوا يُـخرجون زكاة الفطر في زمن النبيّ أطعمةً أخرى!

ويأتي السّادةُ الحنفيةُ عقبَ الظاهريةَ في التضييق فيما تُخرَجُ منه زكاة الفطر؛ حيث يرَون أنها تُخرجُ من أربعةِ أشياءَ فحسب، هي: الحنطةُ والشعيرُ والتمرُ والزبيب، ويجوز ـ كما هو معلومٌ من مذهبِهم ـ دفعُ القيمة عندَهم، بأن يُعطي عن جميع ذلك القيمةَ دراهمَ أو دنانيرَ أو فُلوساً أو عُروضاً أو ما شاء؛ لأن الواجبَ ـ في الحقيقة ـ إغناءُ الفقير، لقوله : «أغنوهم عن المسألة في مثل هذا اليوم»، والإغناء يحصُل بالقيمة، بل أتمّ وأوفرُ وأيسَرُ؛ لأنها أقربُ إلى دفع الحاجة، فيتبيّن أن النص معلَّلٌ بالإغناء.

وأمّا كونُ زكاة الفطر قوتاً فهو اجتهادُ الجمهور وتوجيهُهم لِما ورد من الأحاديث والآثار الشريفة، حيث يرى السادةُ المالكية أنّ زكاة الفطر تجبُ من غالب قُوت البلد من أصنافٍ تسعة هي: القمح، أو الشعير، أو السُّلت، أو الذرة، أو الدَّخَن، أو التمر، أو الزبيب، أو الأقِط، وهو يابسُ اللبن المخرَجُ زُبدُه، فيتعين الإخراجُ مما غلَب الاقتياتُ منه من هذه الأصناف التّسعة، ولا يُجزئ الإخراجُ من غيرها، ولا منها إن كان غالبُ القُوت غيرَه.

وذهب الشافعية إلى أنها تجبُ من غالب قوتِ البلد أو المحلّ؛ لأن ذلك يختلفُ باختلاف النواحي، والمعتبَر في غالب القوت غالبُ قُوت السنة، ويجزئ الأعلى عن الأدنى، لا العكس، وذلك بزيادة الاقتيات في الأصحّ لا بالقيمة، فالبُرّ خيرٌ من التمر والأرُزّ، والأصحُّ أن الشعير خيرٌ من التمر، وأن التمر خيرٌ من الزبيب، ولو كان في بلدٍ أقواتٌ لا غالبَ فيها تخيَّر، والأفضلُ أشرفُها.

وقرّر الحنابلةُ أنه يجب المنصوصُ عليه من البرّ والشعير والتمر والزبيب والأقط، فإن لم تُوجَد هذه الأصناف يُجزئه كلُّ مُقتاتٍ من الحبوب والثمار، ولا يُجزئ المقتات من غيرها كاللحم واللبَن. وظاهرُ المذهَب أنه لا يجوز له العُدولُ عن هذه الأصناف مع القُدرة عليها، سواء كان المعدولُ إليه قُوتَ بلده أو لم يكُن، ويجوزُ إخراجُ الدّقيق والسَّويق، ولا يجوز إخراجُ الخبز، ومن أيِّ الأصناف المنصوص عليها أخرَج جاز، وإن لم يكُن قُوتاً له، أو كان قوتُه غالبَ قُوتِ البلد(1).

فلينظر الناظر إلى بُعد نظر الفقهاء وعُمقِه، وليُقارن بسطحية الظاهرية المعاصرية وسذاجتها. والله المستعان على ما يصفون.

هذا رد موجز على هذه الشبهة وننبه إلى أن سرد أقوال المذاهب لأجل بيان ما استنبطته جميعاً من النص، وأن «القوت» استنباط مختلف في ضبطه عند من يقول به، فكيف يُنسب إلى النبي ؟!!

إنّ دعوى أن النبي أمر بالقوت دعوى باطلة من جميع الوجوه، لا تشهد لها نصوص الرواية، ولم يقل بها أحد من المذاهب، ولا حتى الظاهرية.

سيدنا النبي صلى الله عليه وسلم أمر بإخراج زكاة الفطر، وثمة عدة أشياء وردت بها الروايات.

كل ما وراءَ ذلك لا يُنسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، لا القوت ولا القيمة ولا غير ذلك.

القول بالقوت ـ وله تفاصيلُ مختلف فيها ـ هو فهم العلماء المجتهدين، والقول بالقيمة هو فهمُ العلماء المجتهدين، ونسبة أحد الفهمين إلى النبي صلى الله عليه وسلم تقويلٌ له ما لم يقُل عليه الصلاة والسلام

 

هوامش:

1-  ملخّصاً من «الفقه الإسلامي وأدلته» للدكتور وهبة الزحيلي رحمه الله (3/ 2044-2046).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين