محمد صلى الله عليه وسلم رسولُ الحرية 5 / 6

 

 

[عود إلى قصة الفيل]

 

قرأت مقالة في عدد رمضان في إحدى المجلات، وما انتهيت من قراءتها حتى وجدت الأسف يتملكني:

 

أولاً: لأنَّ واحداً من بني الإنسان لم يستطعْ أن يضبط أعصابه أمام كلمة حق لم يرد بها إلا وجه الله تعالى فراح يَهذي بكلام أبعد ما يكون عن الحق والصواب.

 

وثانياً: لأنَّ هذه المجلة – ولأول مرة في تاريخها – وهي المجلة الوقور اضطرت – عملاً بحرية النشر – أن تُسوِّد بعض صفحاتها بهذا الغُثاء.

 

ومما زاد الطين بلة أن هذه المجلة الكريمة علينا جميعاً نشرت ما لم يكن ينبغي أن ينشر في شهر رمضان المبارك.

 

ولعل المجلة أرادات أن تبيِّن للقراء – وبنموذج مكتوب – الطريقة المثلى في المناقشات العلميَّة عند هؤلاء الذين يتصدون للقول في تاريخ الإسلام بغير علم.

 

وقد خطر لي – بادئ ذي بدء – أن أعفو عن صاحب هذه المقالة فلا أثقل على قلبي ولا على القراء بتذكر ما كتب، ولكني ذكرت أنَّ الموضوع يتصل بالدين، وليس من حقي أن أسكت عن بيان وجه الحق فيه، وذكرت – ثانياً – قول شاعرنا شوقي – ويبدو أن تذكره ضروري في بعض الأحايين:

 

والشر إن تلقه بالخير ضقت به = ذرعاً، وإن تلقه بالشر ينحسم.

 

وها أنذا أكتب هذه الكلمات وأنا كاره أشد الكراهية.

 

وقبل أن نعاسر (صاحب المقالة) الحساب على ما قاءَه فوق صفحات هذه المجلة نقف وقفة قصيرة عند الكلمة الوحيدة التي تعتبر – على ضعفها – في الموضوع، فقد قال إنه (اعتمد على ما روي عن ابن عباس) في تفسير طير الأبابيل، ولو كان جاداً يحترم نفسه، ويحترم القراء لنَقَل لنا ما قاله هذا الحَبْر، ولكن يبدو أن أحداً لقَّنه هذا الكلام، وظنَّ فيه مخلصاً، فلما رجع إلى المصادر وجد قول ابن عباس لا يؤيد زعمه، وهذا إذا أحسنا به الظن وتخيلنا، أنَّه فهم ما روي عن ابن عباس.

 

ولعل من واجبه علينا – كما هو واجب أمثاله – أن نشرح له ما غمض عليه، فنقول وبالله التوفيق:

 

اعلم وفقك الله وهداك أنَّ كتب الحديث والتفسير روت عن ابن عباس في حادثة الفيل روايات، منها ما رواه ابن سيرين عنه في صفة الطير، قال: كانت طيراً لها خراطيم كخراطيم الفيل، وأكف كأكف الكلاب، وما رواه عطاء عنه أيضاً قال: طير سود جاءت من قِبل البحر أفواجاً أفواجاً.

 

وأظن أنَّ الذي يصف شيئاً يعترف بوجوده، وكل من أنكر ذلك ينبغي ألا يكلم بل إننا نتهم عقولنا إذا خطر لنا أن نجادله.

 

أما الرواية التي لُقِّنها (صاحب المقالة) وظنَّ أنَّ فيها غَناءً، فما رواه عكرمة عن ابن عباس لما أرسل الله الحجارة على أصحاب الفيل لم يقع حجر على أحد منهم إلا نفط جلده، وثار به الجدري.

 

وعلينا أن نشرح (للمؤلف الكبير، وللعالم النحرير متبسطين ما أمكن حتى يفهم، فنقول: يا هذا في العبارة المروية ثلاث جمل في كل منها فعل وفاعل، وفي الأولى منها مفعول: (لم يقع حجر على أحد إلا نفط جلده، وثار به الجدري). يقع فعل وحجر فاعل، و(على أحد) في مكان المفعول.

 

وطبعاً القتل يقع من الفاعل، وهكذا في الجملتين الأخريين، فإذاً، هنا حجر وقع، وإنسان وقع عليه الحجر، ونتيجة لهذا الوقوع وهي نفط الجلد وثوران الجدري، فالجدري نتيجة لوقوع الحجر. وإذن فابن عباس رضي الله عنهما لم ينكر أن حجراً وقع. بل لقد روي عنه في وصفه، حديث – ولم يجعل الجدري طارئاً مع جيش أبرهة، ولم يجعله عاصفاً بأهل مكة قبل مجيء هذا الجيش.

 

ولكي يتأكد القرَّاء أنا لم نتجنَّ على (صاحب القالة) نعيد مرة أخرى ما كتبه في هذا الشأن: قال في صفحة 21 من كتاب له: (ولكن مكة بلد يغشاه الوباء... جاء الوباء مع أبرهة ملك الحبشة الذي أراد أن يستولي على مكة ويهدم الكعبة).

 

وقال في صفحة 22 من نفس الكتاب: (ولم يكد جيش أبرهة يتقدَّم حتى عصف برجاله الوباء الذي كان يعصف بمكة، فإذا برجال أبرهة يتساقطون مرضى بالجدري، معهم أبرهة نفسه، وما أغنى عنهم الفيل، وهكذا فرَّ أبرهة عائداً إلى صنعاء بفلول جيش ممزَّق يتخاطف الوباء والموت من بقي من رجاله، فيتهاوَوْن على الطريق كعصفٍ مأكول).

 

والواضح من العبارات الأولى أنَّ الوباء جاء مع جيش أبرهة، وأنَّه أصاب أهل مكة بعد مجيء هذا الجيش، ومن الثانية أنَّ الوباء سبق جيش أبرهة، وبدهي أنَّ المؤلف لم يفطن لهذا التناقض.

 

ولكن الذي يَنبغي أن يُفطن له أنَّ كِلا العبارتين يجعل ما أصاب جيش أبرهة وباءً لا صلة له بالطير الأبابيل.

 

فلعل صاحب القالة لا يتمسح بعد ذلك بابن عباس، ولا بغيره من العلماء، ولعله لا يجيء ليعلمنا أنَّ ابن عباس رضي الله عنهما إمام المفسرين بالإجماع.

 

وقد كان يمكننا أن نقول له شيئاً لا يعرفه، وهو أنَّه لم يصح – عند العلماء – عن ابن عباس إلا مائة حديث على كثرة ما رُوي له، ولكنا آثرنا أن نسلم له أن ما قاله ابن عباس رضي الله عنهما في هذه الحادثة صحيح عنه، ثم نضع يده على التفسير الصحيح.

 

ومن مُغالطات المؤلف – أو من عدم إدراكه لا أدري – أن يدَّعي أنَّ الخلاف بيننا على تأويل آية (الطير الأبابيل) فهو يقول: كل ما في الأمر أني أخذت بتفسير (طير أبابيل) على تأويل الآية ولكنك تريد أن تفهمها بظاهر النص، لقد تابعت أنا ابن عباس، وتابعت أنت غيره.

 

وهذا كلام يراد منه إيهام القراء بأنَّ صاحب القالة يعترف بوجود هذه الآية في حين أنَّ كلامه واضح في أنَّه يتجاهلها فأين في كلامه الذي نقلته (تأويل الآية) لقد قال إنَّ الوباء جاء مع جيش أبرهة، أو كان يعصف بمكة قبل مجيء الجيش فهل يفهم من ذلك أن الوباء نتج من رمي الطير بالحجارة، ومن رمت يا ترى؟ جيش أبرهة؟ أم أهل مكة؟!.

 

ويعود للمغالطة مرَّة أخرى فيقول: ما هو الفرق بين أن تُفسِّر الآية بظاهر النص أو بالتأويل.

 

وأقول له: إنَّ معنى التأويل أن تنظر في اللفظ فتأوله، أما أن تتجاهله كلية، فليس هذا من التأويل ولا من التفسير.

 

وإني لأعجب عجباً لا ينقضي من تبجُّحه، وادعائه أنَّه اعتمد على القرآن والتفسير وكتب الدين وأني لأوكد له أنَّه لم يفهم إلى الآن الفرق بين تأويل آية، وبين إهمالها، ولم يفهم كلام ابن عباس رضي الله عنهما على وجهه الصحيح؛ لأنه لا يريد أن يفهم إلا ما كتبه المستشرقون.

 

إن تأويل الحجارة بأنها (الجراثيم)، وإن كان تأويلاً فاسداً غير إنكار الآية فالمؤول يضع النص أمامه ثم يقول في فهمه ما يشاء عن علم أو عن جهل، أما تارك النص فهو الذي يقول عن شيء صنعه الله بجيش أبرهة، أنه جاء مع الجيش، ومعنى هذا أن الله تعالى لم يرسله عليهم، وشتان بينهما.

 

وما بال صاحب القالة لم يصح عنده في تفسير الآية إلا ما ارتضاه المستشرقون هل يستطيع أن يفتينا ما وجه الترجيح وهل جاء ذلك التفسير في القرآن أو في كتب التفسير أو كتب الدين التي اعتمد عليها – كما يزعم؟.

 

أعتقد أنَّ الجواب هناك عند كلامه على غزوة الأحزاب وعدم التفاته أية التفات إلى قوله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا] {الأحزاب:9}.

 

وهو يفهم – إن كان عنده أدنى فهم – ما أعني بهذا الكلام.

 

لقد علَّق الآمدي (صاحب كتاب الموازنة) على بيت لأبي تمام، ولما ضاقت نفسه بما في البيت من غناء صاح: فيا معشر الشعراء والبلغاء، ويا أهل اللغة العربية ألا تسمعون؟ ألا تضحكون؟.

 

ونحن – والله – قد غثيت نفوسنا بما في كلمة (المهذب جداً) فأردنا أن نقول كما قال الآمدي ولكنا وجدناه دون ما نريد أن نقوله بكثير.

 

أظن أنَّ المؤلف بعد ما قلنا – إن كان فهمه - لا يستطيع أن يُعيد النظر مرَّة أخرى، أنَّ هذا الذي جاء في كتابه رأي لابن عباس، أو لأحد من علماء المسلمين، ولم يبقَ إلا أن تحلف له بالله أن ابن عباس مظلوم معه، ومع أمثاله ممن لا يفهمون.

الحلقة السابقة هـــنا

 وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه

 

من كتاب: (تيارات منحرفة في التفكير الديني المعاصر ص 119).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين