محمد صلى الله عليه وسلم رسولُ الحرية 6 / 6

 

[الانحرافات في كتاب " محمد رسول الحرية"]

 

ثم لنعد إلى ما أطال به من سخافات:

 

أول ما طالعنا به أن كتابه ليس كتاب سيرة، ثم عاد ليؤكد هذا مرة أخرى، فما معنى هذا؟!.

 

هل معناها أنه إذا لم يكن كتاب سيرة فلا بأس بالانحراف فيه؟!.

 

هل معناها أنَّه إذا لم يكن شهدوا بدراً وأحداً أن نقول عنهم ما لم يقله أشد المتعصبين على الإسلام؟!.

 

وإني لأنقل هنا بعض ما قاله كارهاً، آسفاً، خجلاً من المسلمين في كل مكان تقرأ فيه هذه المجلة قال – غفر الله له –:

 

(كثير من المسلمين هربوا من الجو الصاخب في بيوت اليهود بعد الانهيار النفسي في غزوة أحد – وروع محمد من مناظر الرجال البواسل الذين ناضلوا معه في بدر وأحد ينحدرون الآن في يأس قاتل فما يفيق الواحد منهم من الخمر، ما يغادر أماكن القمار إلا ليستمتع بإحدى المغنيات أو الراقصات اليهوديات ولا شيء بعد يملأ القلب والفكر غير الرغبة في الفرار من الواقع المعذب، غير أحلام مريضة بالغنى والمتاع، والبحث المضطرب عن العزاء!).

 

هكذا يصور المؤلف الذي لسنا (أكثر غيرة منه على هذا الدين) كما يقول في رده يصور أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بعد أحد

 

: خمر، قمار، تمتع بالراقصات اليهوديات، أحلام مريضة بالغنى والمتاع!.

 

ألا يجد هؤلاء الذين يكتبون عن صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم بمثل هذا الأسلوب من يردعهم!

 

والحق أني لم أفهم وجه دفاعه بأنَّ كتابه ليس كتاب سيرة كما لم أفهم من قبل تعليق – صديقنا المفضال الشيخ عبد الرحيم فودة حين كتب مُعتذراً عن صاحب القالة مُعلقاً على مقالي الأول بقوله: (ذكر المؤلف في مقدمة كتابه أنه لم يكتبه للمسلمين كما ذكر ذلك لبعض من لاموه على ذلك من أصدقائه).

 

فهل معنى هذا أنَّ الكتاب ما دام لغير المسلمين يصح لمؤلفه أن يصوغ حقائق الإسلام كما يشاء، وأن يتجنى على القرآن والرسول والصحابة حسبما أراد؟!.

 

ويقول صاحب القالة: (فالمقال إهدار لآداب الدين واستهتار متحد لقواعد الجدل) ما شاء الله ! المقال الذي يدافع عن القرآن ورسول الإسلام إهدار لآداب الدين فما آداب الدين يا هذا؟!.

 

أمن آداب الدين أن تأتي لتدفع عن نفسك ما دمغتك به من كلمة محقة بهذا الهذر الذي لا يمكن أن يستسيغه ذوق سليم؟

 

أمن آداب الدين أن تعتبر التفسير الصحيح لآية قرآنية كريمة شتائم توجه إلى من تجاهل هذه الآية؟ أمن آداب الدين أن تقول عن حمزة رضي الله عنه ما يفيد أنَّه كان يفجر بفاتنات إسرائيل – بعد إسلامه، بل بعد أن أعزَّ الله به الإسلام؟!

 

أمن آداب الدين أن تقول عن كثير من صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم ممن شهدوا بدراً وأُحداً أنهم كانوا يحملون أحلاماً مريضة بالغنى والمتاع؟!.

 

أمن آداب الدين أن تصف من يرشدونك إلى الحق بأنهم جهلاء؟!.

 

أمن آداب الدين أن تعتبر من يكتب في هذه المجلة بأسلوب واضحٍ لا لَبْس فيه ولا غموض أنَّه يَهمز ويَلمز.

 

ولكن لأرفق بك قليلاً، إنك تقول: (بأي أصل من أصول آداب الدين يبدأ مقاله عني بقوله عن كتابي ألفه أحد العاملين في الصحافة (طبعاً لم يؤلمك إلا تجاهل اسمك الكريم. وسأرشدك إلى أنَّ هذا القول صدر عن أصل عظيم من أصول آداب الدين.

 

لقد تعوَّدت – يا ذاك - في كل ما كتبت أن أذكر اسم المؤلف أو صاحب المقال حين أثني على كتابه أو مقاله، وأن أطوي هذا الاسم حينما يكون في الكتاب أو المقال ما يؤخذ دينياً عليه، حتى لا أعرضه لقالة السوء من القراء فليس من قصدي أن أسيء إلى أحد، وإنما كل ما أعني به أن أناقش الأفكار والآراء.

 

أرأيت – أيها الجهبذ - المتأدب بآداب الدين عن أية نية حسنة صدر عني إغفالي لاسمك (الشهير) فيما كتبته عن كتابكم (العظيم) المبرأ من كل عيب، إلا سبَّ الصحابة وأشياء أخرى.

 

وصاحب القالة يرى أنَّ ما في المقال لا يستحق الردَّ وهو أسلوب ألفناه ممن لا يستطيعون أن يقولوا شيئاً يصلح أن يكون رداً علمياً صحيحاً، وقد تأيَّد هذا بمسلك الكاتب المفحم، فما في كلمته شيء يمكن أن يوصف بأنه رد، الكلمة الوحيدة التي موَّه بها تبين أنه لا يدرك ما وراءها.

 

وكيف خلا المقال مما يستحق عناء الرد، والمؤلف قد اهتزَّت له أعصابه، وطار صوابه، وأدرك أن (شرف الكلمة) ليس في أن يقول كل من هبَّ ودبَّ ما شاء، ولكن في أن يقول الإنسان فيما يستطيع أن يقوله فيه، وأنَّ الحرية الحقيقية ليست في أن يتهجَّم الكاتب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى صحابته، في صورة التاريخ لهم، بل أن يلتزم الأدب مع هؤلاء الذين رفعوا راية الإسلام، وكانوا كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم) [هذا الحديث ضعيف ضعفا شديدا، وبعض العلماء حكم بوضعه].

 

وكيف خلا المقال مما يستحق الرد وصاحب القالة لم يستطع أن يردَّ حرفاً واحداً منه لا بما تستر به من الاستظلال الكاذب بظلِّ ابن عباس رضي الله عنهما؟!.

 

ولا شك أنَّه وقع في تيهاء مظلمة حين قرأ المقال فلم يدرِ كيف يأخذ طريقه، فراح يدَّعي أن المقال لا يستحق الرد.

 

وهل تظن – يا ذاك – أنَّ شعرة في رأسي تتحرك حين تصيح بأنَّ المقال لا يستحق عناء الرد؟!.

 

إني لم أكتب المقال، ولا كتبت يوماً مقالاً من هذه المقالات التي أبنت فيها عن زيف كثير من الكتب المؤلَّفة في الدين، وأنا لا أنتظر من الذين كشفت عوارهم أن يرحبوا بما أكتب، فليس جديداً عليَّ أن تقول فيما أكتب ما ينتظر أن يقول مثلك فيه.

 

وإذا كنت تريد مما قلت أنك أرفع من أن ترد، كما يفهم من مقدمة (قالتك) فإني أقول لك المثل العربي: (أَطرِقْ كَرا إنَّ النعامَ في القُرى) [هذا مثل، معناه: أنَّ النعام الذي هو أكبر منك قد اصطيد وحمل إلى القرى. وهذا المثل يُضرب للذي ليس عنده غَناء ويتكلم، فيقال له: اسكت وتوقَّ انتشار ما تلفظ به كراهة ما يعقبه].

 

وصاحب القالة يزعم أننا رميناه في مقالنا بالكفر، وهي دعوة لا دليل عليها، فكلمة التكفير لم يخطَّها قلمي، ولكن يبدو أنَّه مسكين لا يستطيع أن يفرق بين الانحراف والكفر، وكل ما ورد في مقالي الأول عن كتابه قولي عن إسماعيل أدهم أنَّه كان مسلماً، ولكني لست مبتدئاً بهذا وإنما أنا ناقل، فأدهم ألف كتاباً عنوانه: (لماذا أنا ملحد) فلم أتجاوز حكاية ما وصف به نفسه.

 

فنحن لم نكفر المؤلف، ولا حاجة بنا لتكفيره ونحن نعرف رهبة هذه الكلمة، وبذلك لم نحكم على ضميره – كما يزعم – وإنما حكمنا على ما كتب، فقلنا: إنَّه متابعة للمستشرقين وإنه انحراف في التفكير الديني، ولم نقل إنه انحراف في العقيدة، ولكن صاحب القالة أراد أن يَستثير شفقة القرَّاء وأن يظهر بمظهر الحِمْل المظلوم ليهيئ لنفسه الجو الذي (يلقي) ما يريد أن يلقيه من ألفاظ لا تصدر عن إنسان يحترم نفسه.

 

وقد نسي سيادته أنَّ قراء هذه المجلة كلهم مُسلمون وكلهم حريص على إسلامه، وإنَّهم يغارون على كتابهم المقدس، وعلى سلفهم الصالح، كما يغارون على أعراضهم، وأنَّهم قرأوا ما كتبناه وبعضهم قرأ كتابه، وكتب إلينا يلومنا على أننا رفقنا به في مقالنا.

 

وقد تبجَّح صاحب المقالة فاستند إلى أنَّ القرآن الكريم قصَّ علينا قصصاً وما دام قد فعل فلا بأس عليه أن يكتب سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم في أسلوب قصصي، وإذا كان الله تعالى قد قصَّ فما يمنع الكاتب أن يقصَّ – وها قد جرى اسمك على قلمنا يا سيدي الكاتب.

 

الله يقول: [نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالحَقِّ] {الكهف:13} فهل فهمت كلمة (بالحق) هذه؟ أما أنت فتقص علينا، ما أشرت إليه في مقالين سابقين، وفي هذه الكلمة من تهجُّم على القرآن الكريم، وعلى مقام الرسول صلى الله عليه وسلم ومقام كبار صحابته، فهل نقول لك: شتان، لا والله ولكننا أردنا أن نبين لك خبطك وخلطك وأن نرشدك إلى الأدب مع الله تعالى ومع الناس.

 

بقيت كلمة نحب أن نقولها لكل من يحاول أن يصيدَ في الماء العكر، ولنبين له أنَّ بعض العبارات قد تآكلت من كثرة الترداد، وإنَّها لم تعد تخيف أحداً.

 

فقد ألفنا منهم أن يرددوا كلمات يظنون أنَّها تحميهم، ويقولون: من أين جاء في الإسلام طبقة من رجال الدين لا كهنوت في الإسلام، لا مجامع كرادلة - [الكاردينال جمع كرادلة، وهو مركز رسمي لأسقف مسؤول في الكنيسة الكاثوليكية، وهو عضو مجمع الكرادلة] -، ولا حرمان، ولا صكوك غفران.

 

ونسأل أطفال الكتاتيب، وأعتقد أنهم يحسنون الجواب:

 

هل من يرد مطاعن وُجِّهت إلى الإسلام، ويحكم عليها بأنَّها انحراف يكون (كاردينالاً)؟ أومن رجال (الكهنوت)، وما دخل صكوك الغفران في مثل هذه المناقشات العلميَّة؟!

 

سيجيبون مُوفَّقين: بأن كل ذلك هُراء لا يُراد به إلا الاحتماء خلف هذه الألفاظ ليقولوا ما يشاءون.

 

وإنك – يا ذاك – تستعدي علينا جماعة المتحرِّرين من القيم الدينيَّة، ونحن لا نَحفِل بهؤلاء شيئاً، ومن قبلك ردَّد هذه الكلمات أناسٌ فما وجدوا من جمهرة المثقفين إلا السخرية والاستهزاء.

 

والكلام طويل وحديث الأفاعي طويل المدى كما يقول شاعرنا شوقي وسأقف، ولكني أوجهك إلى أبيات من الشعر إذا كنت سمعت بها فذاك، وإلا فاسأل عنها أهل المعرفة ليقفوك على هذه الأبيات التي مطلعها:

 

قد تَجَرَتْ في سُوقِنَا عقربٌ = لا مَرْحَباً بِالْعَقْرَبِ التاجِرَهْ

 

ثم أخيراً لا أدري أتشكر تلك المجلة أم تَنقم عليها؛ لأنَّها مَكَّنت الرامي من صفاء الثَّغْرة كما يقول العرب – ولا تزال في الزوايا خبايا، ولكن كما يقولون: ما استقصَى كريمٌ قَط، ونحن سنكون معك كرماء.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

 

الحلقة السابقة هـــنا

 

من كتاب: (تيارات منحرفة في التفكير الديني المعاصر ص 119).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين