من أحداث السيرة: الأحزاب وبنو قريظة (2)

 

نجحت بنو النضير في إغراء بني قريظة لكي ينقضوا العهد الذي بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبذلك يجدُ المشركون وحلفاؤهم من يهود بني النضير منفذاً لهم إلى المدينة حيث يعسكر المسلمون، والخندق يحول بين المشركين وبينهم، وذلك بأن يترك بنو قريظة حصونهم مفتوحة لينفذ أعداء الإسلام من خلالها إلى المسلمين، ولكن الخطة لم تتم فصولها لا بسبب حرص يهود بني قريظة على عهودهم للنبي صلى الله عليه وسلم ولكن بسبب قصة الرهائن التي ابتدعها نعيم بن مسعود الأشجعي رضي الله عنه وخدع بها اليهود والأحزاب وأوقع بين المشركين وبني قريظة.

وذلك أنَّ الله عزَّ وجل صنع أمراً من عنده خذل به العدو وهزم جموعهم وفلَّ حدَّهم فكان من نصره للمؤمنين أن هيَّأ لذلك الأسباب، فقد قدم رجل من غطفان يقال له نعيم بن مسعود بن عامر رضي الله عنه جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني قد أسلمتُ فمرني بما شئت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنَّما أنت رجل واحد، فخَذِّل عنا ما استطعت فإنَّ الحرب خدعة، فذهب من فوره إلى بني قريظة وكان عشيراً لهم في الجاهلية، فدخل عليهم وهم لا يعلمون بإسلامه، فقال: يا بني قريظة إنكم قد حاربتم محمداً وإنَّ قريشاً إن أصابوا فرصة انتهزوها وإلا استمروا إلى بلادهم راجعين، وتركوكم ومحمداً فانتقم منكم، قالوا فما العمل يا نعيم، قال لا تُقاتلوا معهم حتى يعطوكم رهائن، قالوا: قد أشرت بالرأي، ثم مضى على وجهه إلى قريش، فقال لهم: تعلمون ودي لكم ونصحي لكم، قالوا: نعم، قال إنَّ يهود قد ندموا على ما كان منهم من نقض عهد محمد وأصحابه، وإنهم قد راسلوه بأنهم يأخذون منكم رهائن يدفعونها إليه ثم يوالونه عليكم، فإن سألوكم رهائن فلا تعطوهم، ثم ذهب إلى غطفان، فقال لهم مثل ذلك، فلما كانت ليلة السبت من شوال، بعثوا إلى يهود أنا لسنا بأرض مقام وقد هلك الكراع والخف، فانهضوا بنا حتى نناجز محمداً، فأرسل إليهم اليهود أنَّ اليوم يوم السبت، وقد علمتم ما أصاب من قبلنا حين أحدثوا فيه، ومع هذا فإنا لا نقاتل معكم حتى تبعثوا إلينا رهائن، فلما جاءتهم رسلهم بذلك، قالت قريش صدقكم والله نعيم، فبعثوا إلى يهود إنا والله لا نرسل إليكم أحداً فاخرجوا معنا حتى نناجز محمداً، فقالت قريظة: صدقكم والله نعيم، فتخاذل الفريقان، ولم تفتح بنو قريظة حصونها.

ذلك أمر ما أجملنا في مقالنا السابق عن الأحزاب وبني النضير من خدعة نعيم للفريقين، وانتهت الأحزاب بهزيمة قريش، وعودة أبي سفيان بن حرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاباً جاء فيه: 

باسمك اللهم فإني أحلف باللات والعزى لقد سرت إليك في جمعنا وأنا نريد ألا نعود أبداً حتى نستأصلكم فرأيتك قد كرهت لقاءنا، وجعلت مضايق وخنادق، وليت شعري من علَّمك هذا؟ فإن نرجع عنكم فلكم منا يوم كيوم أحد. ولقد علمت أني لقيت أصحابك ناجياً وإنا في عير لقريش، فما خصَّ أصحابك منا شعرة ورضوا منا بمدافعتنا بالراح، ثم قبلت في عير قريش حتى لقيت قومي فلم تلقنا فأوقعت بقومي ولم أشهدها من وقعة، ثم غزوتكم في عقر داركم فقتلت وحرقت (يعني غزوة السويق)، ثم غزوتك في جمعنا يوم أحد فكانت وقعتنا فيكم مثل وقعتكم بنا ببدر، ثم سرنا إليكم في جمعنا ومن تآلب إلينا يوم الخندق فلزمتم الصياصي وخندقتم الخنادق.

فلما قرأ أُبي بن كعب الكتاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم في قبته كتب إليه: (من محمد رسول الله إلى أبي سفيان بن حرب أما بعد، فقديماً غرَّك بالله الغَرور، أما ما ذكرت أنك سرتَ إلينا في جمعك وأنك لا تريد أن تعود حتى تستأصلنا فذلك أمر يحول الله بينك وبينه ويجعل لنا العاقبة حتى لا تذكر اللات والعزى، وأما قولك: من علمك الذي صنعنا من الخندق، فإنَّ الله ألهمني ذلك لما أراد من غيظك وغيظ أصحابك، وليأتين عليك يوم تدافعني بالراح، وليأتين عليك يوم أكسر فيه اللات والعزى، وأساف ونائلة وهبل حتى أذكرك ذلك يا سفيه بن غالب).

وهكذا انتهت مرحلة الأحزاب، وأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ردَّ الله تعالى عدوَّه بغيظهم لم ينالوا خيراً، وكفاه الله قتالهم، فصدق وعدَه، وأعزَّ جنده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحدَه، فدخل المدينة ووضع السلام، ودخل البيت فاغتسل ودعا بالمجمرة ليتجمَّر وقد صلى الظهر، فأتاه جبريل عليه السلام، فوقف عند موضع الجنائز فنادى: عذيرك من محارب، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فزعاً فقال ألا أراك وضعت اللامة ولم تضعها الملائكة بعد، لقد طردناهم إلى حمراء الأسد. إنَّ الله يأمر أن تسير إلى بني قريظة، فإني عامد إليهم فمزلزل بهم حصونهم، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً رضي الله عنه، فدفع إليه لواءه، وكان اللواء على حاله لم يحلَّ من مرجعه من الخندق، وبعث بلالاً رضي الله عنه فأذَّن في الناس: إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمركم ألا تصلوا العصر إلا في بني قريظة، ثم نادى المنادي: يا خيلَ الله اركبي.

ولبس رسول الله صلى الله عليه وسلم الدرع والمغفر والبيضة، وتقلَّد الترس وركب فرسه، وحفَّ به أصحابه وقد لبسوا السلام، وركبوا الخيل، وسار فمرَّ بنفر من بني النجار قد صفوا وعليهم السلاح فقال هلَّ مرَّ بكم أحد قالوا: نعم دحية الكلبي، فأمرنا بلبس السلاح فأخذنا سلاحنا وصففنا، وقال لنا هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يطلع عليكم الآن. 

فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ذلك جبريل، وكان جبريل عليه السلام قد ذكر له أنَّه سائر أمامه يزلزل بالملائكة حصون قريظة، وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه قد سبق في نفرٍ من المهاجرين والأنصار وغرز الراية عند أصل الحصن، فاستقبلهم يهود يشتمون رسول الله صلى الله عليه وسلم فسكت المسلمون، وقالوا: السيف بيننا وبينكم.

وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يهود وتقدَّمه أسيد بن حضير، قال يا أعداء الله لا نبرح حصنكم حتى تموتوا جوعاً، إنما أنتم بمنزلة ثعلب في جحر، قالوا يا ابن الحضير: نحن مواليك دون الخزرج، فقال: لا عهد بيني وبينكم ولا آل.

ودنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا أخوة القِرَدة والخنازير وعبدةَ الطواغيت أتشتمونني؟ فجعلوا يحلفون ما فعلنا، ويقولون: يا أبا القاسم ما كنت جهولاً. 

وتقدَّمت الرماة ورماهم المسلمون ساعة واليهود تراميهم، وغدا كراً بعد بيات وقدم الرماة وعبَّأ أصحابه فأحاطوا بحصون يهود ورموهم بالنبل والحجارة حتى أمْسَوا ونزل نباشي بن قيس وكلَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن ينزلوا على ما نزلت عليه بنو النضير له الأموال والحلقة، ويحقن دماءهم، ويخرجون من المدينة بالنساء والذراري، ولهم ما حملت الإبل إلا الحلقة، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يَنزلوا على حكمه، وعاد نباشي إليهم بذلك، وحصرهم النبي صلى الله عليه وسلم خمساً وعشرين ليلة، ولما اشتدَّ عليهم الحصار عرض عليهم رئيسهم كعب بن أسد ثلاث خصال: إما أن يُسلموا ويدخلوا مع محمد في دينه وذكَّرهم بما عندهم من العلم بنبوته صلى الله عليه وسلم، وإما أن يقتلوا أبناءهم ونساءهم ثم يخرجوا إليه بالسيوف مُصلتة يناجزونه حتى يظفروا به أو يُقتلوا عن آخرهم، وإما أن يخرجوا ليلة السبت والمسلمون آمنون فيبيتون المسلمين، فقالوا: لا نحل السبت، فأبوا عليه أن يجيبوه إلى واحدة من هذه الخصال الثلاث.

ولما اشتدَّ عليهم الحصار طلبوا أبا لبابة بن عبد المنذر وكان لهم حليفاً ونصيحاً فرقَّ لهم حين استشاروه، فقالوا له: ما ترى أنَّ محمداً قد أبى إلا أن ننزل على حكمه، قال: فانزلوا وأشار بيده إلى حلقه يقول أنَّه الذبح، ثم نزل والناس ينتظرونه ثم تبيَّن له أنَّه خان رسول الله صلى الله عليه وسلم فمضى إلى المسجد وربط نفسه بساريته، وحلف ألا يحله إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: دعوه حتى يحدث الله فيه ما يشاء، ولو جاءني استغفرتُ له، وأما إذ لم يأتني وذهب فدعوه، فكان كذلك خمس عشرة ليلة، ولم يزلْ مرتبطاً حتى تاب الله عليه، وأنزل الله فيه: [وَآَخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآَخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ] {التوبة:102}، فحلَّه رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ثم نزلت بنو قريظة على حُكم النبي صلى الله عليه وسلم، فقامت إليه الأوس، فقالوا: يا رسول الله قد فعلت في بني قينقاع ما قد علمت، وهم حلفاء إخواننا الخزرج، وهؤلاء موالينا فأحسن فيهم فقال: ألا ترضون أن يحكم فيهم رجل منكم؟ قالوا: بلى، قال: فذاك إلى سعد بن معاذ، قالوا: قد رضينا، ولما أقبل سعدُ بن معاذ رضي الله عنه خرجت إليه الأوس وجعلوا يقولون له: إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ولاك أمر مواليك لتحسن فهيم فأحسن، فقد رأيت ابنَ أبي وما صنع في حلفائه، وأكثروا في هذا وشبهه وهو لا يتكلم، ثم قال: قد آن لسعدٍ ألا تأخذَه في الله لومة لائم، وقالت الأوس الذين حضروا: إنَّ رسول الله قد ولاك الحكم فأحسن فيهم واذكر بلاءهم عندك، فقال سعد أترضون بحكمي لبني قريظة قالوا: نعم، قال وحكمي نافذ عليهم؟ قالوا: نعم، قال وعلى المسلمين؟ قالوا: نعم. قال: وعلى من ها هنا وأعرض بوجهه وأشار إلى ناحية النبي صلى الله عليه وسلم إجلالاً واحتراماً. قال: نعم وعلي، قال فإني أحكم فيهم أن يُقتَل الرجال، وتُسبى النساء والذريَّة وتقسم الأموال، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد حكمتَ فيهم بحكم الله من فوق سبع سماواته.

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر بأسراهم فكتفوا رباطاً، وأخرج النساء والذرية من الحصون في ناحية، وجمعت الأمتعة، وما جاء في الحصون كان ألفاً وخمسمائة سيفة وثلاثمائة درع وألفا رمح وألف وخمسمائة ترس، وجحفة وأثاث كبير وآنية كثيرة وخمر وجرار سكر فهريق ذلك كله، ولم يخمس ووجد من الجمال النواضح عدَّة، ومن الماشية الشيء الكثير فجمع هذا كله.

وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم كلَّ من جرت عليه الموسى ومن لم ينبت اِلحقْ بالذريَّة، وكان عدد القتلى ما بين الستمائة والسبعمائة.

ولما جيء بعدوِّ الله حيي بن أخطب للقتل، قال له صلى الله عليه وسلم ألم يكن الله معك يا عدو الله؟ فقال: بلى والله ما لمتُ نفسي في عداوتك ولقد التمست العزَّ في مظانه، وأبى الله إلا أن يمكنك مني، ولقد قلقلت كل مقلقل، ولكنه من يخذل الله يخذل. ثم أقبل على الناس فقال: يا أيها الناس لا بأسَ بأمر الله قدرٌ وكتاب، ملحمة كُتبت على بني إسرائيل.

وعند مقتل الرجال أمرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بإحسان أَسارهم، فقال صلى الله عليه وسلم: (أحسنوا أَسارهم وقيلوهم واسقوهم، لا تجمعوا عليهم حرَّ الشمس وحرَّ السلاح).

وعند قسمة السبي أمرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ألا يفرق في القسم والبيع بين النساء والذرية، قائلاً: (لا يفرق بين الأم وولدها حتى يبلغوا).

وهكذا كانت نهاية غدر بني قريظة ونقضهم لعهدهم. 

ومن الملاحظ أنَّ نهاية كل طائفة من اليهود كانت تأتي عقب كل غزوة من الغزوات الكبار؛ فقد كانت نهاية بني قينقاع عقب بدر، ونهاية بني النضير عقب غزوة أحد، ونهاية بني قريظة عقب غزوة الأحزاب.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 

المصدر: (مجلة منبر الإسلام، السنة الرابعة والثلاثون، ذي الحجة 1396 - العدد 12).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين