مقاصد الإسلام -5-

 

 

1 – انتهينا في مَقالنا إلى أنَّ التعاون بين بني الإنسان واجب، سواء أكان التعاون بين الآحاد أم كان بين الجماعات، أم كان بين الأُمَم. وإنَّ الأمَّة يجب أن تكون علاقتها قائمة على العدالة، وعلى الرحمة، وعلى القسطاط المستقيم، وعلى التآخي والتعارف، فإنَّ اختلاف الأجناس أو الألوان لا يكون داعياً إلى التنافر، لأنَّ الأصل واحد: (كلكم لآدم، وآدم من تراب)، ولا يوجد تُراب أبيض، وآخر أسود، بل الكل من هذا الأصل ذي اللون الواحد، وإنَّ علاقات الأمم، في مجموعاها وفي آحادها، لا تكون إلا بالتعاون، والأمم جماعات لها كيان لابدَّ أن يقوم على دعائم ثابتة.

2 – إنَّ كيان الأمم إنَّما يكون بالتآخي بينها، ولا تآخي إلا إذا قامت دعائم الحق، وتمَّ التعاون بين الناس بعضهم مع بعض، وأخذ كلُّ واحد على يدِ من يُريد شراً، ولا يأخذ على يده بالقوة يندفع فيها، بل بالخير يَفعله، وبالرعاية للشارد حتى يؤوب، فمن يَرى عاصياً يتردَّى في معصية، لا تكون مَغِبَّتُها عليه فقط، بل تكون عاقبتها السوءى عليه وعلى الجماعة، عليه أن يهديَه إلى الحق، وأن يعمل على إزالة الأسباب التي أدَّت به إلى هذه المعصية، حتى لا تكون فتنة في الأرض وفساد كبير. وإن رأى محروماً يقع في الشر بسبب حرمانه، فعليه أن يُزيل سبب الحرمان من غير أن يطمعه في حق غيره، ومن رأى مكروباً يخشى أن يقع في معصية بسبب كربه، فعليه أن يُزيل كَرْبه.

وإنَّ المؤمن يعدُّ مُدهناً في حدود الله إذا لم يعمل على إزالة المنكر، بإزالة أسبابه أولاً، وإزالة مادته ثانياً، والدعوة إلى الحق ثالثاً، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك: (مثل المدهن في حدود الله، مثل قوم استهموا في سفينة، فصار بعضهم في أسفلها، وبعضهم في أعلاها، فكان الذي في أسفلها يمر بالماء على الذي في أعلاها، فتأذوا به، فأخذ فأساً، فجعل ينقر أسفل السفينة، فأتوا، فقالوا: مالك؟ فقال: تأذيتم، ولابد لي من الماء!! فإن أخذوا على يديه أنجوه ونجوا بأنفسهم، وإن تركوه أهلكوه، وأهلكوا أنفسهم) [أخرجه البخاري].

وإنَّ هذا الحديث يدل على ثلاثةِ أمور، هي من أسس البناء الاجتماعي:

- أولها – أنَّ التعاون الاجتماعي يوجب إزالة كل أسباب الآلام، وإنَّ ترك المتألمين يتألمون من غير علاج لهم يُؤدِّي إلى الانهيار الاجتماعي، وليس ذلك بتملُّق ولا انحياز، ولكن بإعطاء الحق لكل ذي حق، من غير تَرجيح طائفة على طائفة، فإنَّ الترجيح يؤدي إلى الانحياز، والانحياز يؤدي إلى التفكُّك وإلى أن يَصير بأس الأمَّة بَينها شديداً، فتتفرَّق الكلمة، وتذهب الوحدة، ولا تَستقيم الأمور، إذ يكون التحاسد بدل التوادِّ، والتنافر بدل التضافُر، والتنابذ بدل التعاون!.

- وثانيها – أنَّ الانحلال واقع لا محالة، إذا لم يُمنع ظلم الظالمين، ولم يؤخذْ على أيديهم، وإنَّ منع الظلم فيه النجاة، وترك المفسدين يفسدون فيه الضياع.

- وثالثها – أنَّ حدود الله تعالى هي الحقوق التي فَرَضها حقاً للناس بعضهم مع بعض، وحق الحاكمين عليهم، وحق المحكومين على حكامهم. 

وإنَّ هذه الحدود المرسومة لا تصحُّ المجاملة فيها، ولا مُداهنة من يَنتهكها، ويعمل على إضعافها، وإلا كان الفساد، وعمَّ الشر، وآل أمر الأمة إلى دمار!

هذا ما يدلُّ عليه الحديث الشريف، ولعله أبلغ ما يُمكن أن يُقال في بيان تضافرِ الأمَّة في دفع الشر الذي يَكون من آحادها، من غير ظُلم ولا مُجاوزة للحقوق المشروعة المقرَّرة بمقتضى الأحكام الإسلاميَّة.

3 – وإنَّه يجب التنبيه هنا إلى أنَّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس مطلوباً من المسلمين فيما بينهم فقط، من غير أن يخرج من محيطهم إلى المحيط الإنساني العام، بل إنَّه فرض محتوم على كل مُسلم بالنسبة للناس جميعاً، ولذلك كانت الدعوة إلى الإسلام واجبة، لأنَّ أساس الخير هو الإسلام، فلابدَّ من الدعوة إليه، ولابد من ردِّ كل من يَعتدي عليه، لأنَّ الاعتداءَ عليه مُنكر يجبُ دفعه، والدعوة إليه خير يجب القيام به.

وليس ذلك فقط هو الواجب، بل الواجب الدعوة إلى الفضيلة في كل الجماعات الإنسانيَّة! وإذا كان العالم الإنساني قد اتصلت أجزاؤه، وتلاقت أطرافه، بوسائل الاتصال الفكري المختلفة، بل بوسائل الاتصال الحسي المتعدِّدة، من سُفن تمخر في عباب البحار، ومن طائرات تقطع أجواز السماء! بل إنَّ ابن الأرض حاول التحليق في الفضاء، يَروم النجوم ويطلبها، كما قال الشاعر العربي الفحل، أستاذنا المرحوم محمد عبد المطلب: 

أرى ابن الأرضِ أصغرها مقاماً = فهل جعل النجومَ له مَراماً

4 – ونحب أن نقول: إنَّ واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يَتقاضى أهل العلم ألا يسكتوا على من يحاولون تأويلَ الأحكام الإسلاميَّة بغير الحق، ويُهوِّنون من شأنها! فمن حاول أن يؤول نصاً بغير تَأويله، أو يَهدم حكماً مجمعاً عليه، أو يَبتدع في الدين ما ليس منه ويجافيه، فإنَّ على أهل العلم أن يَردُّوا قولَه ويَدْحضوه.

كأولئك الذين يقولون: إنَّ اجتهاد النبيِّ صلى الله عليه وسلم في شأنٍ من شؤون الدنيا لا يعدُّ حُجَّة! وكأولئك الذين يَقولون: إنَّ من الفوائد التي تَزيد على الدين ما ليس رِبا! وكأولئك الذين يقولون: إنَّ شهادة المرأة كشهادة الرجل على سواء، مُدَّعين أنَّ قوله تعالى: [وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى] {البقرة:282} [مخصوص ببعض الأحكام دون بعض].

وكأولئك الذين يَدَّعون أنَّ من أقوال النبي صلى الله عليه وسلم المتعَلِّقة بالأحكام ما يكون مِزاحاً، أو لَوْماً، ولا يكون بياناً لحكم شرعي: [مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآَبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا] {الكهف:5}.

إنَّ ردَّ هذه الأقوال على قائليها، وبيان بطلانها، فرض كفاية على علماء الفقه في الإسلام، وهو واجب عين على المتصَدِّين لبيان الحقائق الإسلاميَّة منهم.

5 – إنَّ الإسلام كما أشرنا، يَنظر إلى الإنسانية كلها على أساس الوحدة الجامعة، لا على أساس العنصر، أو اللون، أو اللغة، أو العلم والجهل، وإن كان على العالم أن يُرشد الجاهل، ويعمل على تثقيفه وهدايته، لا أن يَتركه في حمأة الجهل، ويَستعلي عليه! ولذلك كانت أهدافه الاجتماعيَّة لها وصف العموم، من غير خصوص فيه.

فالعلاقات الإنسانيَّة في الإسلام لا تختصُّ بإقليم، ولا دِينٍ، ولا لَونٍ، بل هي للجميع على سواء: فمثلاً على المسلم أن يَعمل كل ما فيه المصلحة على أن يلاحظ مَصلحة الإنسانيَّة، لا مصلحة طائفة منها، وعلى المسلم أن يُقيم العدالة، وهي لا تختصُّ بالولي فقط، ولكنها رباط الإنسانيَّة الوثيق، فالعدالة للجميع، لا لفريق، والإسلام يُطالب بالتعاون، وهو عام شامل لكل ما يُعلي الإنسان بوصف كونه إنساناً، وهكذا كل الأهداف الاجتماعيَّة في الإسلام.

6 – وإنَّ أول هدف اجتماعي، استهدفته الأحكام الإسلاميَّة المقرَّرة الثابتة، يتفق مع النشأة الإنسانيَّة، وقد رأينا كيف أعلى الله تعالى آدم صلى الله عليه وسلم على كل مخلوقاته العاقلة، فأمرَ الملائكة بأن يَسجدوا، ولما أبى إبليسُ واستكبر، طَرَدَه من رحمته، وكان الطريد الرجيم إلى يوم القيامة! ولذلك كانت الكرامة الإنسانيَّة أولَ هدف اجتماعي تتجه إليه الأحكام الإسلاميَّة.

إنَّ كرامة الإنسان التي جاء بها الإسلام مُشتقَّة من مَعْنى الإنسانيَّة فيه، وهي بقدر مُشترك في كل آحاده، وإنَّ الله تعالى قد صرَّح بالكرامة الإنسانيَّة من غير تَقْييد، فقال تعالى: [وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي البَرِّ وَالبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا] {الإسراء:70}.

وإنَّ هذه الكرامة بدت في أصل التكوين، كما أشرنا من قبل، وبدت في تسخير الكون له، فقد آتاه الله تعالى القدرة على العلم بالأشياء، واختصَّه بذلك العلم، فكان القدير على تعرُّف ظواهرِ الكون، واستخدام قُواه للكشف عن عَناصره. وقد عرف كثيراً من قَوانينه، وإن كان لا يَستطيع تغييرها، ولا التحكُّم فيها.

7 – إنَّ الله سبحانه وتعالى بمُقتضى أمره التكويني قد وضع الأحكام الشرعيَّة التي تُقرِّر الكرامة الإنسانيَّة وتثبتها، وإنَّ أظهر مظاهر الكرامة التي حافظ عليها الإسلام، وأتى فيها بمبادئ جديدة لم تكن معروفة قبله، ولم يصلْ إليها أحدٌ من بعده، كان في مُعاملة العبيد، فقد أعطاهم من الحقوق وأوجب عليهم من التكليفات ما شرعه للأحرار، ولم يفرق بين الفريقين إلا من حيث الملكية التي اختبرهم الله تعالى بها، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (إخوانكم خولكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده، فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم) [أخرجه البخاري ومسلم].

وفي سبيل المحافظة على كرامة العبيد نهى الإسلام المالك عن أن يقول: عبدي وأمتي، بل يقول: فتاي وفتاتي.

ونهى العبيد والأمة عن أن يقولا: سيدي، وسيدتي، بل يقولون: مولاي ومولاتي.

ولقد نهى الإسلام المالكين عن أن يُؤذوا العبيد، فلا يصحُّ لشخص أن يلطمَ مملوكه، ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (مَنْ لَطَمَ مَمْلُوكَهُ، أَوْ ضَرَبَهُ، فَكَفَّارَتُهُ أَنْ يُعْتِقَهُ) [أخرجه مسلم]، وروي عن الإمام أحمد بن حنبل، أنَّ من يَلطم عبده يَعْتُق لمجرد لطمته!

وقد أعطى العبيد الحق في أن يشكوا مالكيهم، لأنَّه إذا كان المالكون قد ملكوا رقابهم، فالواجب عليهم العدالة معهم، وحيث كانت العدالة واجبة، فالشكوى من الظلم تكون مسموعة، ولذلك أبيحَ للعبد أن يشكو سَيِّدَه.

ولقد كان الرومان وغيرهم يَعتبرون العبيد أشياء ليس لها حقوق، وعليها كل الواجبات، ولكن جاء الإسلام فجعلهم في الحقوق والواجبات مع مالكيهم على سواء، إلا ما أوجبته الملكيَّة، وجعل نفس العبد كنفس الحر، وأنَّ الحر إذا اعتدى على العبد اقتُصَّ منه، وإن قتله قُتل به، بل لو قَتله سيدُه قُتِلَ به! فقد قال عليه الصلاة والسلام: (من جدع عبده جدعناه، ومن قتله قتلناه) [أخرجه أحمد، والأربعة، وقال الترمذي: حسن غريب. والحاكم وصحَّحه، وقال الذهبي: على شرط البخاري].

8 – وقد يقول قائل: أما كان الأولى بالإسلام أن يَمْنعَ الرق، بدل أن يَفتح بابه ويكرم العبيد؟ 

ونقول في الإجابة عن ذلك: إنَّ الإسلام ضَيَّق أسباب الرق، وفتح أبواب العِتْق، فالرقُّ في الإسلام لا يجوز إلا في الحرب العَادلة، وذلك إذا كان الأعداء يَسترقون، لأنَّ هذا يكون من قبيل المُعَاملة بالمثل، والله تعالى يقول: [فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ] {البقرة:194}.

ولم يوجد نصٌّ صَريح في الإسلام يُبيح الرقَّ، ولم نأخذْ إباحتَه للرق إلا من أمرِه المتكرِّر بالعتق، وإنَّه في القديم كانت أسباب الرقِّ كثيرة، حتى إنَّ الرجل كان إذا خرج من إقليمه استُرِقَّ!، وقد استُرِقَّ الفيلسوف أفلاطون، واسترق في الجاهلية عمر بن الخطاب، ولم ينجه من مَغِبَّات الرقِّ إلا قتله لمن استرقه!

ومع إباحة الإسلام الرقَّ قد أكثر من أسباب العتق: فمن لطمَ عبده وجب عليه عِتْقُه، ومن حَلَف وحنث في يمينه وجب عليه عتق رقبة، ومن أفطر في رمضان عامداً وجب عليه عتق رقبة، ومن حَرَّم امرأتَه على نفسه كأمِّه، لا يقربها إلا إذا أعتقَ رقبة، ومن قتل مؤمناً خطأ، وجب عليه عتق رقبة، وإذا طلب العبد من السيد أن يتركه ليسعى في ثَمَنِه ويقدمه إليه كان على سيده أن يَقْبل ذلك. 

وقد فرض الإسلام باباً من أبواب الزكاة لشراء العبيد وإعتاقهم، ويُروى في ذلك أنَّ عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه أرسل إليه والي الصدقات بإفريقيَّة يشكو من امتلاء بيت مال الزكاة، وعدم وجود فُقراء يُعْطيهم، فكتب إليه: سدِّد الدين عن المدينين، ولما سَدَّد ديون الناس، كتب إليه يَشكو من امتلاء البيت، فكتب إليه: اشترِ عبيداً من عَبيد المسلمين وأعْتِقْها.

وفي الجملة إنَّ الإسلام لو نُفِّذت مبادئه كاملة، ما بَقِي رقيق – استرقَّ في حرب – سنة كاملة في رِقِّه.

هذه حقائق الإسلام، ولكن المسلمين هَجَروا دينهم، وسلكوا غير سبيل المؤمنين فكانوا حجَّة على الإسلام يُعَيَّر بهم! ولا عَار فيه، ولا حولَ ولا قوةَ إلا بالله.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 

الحلقة السابقة هــــنا

المصدر: (مجلة لواء الإسلام، العدد 6، السنة 16، 1382هـ 1962م).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين