مدارج التوبة

 

 وأهل الطاعة محتاجون إلى التوبة كما يحتاج إليها أهل الذنوب.

 ومن ظن منهم أنه ليس عنده ما يتوب منه، أو ظن أنه مستغن عن المتاب فقد زل.

 والتوبة يتطلبها هؤلاء من عدة جهات.

 (أ) من الخلل الذي يقع في الطاعات نفسها، فإن أحدا قلما يأتي بالعبادات المطلوبة مبرأة من كل عيب.

 وإن العبد لينظر في صلاته، أو في تلاوته كتاب الله مثلاً، فيرى أن ضباباً من الغفلة اعترضه في آونات كثيرة وهو يصلي أو يقرأ.

 ومن الممكن أن ترفض له هذه القربات بتهمة ثابتة، وهي سوء الأدب ورداءة التقدم بها بين يدي الله تعالى.

 ومن أجل ذلك التقصير المستمر شرع الاستغفار في أعقاب الصلوات ثلاث مرات.

 (ب) من ظن بأن هذه الطاعات هي منتهى حق الله عليه، وأنه بأدائها قد فرغت ذمته، ودفع لله سبحانه ثمن نعمه، وثمن جنته!!.

 وبقي على الله أن يبعث ملائكته لتسلم المغرور مفاتيح الجنة التي استحقها بعمله... !!!

 وبعض ذوي الطاعات ينتابهم شيء من البلادة وتحجر القلب ارتكاناً إلى أشكال العبادات التي فعلوها.

وربما نزلوا بهذه الأوهام والأدواء إلى درك لم ينزل إليه بعض المخطئين، كما شرحنا ذلك في موضعه من حكم ابن عطاء الله...

 (جـ) وصنوف العبادات التي طولب المؤمنون بها كثيرة.

 ومن الناس من يفتح له في ناحية لا يستطيعها غيره لاستعداد زودته الأقدار به من قبل، وليس في هذا حرج.

 إنما الحرج في أن يستكثر الإنسان من عبادة ما على حين يجب عليه التوسع في غيرها وتوجيه فضول نشاطه إليها.

 فالغني الذي يستكثر من الصلوات ويقتصد في الصدقات والنفقات يجب أن يتوب من هذا المسلك.

 والعالم البليغ الذي يصوم الاثنين والخميس، ويلوذ بالصمت أو بالإيجاز في مواطن الزجر والنصح يجب أن يتوب من هذا المسلك.

 إنَّ بعض الناس يؤثر عبادة على أخرى لأنها أدنى إلى هواه، وأقرب إلى السلامة، والدين أحكم في تعاليمه وأدق في موازينه مما يتوهم هؤلاء.

 (د) وحراسة الطاعة بعد أدائها من شتى الآفات ضرورة، كحراسة الزرع من الديدان والأعراض التي تجتاحه.

 والرجل يعطى ثم يمتن ، أو يطلب بعطائه الصدارة بين الناس، رجل يحبط بهذا المسلك عمله، ويضيع أجره.

 وقد رسم القرآن الكريم صورة هذا المحروم من أجره وهو أفقر الناس إليه فضرب له المثل بشيخ طاعن في السن له أولاد ضعاف يرتزقون من حديقة لهم، قد تعلقت بها آمالهم.

 وبغتة صوح نبتها إثر كارثة جوية أحرقتها...!!!

ذلك مثل العمل الصالح يهلك بسوء التعقيب عليه [أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ] {البقرة:266} 

توبة الصفوة، واستغفار الرسول صلى الله عليه وسلم والصفوة الذين نعنيهم هم قوم رسخت في مقام الإحسان أقدامهم، فهم بين مراقبة وشهود.

 حياتهم يبرق عليها سنا من صدق المعرفة وتمام الاستسلام، فلا يكاد يدرك نوره غروب.

 وتوبة هؤلاء تجيء من هبوطهم عن المستوى الذي يجب أن يبقوا محلقين فيه.

 ونحن لكي نستبين منازل الناس يجب أن نعرف أن الاختلاف شديد جداً بين قيم البشر، وأن المسافة بين إنسان وإنسان تصل أحيانا إلى بعد ما بين الأرض والسماء...

 تأمل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم يصف درجات المؤمنين في الجنة: (إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم كما تتراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق من المشرق والمغرب ـ لتفاضل ما بينهم ـ!!

 قالوا: يا رسول الله، تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم.

 قال: بلى والذي نفسى بيده، هم رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين).

 إن الفروق القائمة بين أفراد الجنس البشري واسعة، والله عز وجل يكلّف كل امرئ على مقدار ما أوتي من سعة روحية وعقلية.

 وكما أنّ العطاء من صاحب القناطير المقنطرة يستقل إذا لم يكن غدقاً، فكذلك يستقل الجهد المحدود من ذوي الهمم الضخام.

 وهذا معنى قولهم: حسنات الأبرار سيئات المقربين، أجل إنَّ العمل الذي يعتبر حسناً من إنسان يعتبر تقصيراً من إنسان آخر.

 وذلك ما جعل أحدهم يقول: 

ولو خطرت لي في سواك إرادة =على خاطري يوماً حكمت بردتى 

دوافع هذه المبالغة في الحكم معروفة، وآفاق الكمال الديني بعيدة المدى، [خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ المُتَنَافِسُونَ] {المطَّففين:26}.

 والإحسان عليا منازل المؤمنين، ولكنه أدنى درجات الأنبياء، إنهم لا يهبطون دونه مهما أخطئوا.

وصلتهم بالله تعالى الذي اصطفاهم لحمل رسالاته أزكى وأنقى من أن يلموا بسيئة على النحو الذي نعهد في عامة المؤمنين.

 إنَّ الأخطاء التي يستغفرون منها أنماط من الكمال لا يطيقها أمثالنا ولا ساداتنا.

 وإني أقرأ سورة: [إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالفَتْحُ(1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجًا(2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا(3) ]. {النَّصر}. 

 فأتساءل: مم يستغفر الرسول صلى الله عليه وسلم ربه وهو يستعد للقائه؟.

 إن الصحابة فهموا من السورة أن الله يخبر رسوله باقتراب أجله بعد أن نجح أروع نجاح في أداء رسالته!!

 لقد محا الجاهلية، وبنى الأمة التي صنعت أزهى حضارة في التاريخ، وعليه أن يتهيأ للقاء ربه بعدما أدَّى واجبه كاملاً، وبم يتهيأ؟ بالتسبيح والاستغفار.

 إن المغفلين من الخلق هم الذين يتصورون هذا الاستغفار من أخطاء تشابه أخطاءنا.

 ولا عجب فالحمالون في محطة القاهرة عندما يسمعون بيت المعرى: 

تعب كلها الحياة فما أعجب=إلا من راغب في ازدياد 

لا يتصورون التعب إلا حمل قفف وحقائب، وشد حبال وأحزمة، ذلك مبلغهم من العلم...

 وذلك ما فهمه المستشرقون والمبشرون من أمر الله لرسوله أن يستغفره!!

 زعم بعض أولئك المبشرين أن آيات القرآن تشهد بأن عيسى أفضل من محمد؟ قالوا: إن الله ذكر محمدا صلى الله عليه وسلم في القرآن بما يفيد أنه رجل مذنب!.

 ألم يقل له:[لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ] {الفتح:2} 

 أما عيسى فإن صفته في القرآن أرفع:  [اسْمُهُ المَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ وَمِنَ المُقَرَّبِينَ] {آل عمران:45}.

 ونحن نعرف أن موسى وعيسى ومحمد صلى الله عليهم وسلم رجال عظام، وأنهم من أصحاب العزمات الشداد في إبلاغ رسالات الله، وهداية الخلق بأنوار الوحي الأعلى.

 ونعلم أنهم جميعا متواضعون كرام الخلق لا يفكر أحدهم في الاستعلاء على غيره وانتزاع الصدارة منه، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم أبى على أمته أن تفضله على غيره من الأنبياء.

ونعلم أن ذنوب هؤلاء المنسوبة إليهم وما منهم إلا نسب له ذنب ـ ليست بتة على غرار ما تقترف من سيئات، إنما هو ما ذكرنا آنفا من نزولهم أحيانا عن الأوج الذي يسبحون فيه مع الكواكب، أما هبوطهم إلى مستوانا الأرضي فمستحيل.

 ولكن ما دام الأمر قد غمض في بعض الأذهان حتى تطاولت على مقام النبي الخاتم صاحب الرسالة العظمى فيجب أن نلقى على الموضوع فضل بيان.

 إن مكانة محمد صلى الله عليه وسلم بين إخوانه المرسلين تقررها الوظيفة التي وكلت إليه، وهي وظيفة تعرف ضخامتها عندما تعرف أن الله قسم تاريخ الحياة نصفين.

 نصفاً أول، وزع عشرات ومئات الأنبياء في أرجائه.

 ونصفاً آخر اكتفى فيه بنبوة واحدة لا معقب عليها!!

 ونصف الحياة الأول يمثل الجانب الناشيء، أما نصفها الآخر هو يمثل الجانب الذكي المستحكم الرأي.

 إن محمداً صلى الله عليه وسلم وحسب هو الرسول الذي صاحب العالم في الفترة اليقظة النابهة من تاريخه.

 فعلام يدل هذا؟.

 على أنه أخف كفة من أحد الأنبياء الذين زحموا العالم القديم!!

 وشيء آخر، إنَّ كتاب محمد هو السجل الباقي المستوعب لتعاليم الله دون نقص ولا زيادة، تلك التعاليم التي جمعت وصايا السماء من الأزل إلى الأبد، وكتبت لها صيانة لم تؤثر عن كتاب في الأولين والآخرين، فهي محفوظة حرفاً حرفاً، ولا نقول كلمة كلمة.

 فعلام يدل هذا؟.

 على أن صاحب الكتاب الخالد أتفه حظاً، وأضأل شأنا من أصحاب الكتب التي فقدت أصولها وعراها من التحريف ما عراها!

 هل النبوات المحلية أنبه وأرقى من النبوة التي استطالت واستعرضت حتى وسعت الأمكنة والأزمنة؟.

 إن مكانة محمد صلى الله عليه وسلم بالنسبة لغيره من الأنبياء قد عرفت وتوطدت بعد ما استبانت حدود رسالته، وعرف المستقدمون والمستأخرون: أي مهمة أعدتها له الأقدار، وزودته لاحتمالها بأنفس المواهب؟.

 نعم، لقد استغنى بهذه الشهادة العلمية عن تزكية الكلام.

 وأضحى في المنصب الذي يمنح هو فيه الآخرين ما يدفع عنهم الشبه ويرد المفتريات.

 ولذلك أجرى الله على لسانه الآيات التي تعلى قدر ابن مريم، وانساق الأسلوب فيها أقرب إلى الإطناب منه إلى الإيجاز.

 لماذا؟ لأن النبي الكريم عيسى صلى الله عليه وسلم تعرض لاتهام ساقط، وقذفت أمه المحصنة بما هي منه براء، فكان هدف القرآن تبرئة الرجل الشريف، والإشادة بشخصه والثناء عليه بما هو أهله.

 وكذلك كان موقف القرآن من موسى صلى الله عليه وسلم لما آذاه اليهود ونالوا منه: [فَبَرَّأَهُ اللهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللهِ وَجِيهًا] {الأحزاب:69}.

 وبديهي أن موقف الدفاع عن شخص ما إنما يقوم على إعظامه وتكريمه وذلك هو السر في التنويه بعيسى على النحو الذي حفل به القرآن...

 ولا مجال لعقد مقارنة بين الرسولين عيسى ومحمد، لأن ذلك لا باعث عليه ولا محل له ولا فائدة فيه.

وإنه لمما يعلي قدر محمد صلى الله عليه وسلم أن يكون كتابه مقتضباً في مدحه، مرسلاً في مدح غيره.

 لقد تدبرت هذه وأنا أقرأ آيات من سورة الدخان، ووجدت أن الله جلَّ شأنه أعظم محمداً صلى الله عليه وسلم بهذه المعاملة.

 قال يصف موقف العرب من الرسالة وصاحبها: (أنى لهم الذكرى وقد جاءهم رسول مبين * ثم تولوا عنه وقالوا معلم مجنون * إنا كاشفوا العذاب قليلا إنكم عائدون * يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون).

 كل الذي وصف به محمد هنا هو الإبانة.

 فلننظر ما جاء بعد في موسى ورسالته: (ولقد فتنا قبلهم قوم فرعون وجاءهم رسول كريم * أن أدوا إلي عباد الله إني لكم رسول أمين * وأن لا تعلوا على الله إني آتيكم بسلطان مبين)

 إن موسى صلى الله عليه وسلم هنا وصف بالكرم والأمانة وبأنه آت بسلطان مبين!!

 هذا السياق المختلف هو الآية على عظمة محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى أنَّ الله تعالى جعله إمام الأنبياء طراً.

 إنَّ الله سبحانه أجرى على لسان الأخ الأكبر ما يليق بمكانته من دفاع عن إخوته وتنويه بجهادهم وإبراز لما خفي منه...

أما هو فحسبه أصل الاصطفاء لإبلاغ أضخم رسالة سماوية.

 رسالة أنقذت من العدم تراث من قبله، وردت إليه الحياة، ثم نهدت لقوى الشر التي هزمت الوحي وحملته في الأعصار السالفة فدمرتها تدميرا.

 إن إمامة محمد صلى الله عليه وسلم تشهد بها دلائل كثيرة، فإذا أنكرها البعض فلا ضير.

 لقد قال عن نفسه ـ إخبارا بالواقع فقط ـ: (أنا سيد ولد آدم ولا فخر).

 إنه لا يذكر ذلك فخزاً، بل كما يذكر ترتيب الناجحين في امتحان أو مباراة.

 لتقرير حقيقة علمية ينبغي أن تعرف ولا معنى لسترها.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم

المصدر كتاب الجانب العاطفي من الإسلام

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين