مدخَل إِلى فنِّ الاختِلاف: تعريفُ الرَّأي

قال شيخنا العلامة المحقق المحدث محمد عوامة حفظه الله ورعاه

في كتابه النافع الماتع "أدب الاختلاف في مسائل العلم والدين":

مجالات الاختلافِ ـ والخلافِ ـ كثيرة جداً، ولو أردتُ أن أعبِّر عن كثرتها بلسان أهل الشعر والأدب ـ الذين عُرفوا بالمبالغة ـ لقلت: مجالات الاختلاف متعددة بتعدُّد نفوس البشرية!

وقد عبَّر الإمام الشافعي رضي الله عنه بجملة وجيزة جداً، عن سبب واحد من أسباب الاختلاف، تدلُّ على هذه الكثرة، فقال: «.. إذِ الرأيُ إذا كان تُفُرِّق فيه». و«كان» هنا تامة، بمعنى: وُجِدَ. أي: إذا وجد الرأي في أمرٍ مّا حصل التفرق ودخل الاختلاف، وتَعددت الآراء، وتباينت المفاهيم.

والرأي هنا: عرَّفه الراغب الأصفهاني رحمه الله في «مفرداته» بقوله: «الرأي: اعتقادُ النفس أحدَ النقيضين عن غلبة الظن».

وعرَّفه ابن القيم في «إعلام الموقعين»(1): بـ«ما يراه القلب بعد فكر وتأمُّل وطلبٍ لمعرفة وجه الصواب، مما تتعارض فيه الأمارات».

وعرَّفه الباجي في «المنهاج في ترتيب الحِجَاج»(2) بأنه: «إدراكُ صوابِ حكمٍ لم يُنَصَّ عليه». وعرَّفه في كتابه الآخر «إحكام الفصول»(3) بأنه: «اعتقاد صواب الحكم الذي لم يُنصَّ عليه».

وقال إمام الحرمين في كتابه «الكافية في الجدل»(4): «الرأي: طلب الحق بضَرْب من التأمُّل، وقيل: هو استخراج صواب العاقبة».

وقال شيخنا العلامة الشيخ عبد الفتاح أبو غدة رحمه الله تعالى بعد ما أملى عليَّ هذه النقول الثلاثة الأخيرة: الأَوْلى في تعريفه أن يقال: هو ظنُّ صواب الحكم ورجحانُه فيما لم يُنصَّ عليه. انتهى.

والفوارق بينها دقيقة، أو لا فرق بين البعض منها. وما حكاه إمام الحرمين بأنه استخراج صواب العاقبة: يصلح أن يكون تعريفاً عاماً للرأي في الاجتهاد في الأحكام وغيرها. وهو كتعريف الصلاح الصفدي له في «شرح لامية العجم»(5) هو: «التفكر في مبادئ الأمور، ونظر عواقبها، وعلمُ ما تؤول إليه من الخطأ والصواب» ثم حكى(6) قول علي رضي الله عنه: «رأي الشيخ خير من مشهد الغلام».

فذهابُ عالم مّا إلى قول في مسألة مّا، بعد أن نظر في أدلتها: يسمَّى رأياً، لأنه ذهب إلى ما اطمأنت إليه نفسه بعد استنفاد جُهدِه ووُسْعِه، وهو غير جازم بصواب قوله، لأنه يعلم أن دليله غير قطعي: تدخلُه الأفهام، وتطرأُ عليه الاحتمالات، لذلك كان أئمة السلف يعبِّرون عما يرونه ويميلون إليه: أُرى كذا، وأَحَبُّ إليَّ كذا، وأكره كذا، ولا يصرِّحون بلزومه ولا بحرمته.

وكذلك هو حال العالم الآخر الذي ذهب إلى خلاف ما ذهب إليه الأول، يسمى مذهبه رأياً أيضاً.

إلا إذا كان مع أحدهما دليل قطعي غاب عن الآخر، وهذا نادر في مسائل الفقه الإسلامي، والأكثر الأغلب منه أحكام ظنية، لذلك كان الأمر ـ من الناحية العلمية ـ واسعاً. انتهى كلام شيخنا حفظه الله ورعاه، ص: 16ـ18.

(1) 1: 66.

(2) ص 13.

(3) ص 173 ـ 174.

(4) ص 58.

(5) 1: 63.

(6) 1: 73.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين