مغتربون

سألني صديقي: 

لم تؤذي الغربة هكذا بعض النفوس؟ 

فأجبته:

_ في الغربة هم وإحساس ووجع من نوع خاص، تراه في وجوه المغتربين، مرسوما على محياهم، وتبرق به عيونهم، وتعجز عن التعبير عنه _ في كثير من الأحيان _ كلماتهم.

_ في الغربة تضطرب الذات، وتتصارع الأفكار والمشاعر والذكريات.

_ في الغربة الليل طويل، والهم جاثم، والألم متواصل، والحزن عميق.

_ في الغربة تلجئ مجبورا لدفن ذكريات سحيقة في مقبرة الفراق.

_ في الغربة السماء غير السماء، واﻻرض غير الأرض، والناس غير الناس.

_ في الغربة تحن إلى حيث كنت، حيث ربما ﻻ مال وﻻ جاه وﻻ منصب وﻻ حظوظ.

_ في الغربة يتصدق الناس عليك حتى بالتحية، وقد كنتَ من قبل ملجئا لعابري السبيل.

_ في الغربة تحرم من ابتسامة أبيك عند كل صباح، وهدهدة أمك لولدك عند كل بكاء.

_ في الغربة ترى ملاعب الصبا في كل شارع، وفي كل جدار، وفي كل وجه أليف.

_ في الغربة يقل خلان الوفاء، وتشتد محنة البعاد، وتعظم البلية بالفراق.

_ في الغربة تحس أن فاس الزمان قد فعل فعله، حتى صرت كأعجاز نخل منقعر.

_ في الغربة تحس معنى الوطن ولو كان من النار، ومعنى الأهل ولو كانوا من الشوك. 

_ في الغربة انكفاء على النفس، وخلوة مع الماضي، وبحث عن الأمل.

_ في الغربة توقد للروح أو تبلد للإحساس، على قدر الإيمان والوفاء.

_ في الغربة غربة أخرى حين لا تجد من يشاكل روحك ويشابه نفسك.

_ في الغربة تتذكر المعتقلين في الزنازين، وتود لو تخبرهم بزنزانة اﻻغتراب وكيف يحبس الطلقاء؟!.

_ في الغربة تسقط الظنون، حيث زيف النعيم المرتجى، والرفاه المتوقع، والانطلاق المتخيل.

_ في الغربة أنت مع أنة مريض تحت خيمة نازح، ومع لسعة جائع ﻻ يجد أقل القوت.

_ في الغربة أنت مع أهل فارقتهم يعانون، لكأنما إحساسك بهم صار جزءا من كيان بعيد الجسم قريب الروح فلا يهنأ لك عيش لما هم فيه.

لكن يا صديقي للغربة وجه آخر سأصف لك ملامحه:

_ في الغربة فرصة لتطوير الذات، قد لا تتاح تحت ظلال الأهل والاوطان.

_ في الغربة معرفة بوافد، واختلاط بثقافة، وملاحظة لفروق، واستيعاب لخبرات.

_ في الغربة كشف لأخلاق الناس دون قناع، واختبار للقيم دون تزييف.

_ في الغربة اكتشاف للطاقات المنسية، وإظهار للمواهب المدفونة، وصقل للقدرات الكامنة.

_ في الغربة اكتمال للرجولة، وتهذيب للعاطفة، وانكسار لله.

_ في الغربة تعاون وكرم وإيثار وشجاعة، لم تكن تتوقعها من بعض الناس.

_ في الغربة ذكريات جديدة، في دفاتر جديدة، ستحكيها ذات يوم في عودة لوطن أو في غربة جديدة.

_ في الغربة سمو للروح، وارتقاء بالإيمان، حيث لا اعتماد ولا توكل فيها الا على الله.

_ في الغربة عوالم جديدة وآفاق مديدة، يتمدد فيها أثرك، وتتوسع فيها بصمتك.

_ في الغربة علاقات جديدة، ولغات جديدة، وعادات جديدة، تنفض عنك غبار الركود وتدخلك قسرا في تجارب حيوية وخبرات جدية.

_ في الغربة تنظر من بعيد لواقع كنت تعيشه في الوطن فتتمسك بخيره وتستدرك نقصه.

_ في الغربة تعويض عاجل للمتقين، ولطف خفي بالمبتلين، وقد بلي بها من قبل جمع من الانبياء والصالحين.

خفف الله عن كل مغترب آذته الغربة، وجمعه بمن يحب من أهله وصحبه ...

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين