مغالطات لا تخلو منها سطور تدوينة (العلم الذي لا ينفع)

كتب أحدهم تدوينة بعنوان (العلم الذي لا ينفع)، وهي أول تدوينة أقرأها له، وما كنت لأقرأها لولا أني سئلت عن فقرة فيها، وقد جاءت كخاطرة لا تستند إلى أي مصدر علمي ينفع، وإنما الذي يبدو منها أنه استندت إلى مشاعر تراكمية تجاه العلوم الشرعية، حيث جال بخاطر صاحب التدوينة أنها (العلم الذي لا ينفع)، ورغم أني أرى أن تلك الخاطرة لا تستحق القراءة فضلا عن الرد عليها، فإنني سأعلق على الفقرة المتصلة بالاقتصاد الإسلامي من تلك الخاطرة، وذلك لأنها الفقرة التي سئلت عن رأيي فيها، ولكون كل ما ذكر فيها قائم على المغالطات سأعلق عليها تحت عنوان: "مغالطات لا تخلو منها سطور تدوينة (العلم الذي لا ينفع)"

 

قال صاحب تدوينة (العلم الذي لا ينفع) في الفقرة المتصلة بالاقتصاد الإسلامي: "حتى فيما يسمى "علم الاقتصاد الإسلامي" ومع حداثة نشأته، تجد أن أكثر القواعد والمبادئ التي تؤسسه لا تخرج عن موضوع الفهم التاريخي للنصوص والأحداث التي جرت منذ مئات السنين، وعن الاقتباس من كتب وأقوال فقهاء عاشوا بفترات بدائية مقارنة بالواقع الاقتصادي اليوم، مع معاداة واضحة للأنظمة والنظريات الاقتصادية الحديثة الناجحة باعتبارها وضعية وذات نتائج سيئة، وهو يخلص في نهاية الأمر إلى تحريم معظم التعاملات البنكية وعقود التأمين وعقود البيع بالآجل والسندات، الذي أصبح مشاعاً في تعاملات الناس، باعتبار ذلك كله من الربا المحرم، وليجعل منه علماً لا يعمل به حتى في البلدان التي تطبق الشريعة الإسلامية كمصدر وحيد في الحكم؛ لعدم قابليته للتطبيق، ولتؤدي هذه الأحكام إلى مزيد من تأنيب الضمير والشعور بالذنب لأفراد المجتمع الذي لا يجدون مناصاً من استخدام تعاملات كهذه لتيسير أمور حياتهم".

 

مغالطات صاحب تدوينة (العلم الذي لا ينفع) في الفقرة المتصلة بالاقتصاد الإسلامي

 

لكون كل ما في الفقرة إنما هو مغالطات، كباقي فقرات تلك التدوينة، فسأقسم فقراتها على المغالطات التي حوتها.

 

المغالطة الأولى: حداثة نشأة علم الاقتصاد الإسلامي.

 

بدأ صاحب التدوينة فقرته عن الاقتصاد الإسلامي بمغالطة تقول: "حتى فيما يسمى "علم الاقتصاد الإسلامي" ومع حداثة نشأته". وقد جاءت هذه المغالطة بدعوى أن الاقتصاد الإسلامي حديث، ويكفي لرد هذه المغالطة بيان أن النبي صلى الله عليه وسلم مع قدومه للمدينة بنى مسجدا وافتتح سوقا للمسلمين، ومن ثم شرع في تعليمهم مبادئ وأصول الاقتصاد الإسلامي، والذي أخذ أبوابا واسعة من كتب المحدثين والفقهاء، تحت مسميات متعددة؛ كباب البيوع، وباب الصرف، وباب المشاركة، وباب المضاربة، وباب المزارعة والمساقاة، وباب إحياء الأرض الموات وغيرها من الأبواب المتعددة والتي يمكن جمعها تحت باب المعاملات، ولأن الشريعة الإسلامية تسعى لإسعاد الناس فقد حضَّت على الهبة والهدية، والرقبى، والعمرى، والوصية ونظمتها بقوانين عادلة فمنعت الوصية للوارث وكذلك ما زاد عن الثلث وغير ذلك كثير، ولأن الاقتصاد الإسلامي لا ينفصل عن الجانب التعبدي فمنه باب الصدقات، وباب الزكاة، وباب الخراج، وباب العشور، وباب الكفارات، وباب الوقف، بل حتى الحرب فإن فيها جانبا اقتصاديا فيما يتعلق بالغنائم والفيء، وكل ذلك من مصادر الاقتصاد الإسلامي الذي هو قديم قدم الإسلام، وقد تم إحياؤه في هذا العصر بما يتوافق مع مستجداته.   

 

المغالطة الثانية: أكثر قواعده تندرج في سياق تاريخي للنصوص والأحداث، إضافة لاقتباسها من البدائية.

 

أردف صاحب التدوينة بمغالطة أخرى مدعيا أن "أكثر القواعد والمبادئ التي تؤسسه- أي الاقتصاد الإسلامي- لا تخرج عن موضوع الفهم التاريخي للنصوص والأحداث التي جرت منذ مئات السنين، وعن الاقتباس من كتب وأقوال فقهاء عاشوا بفترات بدائية مقارنة بالواقع الاقتصادي اليوم". 

 

وبالنظر في واقع الاقتصاد الإسلامي يظهر بطلان تلك الدعوى، حيث إن القواعد والمبادئ لا علاقة لها بالفهم التاريخي للنصوص والأحداث، وإنما كانت مبادئ وقواعد لكونها صالحة لكل زمان ومكان، مستمدة صلاحها من خلود الشريعة الإسلامية وحيويتها، ولا أدل على ذلك من قدرتها على أسلمة الاقتصاد المعاصر بطريقة مثلى أقرَّ بها الكافر فضلا عن المسلم. 

 

وأما عن دعوى الاقتباس من فترات بدائية، فإنها تدلل على أن صاحب التدوينة لا يعرف بعد أن تطبيق الشريعة الإسلامية في الجانب الاقتصادي وغيره لا يتم من خلال الاقتباس وإنما من خلال تحقيق المناط الذي يكفل للشريعة الإسلامية ديمومتها.  

 

المغالطة الثالثة: معاداة الاقتصاد الإسلامي للاقتصاد الحديث الناجح على أنه وضعي سيئ.

 

تابع صاحب التدوينة في مغالطاته مدعيا أن ما سبق ذكره قائم "مع معاداة واضحة للأنظمة والنظريات الاقتصادية الحديثة الناجحة باعتبارها وضعية وذات نتائج سيئة" والواقع يشهد خلاف ذلك؛ حيث إن الشريعة الإسلامية تقوم على الاستفادة من كل ما فيه نفع، وترك كل ما فيه ضرر، فهي لا ترفض نظاما ولا نظرية رفضا تاما، وإنما تقر ما فيه من نفع وترفض ما فيه من ضرر، ففي النظرية الاشتراكية تقر الشريعة الإسلامية بالاشتراك فيما يتعلق بالمصالح العامة كالاشتراك في الطرقات، ولكنها تمنع ما يحرم الإنسان من ممارسة حقه الطبيعي في الملكية، وكذلك في الرأسمالية فإنها تقر بالملكية الفردية لأصحابها ولكنها تمنع ما يؤدي للظلم كالاحتكار. ثم عن أي نجاح اقتصادي وضعي يتكلم الكاتب! والعالم تجتاحه أزمة اقتصادية تلو أزمة.  

 

المغالطة الرابعة: تحريم معظم التعاملات البنكية، وعقود التأمين وعقود البيع بالآجل والسندات الشائعة.

 

ومن مغالطات صاحب التدوينة زعمه "تحريم معظم التعاملات البنكية وعقود التأمين وعقود البيع بالآجل والسندات، الذي أصبح مشاعاً في تعاملات الناس، باعتبار ذلك كله من الربا المحرم". بينما الحقيقة أن الشريعة الإسلامية تبيح عقودا كثيرة ومتنوعة وتحرم العقود التي تقوم على الربا والغرر والاحتكار تلك العقود التي لا ترجع على صاحبها وعلى المجتمع إلا بالضرر هي المحرمة وما سوى ذلك فإنها مباحة، وهذه المصارف الإسلامية وشركات التأمين الإسلامي قائمة ولا تعاني من شح في العقود والمعاملات.  

 

المغالطة الخامسة: علم الاقتصاد الإسلامي لا يعمل به حتى في البلدان التي تطبق الشريعة الإسلامية لعدم قابليته للتطبيق. 

 

ومن المغالطات الفاضحة قوله: "وليجعل منه علماً لا يعمل به حتى في البلدان التي تطبق الشريعة الإسلامية كمصدر وحيد في الحكم؛ لعدم قابليته للتطبيق". إن الرد على هذه المغالطة يذكرني ببيت شعر للمتنبي يقول فيه:  

 

وَلَيسَ يَصِحّ في الأفهامِ شيءٌ       إذا احتَاجَ النّهارُ إلى دَليلِ

 

ورغم وضوح بطلان تلك المغالطة فإني سأنقل رأي رجال الأعمال وخبراء الاقتصاد في مدى قابلية تطبيق الاقتصاد الإسلامي ومدى نجاحه الذي بات أشهر من أن يذكر، حيث ذكر رجل الأعمال السعودي صالح كامل :"أنه أطلع المستشارة الألمانية، ميركل، خلال زيارتها إلى الغرفة التجارية على حديث النبي محمد- صلى الله عليه وسلم- "لا تَبِع ما ليس عندك"، مضيفاً: "هذا الحديث لو طبق لما قامت الأزمة العالمية، وقد اقتنعت (ميركل) بهذه النقطة وقدمنا لها ورقة عمل وعادت إلى بلادها وأصدرت قانونا يمنع البيع على المكشوف،" في إشارة إلى نوع من التعاملات في أسواق المال"([1]). وبالنظر فيما ذكره رجل الأعمال صالح كامل فإن جزئية واحدة من الاقتصاد الإسلامي، وهي منع البيع على المكشوف لو طبقت لحمت العالم من الأزمة الاقتصادية العالمية، ولذلك سارعت المستشارة الألمانية بالعمل بها، في ألمانيا خارج العالم الإسلامي. 

 

وذكرت صحيفة الرياض أن البنوك الإسلامية تتوسع خارج البلدان الإسلامية، وتشهد نمواً كبيراً، وتجذب غير المسلمين ففي ماليزيا أكثر من 50% من عملائها هم من غير المسلمين حيث "تشير دراسات إلى أن الأنشطة والأعمال التي تتم مزاولتها وَفْقاً لأحكام الشريعة الإسلامية تتجاوز مائة بلد سواء من خلال بنوك إسلامية أو وحدات تابعة للبنوك التقليدية، وأن ما يتم التعامل فيها من أموال يزيد على 400 بليون دولار مع معدلات نمو سنوية تتراوح ما بين 10و 15بالمائة، وأن قيمة مجمل أعمال هذه المصارف مع أصولها يصل إلى نحو تريليون دولار مع احتمال صعودها إلى 2.8 تريليون في العام 2010م الأمر الذي يتضمن حقيقة مفادها أن "البنوك الإسلامية"، تشهد نمواً كبيراً وجذباً لمدخرات المسلمين وغير المسلمين ما أغرى بعض المصارف التقليدية بفتح وحدات أو منافذ تعمل طبقاً لأحكام الشريعة الإسلامية مثل ما قام به على بنك سيتي الأمريكي حينما اطلق في العام 1996م مصرف سيتي الإسلامي للاستثمار من البحرين وبرنامج "أمانة" في بنك "اتش اس بي سي"([2]).

 

وكشف خبراء الاقتصاد أن الاقتصاد الإسلامي يحتفظ بمرونة عالية وبنسبة مخاطر أقل، وفي إطار نجاحه زادت أصول البنوك الإسلامية تسع مرات بين 2003 و2013 وفي ذلك قال اقتصاديون: "إن حجم البنوك الإسلامية تضاعف خلال أربع سنوات ليفوق تريليوني دولار، في ظل توقعات باستمرار نمو هذا النشاط الاقتصادي المستند إلى مرجعية أخلاقية تتمثل في قواعد الشريعة الإسلامية في المعاملات المالية.

 

ويشير الاقتصادي الكويتي حجاج بوخضور إلى أنه رغم القواعد الدينية الصارمة التي يعمل بها القطاع فإنه يحتفظ بمرونة عالية وبنسبة مخاطر أقل، وهو ما ساعده على التطور بشكل سريع للاستجابة لمختلف الاحتياجات.

 

ويناهز عدد عملاء البنوك الإسلامية في العالم الأربعين مليونا، وقد تحول قطاع التمويل الإسلامي من نشاط جنيني في العقد السابع من القرن الماضي إلى قطاع ضخم في الوقت الحالي.

 

ويقدر صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومؤسسات مالية دولية أخرى بأن أصول البنوك الإسلامية زادت تسع مرات بين 2003 و2013 لتبلغ تريليون وثمانمائة مليار دولار، أي بزيادة سنوية قدرها 16%، ويفوق حجم الأصول حاليا تريليوني دولار"([3]).

 

وبعد هذا العرض والبيان لجانب من أقوال خبراء الاقتصاد في التطبيق الناجح للاقتصاد الإسلامي في البلاد الإسلامية وغيرها، يظهر بوضوح بأن صاحب تدوينة (العلم الذي لا ينفع) إنما يستمد معلوماته من خواطر لا تنفع بل لا صلة لها بالحقيقة مطلقا. 

 

المغالطة السادسة: إيقاع أفراد المجتمع بتأنيب الضمير والشعور بالذنب تجاه معاملاتهم رغم حاجتهم لها.

 

ويختم صاحب المدونة بمغالطة تنقض كل مغالطاته السابقة قائلا: "لتؤدي هذه الأحكام إلى مزيد من تأنيب الضمير والشعور بالذنب لأفراد المجتمع الذي لا يجدون مناصاً من استخدام تعاملات كهذه لتيسير أمور حياتهم". 

 

وههنا سؤال: إن كانت علوم الشريعة الإسلامية هي (العلم الذي لا ينفع) فلماذا يتأنب ضمير أفراد المجتمع عند مخالفتها؟ ولماذا يشعرون بالذنب؟ 

 

إنه أثر العلم الذي ينفع ويضمن السعادة الدنيوية بشقيها الروحي والجسدي بالإضافة للسعادة الأخروية. 

-------------------------

 -[1]صالح كامل: حديث نبوي دفع ميركل لمنع البيع المكشوف. السبت، 30 حزيران/يونيو 2012م. بالعربية (CNN). دبي؛ الإمارات العربية المتحدة. http://archive.arabic.cnn.com/2012/business/5/31/saleh.kamel/index.html. تاريخ الاطلاع: 22/11/2016م.

 -[2]البنوك الإسلامية تتوسع خارج البلدان الإسلامية وتشهد نمواً كبيراً وتجذب غير المسلمين. الأحد10 صفر 1429هـ -17 فبراير 2008م - العدد 14482. صيفة الرياض. .http://www.alriyadh.com/318464 تاريخ الاطلاع: 22/11/2016م. 

 -[3]حجم البنوك الإسلامية تضاعف في أربع سنوات. موقع الجزيرة. الأخبار. الاقتصاد. 23/11/2014م. http://www.aljazeera.net/news/ebusiness.. تاريخ الاطلاع: 22/11/2016م.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين