ماذا نتعلم من مدرسة غزة؟

إن مدرسة غزة ليست وليدة اليوم حيث معركة «طوفان الأقصى» 2023/ 2024م، ولكني أراها مدرسة قديمة بدأت تتبلور معالمها بعد خطة فك الارتباط التي وضعها رئيس وزراء الكيان الأسبق آرئيل شارون عام 2004م، وخرج آخر جندي صهيوني في سبتمبر 2005م.

 

ثم اختارت غزة مع باقي مناطق فلسطين المحتلة الخاضعة للسلطة الفلسطينية خيار المقاومة وإسقاط خيار مفاوضات السلام العبثية؛ فاختارت «حماس»، والتي على إثرها شكلت «حماس» حكومتها عام 2006م.

 

لكن العراقيل الداخلية والخارجية لم تجعل تلك الحكومة تقوم بأعمالها، فما كان من قادة الحركة إلا اتخاذ خيار صعب جدًّا، وكما يقال: آخر العلاج الكي، وهو الحسم العسكري والسيطرة على القطاع، وطرد أتباع السلطة (أبناء اتفاقية أوسلو)، فتم ذلك في عام 2007م.

 

فقامت الدنيا ولم تقعد على «حماس»، حتى إنني سمعت بأذني من أ. جمعة أمين، عضو مكتب الإرشاد بجماعة الإخوان المسلمين، يرحمه الله، آنذاك: إن التبرعات لـ«حماس» بلغت صفرًا؛ فالموجة كانت عالية، حتى إن الدعم المالي وصل أدنى مستوياته.

 

ومن هنا بدأ الحصار على غزة الذي لم يُرفع حتى وقتنا هذا، الذي بلغ 17 عامًا.

وتوالت الحروب على قطاع غزة لاجتثاث المقاومة.

لكن المقاومة وجدت حاضنتها الشعبية، فلاذت بربها وبشعبها، وبما يمدها بها من يؤمنون بالمقاومة من القوى الخارجية في سرية واستخفاء.

وهنا استوت مدرسة غزة على سوقها، تلك المدرسة التي ظهرت تجلياتها في حرب «طوفان الأقصى»، ومما تعلمته من تلك المدرسة:

 

1- السلام بلا قوة تحميه لا يُرجع الأوطان:

فمنذ «أوسلو» والسلطة تسلك نهج السلام أو بالأحرى الاستسلام، ورضخت للعدو المحتل، ولم تُرجع شبرًا واحدًا من الأرض، بل غزت المستوطنات (المغتصبات) الضفة الغربية، وأكلتها أكلاً؛ لذا رأت غزة أن المقاومة هي المشروع الأصلح مع الكيان.

 

2- الخونة والعملاء أذرع يجب قطعها:

فلولا الحسم العسكري لما أصبحت غزة كما نراها اليوم، وهي تظهر كمُدية في خاصرة الكيان الصهيوني، وبسببها نزف الكيان نزفًا لم ينزفه من قبل إلا في حرب العاشر من رمضان مع المصريين.

والخونة والعملاء ضررهم على المقاومة لا يماري فيه أحد؛ فلولاهم لما وصل الكيان للمقاومة ورؤوسها إلا بشق الأنفس، لكن هؤلاء يسهلون المهمة.

والأدهى والأمر لو وصل الخونة لمناصب رفيعة؛ فإنهم يحكمون نيابة عن المحتل، وإن أظهروا أحيانًا أنهم معارضون لبعض أفعال الاحتلال.

والتهاون مع هؤلاء دليل ضعف، وسوء تقدير لعواقب الأمور.

 

3- الحاضنة الشعبية للمقاومة:

لولا إيمان أهل غزة بعدالة قضيتهم وقدسيتها، وأن الدماء هي ثمن الحرية، وأن المقاومة هي سبيل التحرير؛ لما رأينا ما نراه اليوم؛ فبعد تدمير معظم القطاع، وبشاعة القصف، وغباء الانتقام، لم نر من الغالبية رفع الغطاء عن المقاومة، أو اتهامها بأنها السبب فيما حصل، أو الكفر بها، بل المساندة المعنوية، والصبر على اللأواء، وعدم تفتت الجبهة الداخلية رغم محاولات العدو وأذيالهم في الإيقاع بين الشعب والمقاومة.

وقد رأينا في بلدان أخرى أن بعض المقاومات تم سحقها؛ لأنها لم تجد حاضنة شعبية، فسهل اقتلاعها وتقليم أظافرها والتنكيل بها.

 

4- التحرر ليس نزهة:

سهل للكثيرين أن يرفعوا الشعارات الرنانة، لكن القليلين هم الذين يعملون من أجلها، وقد تصدح الحناجر بطلب رحيل المحتل، أو إفراجه عن الأسارى، أو توقفه عن بناء المغتصبات، لكن هذا الصياح لن يغير شيئًا، ولن يوقف عدوًّا عن عمله، بل قد يتمتع بسماع هذا الصياح الذي يذهب أدراج الرياح.

نعم إعلان الاعتراض، والتظاهر لإبلاغ الآخرين رفض صنيعهم أمر ممدوح، لكن عدم سلوك مسالك أخرى من شأنها إفشال مخططات العدو يعتبر عجزًا، ويمهد الطريق لطول أيام العدو وبقائه.

فإذا امتزج القول والعمل، واتخذت كل الوسائل لإيقاف العدو وردعه، فإن أيام العدو ستكون قليلة، ويوشك أن يتحرر البشر والحجر من قبضة العدو.

 

وضريبة سلوك طريق التحرير تدفع من الدماء والأعمار والأموال والأولاد والأعراض.. إلخ.

 

5- جند وقادة مقاومون:

إذا امتزجت دماء القادة والجنود مع الشعب، فإن ذلك يعني صدق التوجه، وصحة الطريق، ووحدة الهدف.

فطالما بذل الكل من دمه، فإن الجنود سيطيعون قادتهم وسيفدونهم بأرواحهم، والشعب سوف يثق في مقاومته، ولن يتخلى عنه مهما كانت النتائج، والقادة سوف يبذلون مهجهم وأرواحهم من أجل عزة شعبهم وتحرره.

 

6- عدم اليأس أو الاستسلام للواقع:

قد نبرر جبننا بدعاوى الحكمة، ونغلف خوفنا بغلاف زائف من فقه الواقع، ونستر عجزنا بثوب ممزق من مراعاة مصالح الناس ورغبتهم في الحياة وتوفير الحياة الكريمة لهم.

لكنْ ذوو البصائر والعزائم لا يستسلمون للواقع، بل يعملون على تغيير هذا الواقع.

فالحصار طال على أهل غزة، لكن الشعب تشبث بإيمانه بربه وعدم التخلي عن مقاومته، والمقاومة اجتهدت في تطوير نفسها تدريبًا وتسليحًا؛ فعملت على استيراد الأسلحة بأي طريقة لمقاومة العدو، ولم تكتف بذلك، بل صنعت أسلحة محلية أظهرت كفاءة عالية في الفتك وتدمير أحدث أسلحة العدو، أو توازن الرعب.

وكثرة الحروب على القطاع لم تزدهم إلا إصرارًا في سلوك طريق المقاومة، والإثخان في المحتل، والتطوير الدائم للقدرات والخطط.

ويوم أن قامت فكرة الجدران العازلة الضاربة في الأرض العالية في السماء في رأس العدو ونفذها، كانت فكرة الأنفاق التي استشهد في سبيل تنفيذها الكثيرة من خيرة الشباب، وبذلوا الجهد والوقت في إنشائها، وكانت سلاحهم في الفتك بجنود الأعداء في أرض المعركة.

 

7- الإعداد بما يستطيعون من قوة:

لقد صنع الكيان لنفسه صورة مخيفة رادعة لأعدائه المحيطين به؛ فهو الجيش الذي لا يُقهر، وهو صاحب الأسلحة النووية، وأقوى جهاز مخابرات.. إلخ.

هذه الصورة لم تُخِف المقاومة، بل أخذوها في الاعتبار، ودرسوا كيف لهم أن يزيلوا تلك الصورة، وفهموا من دينهم أنهم مطلوب منهم بذل الجهد، والإعداد على قدر الوسع؛ فجابهت قوتهم على تواضعها تلك الترسانة الهائلة الجهنمية للأعداء.

فأسقطت صواريخ المقاومة القبة الحديدية.

وأسقطت قذيفة «الياسين» دبابة «الميركافا» ومدرعة «النمر».

وقنصت بندقية «الغول» جنود الأعداء وحصدتهم حصدًا.. إلخ.

 

8- التشبث بالأرض:

عمل العدو على تهجير أهل غزة طوعًا وقسرًا، واستخدم أسلوب الأرض المحروقة، وضرب الجميع بلا هوادة، فزاد التشبث بالأرض، وعملوا على إفشال مخطط العدو.

 

فما حدث من قبل في صبرا وشاتيلا وكان سببًا في التهجير لن يروع أضعافه اليوم أهل غزة، ولن يتركوا أرضهم، وإما أن يعيشوا عليها، أو يدفنوا في بطنها.

 

9- اتحاد فصائل المقاومة:

كما اتحد الشعب مع مقاومته لم تخذل المقاومة الشعب فاتحدت فيما بينها، وعمل كل فصيل قدر جهده واستطاعته، ونسقوا فيما بينهم للإثخان في العدو، فقاموا بالعمليات المشتركة فيما بينهم، وهذا يدل على أن الهدف واحد وهو مقامة العدو ودحره.

وأخيرًا، فهذه بعض الدروس التي وقفت عليها من تلك المدرسة العظيمة التي حفرت اسمها في صفحات التاريخ المنيرة.

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين