من إعجاز النظم القرآني

 

في العدد 193 من مجلة (المجتمع) التي تصدر بالكويت نشر بحث بعنوان: (من إعجاز النظم القرآني في شهادة شاهدي الميت المغترب) تناول فيه الكاتب بالتفسير والتعليق قوله تعالى:[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ حِينَ الوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آَخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ المَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الآَثِمِينَ(106) فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآَخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107) ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاسْمَعُوا وَاللهُ لَا يَهْدِي القَوْمَ الفَاسِقِينَ(108) ]. {المائدة}..

ومع ما أعرفه من حسن قصد الكاتب الفاضل، ومع ما يبدو في بحثه من محاولة إثبات الإعجاز لهذه الآيات بسبب مواءمة ألفاظها للقضية التي تتحدث عنها... أرى لزاماً عليَّ – وفاء بحق كتاب الله تعالى – أن أقف معه وقفة متأنية في موضعين:

الأول: وصفه لهذه الآيات الكريمة.

الثاني: منهجه في تفسيرها.

أما عن الأول فقد وصف الآيات الكريمة بهذه الأوصاف: 

1 – قد كثر فيها الخروج عن مألوف النظم القرآني خروجاً متعمَّداً، فهناك تقديم وتأخير بحيث تبدو الجمل وكأنما يدفع بعضها بعضاً ليزيله عن موضعه قسراً.

2 – ثم هناك هذا العسر الشديد في النطق بالكلمات، شدها إلى اللسان، وجمعها عليه.

3 – ونقرأ الآيات مرة ومرة فإذا هي كعهدنا بها تتأبى على اللسان وتكاد تمسك به.

ولا يشفع له أنه قال بعد هذه الفقرات أننا حين نقرؤها ترتيلاً تجد (كلماتها متناغمة يأنس بعضها ببعض، ويتجاوب بعضها مع بعض، وإذا هي لينة اللمس عذبة المذاق، وإذا هي على الأذن لحن موسيقي علوي النغم، يهز القلب ويمسك بمجامعه).

أقول: لا يشفع له هذا لأن هدفه الذي يريد الوصول إليه هو إثبات المناسبة التامة بين نظم هذه الآيات وبين ما تعالجه من موقف غريب مضطرب، وهذه الأوصاف الأخيرة تنقض عليه غرضه، ولذلك نجده يقول بعد ذلك:

(ومن أجل هذا أيضاً كان تنازع الكلمات القرآنية فيما بينها حتى لكأنها هي هذه الجهات المتنازعة المتخاصمة في مسارب نفوسها، وفي مجرى خواطرها).

فنرى أن الكاتب لم يترك صفة من الصفات التي تخل بفصاحة الكلام إلا كاد يثبتها ويؤكدها، ولو كان ينظر إلى ما وصفها به عند الترتيل ما قال شيئاً من ذلك، بل وما تحقق له هذا الذي يجري جاهداً ليدركه.

(فالآيات على غير مألوف النظم القرآني، فيها من التقديم والتأخير ما يجعل الجمل يدفع بعضها بعضاً، والكلمات متزاحمة متواكبة، وهي تشبه في اضطرابها هذا الاضطراب في النفوس المتخاصمة المتنازعة).

وكنت أود أن يراجع الكاتب ما أجمع عليه علماء البلاغة من أن تنافر الكلمات يخل بفصاحة الكلام، ومن ثم يخل ببلاغته، وأن معنى هذا التنافر هو ثقل الكلمات على اللسان، وعسر النطق بها، وأنه من الخطأ والخطر أن يوصف كلام، بل كلمة في القرآن الكريم بعدم الفصاحة.

وقد يقول الكاتب إن المتقدمين أفردوا هذه الآيات بوصف مما يدل على أن لها في حكمها ومعناها ونظمها شأناً خاصاً، ومن ذلك مثلاً ما روى المفسر الواحدي في (البسيط) من قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: هذه الآيات أعضل ما في هذه السورة من الأحكام.

وقد ذكر صاحب (البحر المحيط) وغيره عن مكي بن أبي طالب قوله: (هذه الآيات عند أهل المعاني من أشكل ما في القرآن إعراباً ومعنى وحكماً).

وجاء في كلام الفخر الرازي – وعنه نقله بعض المفسرين – قوله: (اتفق المفسرون على أنها في غاية الصعوبة إعراباً ونظماً وحكماً).

 فنقول للكاتب الفاضل:

أولاً: لم يقل أحد من هؤلاء ولا من غيرهم أن الآيات عسيرة النطق على اللسان، ولا أن كلماتها يدفع بعضها بعضاً ليزيله عن موضعه قسراً، ولا أنها خالفت المألوف من نظم القرآن تعهداً.

ثانياً: مع أن (مكي بن أبي طالب) قال: هذه الآيات من أشكل ما في القرآن فجعلها بعض ما في القرآن من الآيات التي تتصف بأنها (أشكل) أي: لم يجعلها منفردة بهذا، أقول: مع ذلك رد عليه المفسر الأندلسي (ابن عطية) فقال: (هذا كلام من لم يقع له الثلج في تفسيرها، وذلك بيِّن من كتابه (يريد كتاب مكي بن أبي طالب).

ثالثاً: لا أدري كيف قال الرازي: (اتفق المفسرون) مع أن من المفسرين الذين سبقوه من لم يقل ذلك.

رابعاً: ننقل هنا ما قاله الشيخ رشيد رضا في تفسيره (المنار) مع ما فيه من الطول لعل فيه ما يوجه إلى الصواب.

 قال الشيخ رشيد – بعد أن أشار إلى هذه الأقوال التي نقلناها – (نحن لا يروعنا ما يراه المفسرون من الصعوبة في إعراب بعض الآيات أو في حكمها، لأن لهم مذاهب في النحو والفقه يزِنون بها القرآن فلا يفهمونه إلا منها، والقرآن فوق النحو  والفقه والمذاهب كلها – فهو أصل الأصول، ما وافقه فهو مقبول وما خالفه فهو مردود مرذول، وإنما يهمنا ما يقوله علماء الصحابة والتابعين فيه – فهو العون الأكبر لنا على فهمه، ولم يرو عن أحد منهم ما يدل على وجدان شيء من الصعوبة في عبارة الآيتين، وما نقله الواحدي عن عمر رضي الله عنه في آية: {فإن عُثر } فليس مما يؤيد ما نقل عن المفسرين من استصعابها، بل معناه أن أحكامها أشد من سائر أحكام السورة، ولعله يعني بذلك ما فيها من التضييق في رد أيْمانٍ بعد أيْمان، وإظهار فضائح مَن كذب وخان، قال في الأساس: (عضلت على فلان: ضيَّقت عليه أمره، وحلت بينه وبين ما يريد، ومنه النهي عن عضل النساء أي: منعهن من الزواج).

خامساً: لم تخالف هذه الآيات في أي جزء من أجزائها المألوف من نظم القرآن الكريم فالفصل – مثلاً – بين شيئين متلازمين ورد في القرآن الكريم كثيراً، من ذلك قوله تعالى:[كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى المُتَّقِينَ] {البقرة:181}. فقد فصَّل بين الفعل ونائب فاعله بكلمات أكثر عدداً من الكلمات التي تفصل بها بين المبتدأ وخبره في آيات المائدة التي معنا.

ومن ذلك قوله تعالى:[وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا] {النساء:73}.

فقد فصل بين القول ومقوله بست كلمات.

وقوله سبحانه في نفس السورة:[وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ] {النساء:102}.

فقد فصَّل بين اسم (لا) وخبرها بتسع كلمات، في حين أن الفصل بين المبتدأ والخبر في آيات المائدة بست كلمات فقط.

وقوله عز وجل في أوائل سورة المائدة:[ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ المَسْجِدِ الحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا] {المائدة:2}.

والفصل ظاهر، وفي قراءة سبعية جاء قوله تعالى:[وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ المُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ] {الأنعام:137}.

بنصب أولاد، وجر شركاء، على أن قتل مضاف وشركائهم مضاف إليه وهكذا.

أما الضمائر التي تصلح أن تعود إلى أكثر من شيء واحد، والضمائر التي يفهم ما تعود إليه من السياق فكثيرة في القرآن الكريم.

وكل ذلك جائز بل كثير في كلام العرب.

وليس شيء من ذلك غريباً حتى يقول الكاتب: (بعد هذا النداء يلقاك المبتدأ (شهادة بينكم) ثم تلقاك هذه الجملة المعترضة – إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية – وبعدها يلقاك الخبر (اثنان) ولا تكاد تتبيَّنه إلا بعد معاودة الفكر وترداد النظر).

ومن هذا الذي يخاطبه الكاتب بقوله: (ولا تكاد) هل عربي يفهم العربية أم أعجمي يجهلها، أو رجل من عامة الناس؟

والصنفان الثالث والثاني لا شأن لنا بهما، ولا ننتظر منهما أن يفهما أين المبتدأ وأين الخبر، وأما الأول وهو الذي يفهم العربية – فإنه يتبين المبتدأ والخبر دون معاودة الفكر وترداد النظر، وحين نقول: (يفهم العربية) لا نريد كل من له أدنى تحصيل من مفرداتها وتراكيبها، وإنما نريد الذين خاطبهم القرآن أولاً وهم العرب الخلص، ثم الذين جاءوا من بعدهم ودرسوا العربية وتدارسوها وحصلت لهم ملكات فيها، فليس للكاتب ولا لنا أن نحكم على كلام عربي بله القرآن الكريم بأنه ثقيل على اللسان، فإذا كان من كبار العلماء في القرن الثاني الهجري من يصرح بأنهم بعدوا عن اللغة التي نزل بها القرآن فكيف بنا، ونحن في القرن الرابع عشر؟

أما عن الموضع الثاني وهو منهجه في التفسير فنسير مع الكاتب خطوة خطوة:

1 – ابتدأ بإعراب بعض الكلمات، فقال: (اثنان) هو خبر المبتدأ (شهادة بينكم) ولا بأس بهذا الإعراب،ولكن كان على الكاتب أن يبيِّن أن هذا الإعراب لا يصح إلا بتقدير أو تأويل فيكون تقدير الكلام – مثلاً –: شهادة بينكم شهادة اثنين لأن (اثنان) لا يكون خبراً عن شهادة، وهو مصدر، إلا بمثل هذا التقدير أو بالتأويل على حد (رجل عدل) وقال: {تحبسونها} صفة ثانية لقوله تعالى : {اثنان} وأكثر المفسرين على أنه استئناف، وبعضهم بل أكثرهم قال أنه صفة (آخران).

 قال الزمخشري: (الاستئناف أظهر من الوصف لطول الفصل بالشرط والمعطوف عليه بين الموصوف وصفته).

ولأن الكلام على القول بأنه صفة لـ (اثنان) أو لـ (آخران) يؤول إلى: فآخران شأنهما الحبس والتحليف.

كما قال المفسر ا لألوسي.

والخطب في الإعراب يسير،ولكني نبهت على ذلك لأشير إلى أن المنهج الذي سار عليه الكاتب يبدو واضحاً فيه حرصه على أن يخالف ما رجحه القدماء، وكما سيتضح مما يلي: 

2 – يقول الكاتب: (هو تشريع للمؤمنين فيما يواجهون به موقفاً كهذا الموقف وهو موت أحدهم، وهو يضرب في الأرض بعيداً عن أهله وذوي قرابته، ففي تلك الحال ينبغي أن يتخير المتحضر شاهدين يتوسم فيهما الأمانة والاستقامة، ثم يدعوهما إليه ويفضي إليهما بما يريد أن يوصي به أهله فيما خلفه وراءه من شؤون).

ولا يزيد على ذلك، ثم يقول في موضع آخر معقباً على تساؤلات الفقهاء والمفسرين حول موقف الشاهدين، يقول: (وهذا التخريج للآية الكريمة على هذا الوجه غير صحيح، فالمفروض في الشاهدين أنهما ذوا عدل).

وبكل ذلك يهمل الكاتب جانباً هاماً من هذه القضية، فالمحتضر يتخير شاهدين ذوي عدل، فإذا لم يجد من يشهده من ذوي العدل أشهد من حضره.

 وقد اختلف العلماء في تفسير قوله تعالى: {من غيركم}. فقال عامة المفسرين – كما ذكر الرازي – أن الشاهدين الآخرين من غير المسلمين، وغير المسلمين لا يوصف بالعدالة، و إن ذلك جائز في السفر خاصة بنص هذه الآيات، ثم قال الرازي: وأجمع المسلمون على أن الشاهد المسلم لا يجب عليه الحلف.

فالمحتضر لا يستطيع أن يتخير الشاهدين في كل الأحوال، بل يشهد من حضره سواء تحقق فيه العدالة أو لم تتحقق لأنه لا يجد حتى يتخير، وقديماً قال العرب: (من أخصب تخير) والمحتضر في الغيبة قد يكون مجدباً، فربما لا يجد أحداً من ذوي قرابته ولا من المسلمين الأجانب عنه.

ومما يدل على أن المراد بالآخرين من غيركم، شاهدان من غير المسلمين، أن المفسرين اتفقوا – كما قال الرازي – على أن هذه الآيات نزلت في تميم الداري وعدي بن زياد حين مات بديل بن أبي مريم، وأشهدهما على ما معه. وتميم وعدي لم يكونا مسلمين في ذلك الوقت، قال ابن عطية: ولا نعلم خلافاً في أنهما كانا نصرانيين وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم باستحلافهما حين نزلت هذه الآيات.

ورأى بعض المفسرين أن (الآخرين) يكونان من غير الأقارب، أي: من المسلمين، ولكنهم من غير الأقارب واختار جماعة من المتأخرين الرأي الأول حتى قال الجصاص أن التفسير الثاني لا وجه له لأن الخطاب توجه أولاً إلى أهل الإيمان فالمغايرة تعتبر فيه ولم يجر للقرابة ذكر.

وقد قال بعض المفسرين: إن المؤمنين في ذلك الوقت – أي وقت نزول الآيات لم يكونوا في غير المدينة، فدلت الآية على أن للمحتضر أن يشهد اثنين من غير المسلمين، وأقرَّت فعل بديل ابن أبي مريم.

قال الفخر الرازي: (فالمسلمان العدلان صالحان للشهادة في الحضر والسفر ، وهذا قول ابن عباس وأبي موسى الأشعري وسعيد بن جبير، وسعيد بن المسيب، وشريح ومجاهد وابن جرير.

قالوا: إذا كان الإنسان في الغيبة، ولم يجد مسلماً يشهده على وصيته جاز له أن يشهد اليهودي أو النصراني أو المجوسي، وعابد الوثن أو أي كافر كان وشهادتهم مقبولة ولا يجوز شهادة الكافرين على المسلمين إلا في هذه الصورة.

كل هذه الأقوال وهذه الحجج تجاهلها الكاتب، وكأن أحداً لم يقلها ثم أخذ يعيب على الفقهاء والمفسرين تساؤلاتهم، ويصفها بأنها (ضرب من المماحكة) وهي من (قبيل الرياضة الذهنية).

وأحب هنا أن أوجه نصيحة – إذا سمح لي الكاتب الفاضل لكل من يتحدى للبحث فيما تناوله الأقدمون، فأقول: ليس الطريق في الوصول إلى الرأي الصحيح هو رد آراء الآخرين دون بيّنة وبرهان، ولا سيما آراء كبار العلماء من فقهاء ومفسرين وبخاصة إذا كان الحق واضحاً في جانبهم وإن اهمال الآراء على هذه الصورة التي رأيناها عند الكاتب دون إبداء أي سبب لهذا الإهمال ظلم لهؤلاء العلماء، وظلم النص نفسه الذي تناولوه بالتفسير، ولا حرج على أيِّ باحث أن يختار ما يشاء من آراء، ولكن بشرط أن يقول للقارئ: لماذا اختار هذا الرأي، وما وجه إعراضه عن الرأي الآخر، أما أن يختار الباحث الرأي المرجوح، ويترك الرأي الراجح الذي قامت عليه أدلة قوية دون أية حجة مقنعة فذلك مالا يقبل في شريعة البحث العلمي.

3 – ذكر الكاتب أنه اختلف في (الصلاة) التي يحبسان بعدها أهي صلاة العصر أم صلاة الظهر ثم قال: (والرأي أنها أي صلاة) حيث أطلق القرآن ذلك ولم يقيده هكذا بكل بساطة ويسر صار (الرأي) عند الكاتب أنها أي صلاة وقد قال بذلك بعض المفسرين، فإذا ليس هو (الرأي) عند الكاتب،ولكن لماذا رجح الكاتب هذا الرأي، بل جعله الرأي الذي لا رأي غيره مع أن هناك شواهد كثيرة دلت على أنها (صلاة العصر).

فالنبي صلى الله عليه وسلم حين فصل في قضية بديل، وهي التي كانت سبب النزول أمر باستحلاف الشاهدين بعد صلاة العصر، وكذلك فعل أبو موسى الأشعري رضي الله عنه حين رفعت إليه قضية مماثلة، ولا نحجر على أحد أن يقول واثقاً أو غير واثق (والرأي) ولكن نلزمه حينئذ – كما قلت – أن يفند آراء القائلين بالرأي المخالف ولا سيما إذا كان الرأي الذي خالفه هو الرأي الراجح عند العلماء.

ونحن ننقل هنا ما قاله شيخ المفسرين (ابن جرير الطبري) لعل فيه ما يقنع بأنَّ الصلاة في الآية ليست مطلقة، قال هذا المفسر الكبير: (وأولى القولين في ذلك بالصواب عندي قول من قال: تحبسونها من بعد صلاة العصر، لأن الله تعالى عرف (الصلاة) في هذا الموضع بإدخال الألف واللام فيها ولا تدخلها العرب،إلا في معرف، أما في جنس، أو في واحد معهود معروف عند المتخاطبين فإذا كان كذلك، وكانت الصلاة في هذا الموضع مجمعاً على أنه لم يعن بها جميع الصلوات لم يجز أن يكون مراداً بها صلاة المستحلف من اليهود والنصارى، لأنهم لهم صلوات ليست واحدة فيكون معلوماً أنها المعنية بذلك، فإذا كان ذلك كذلك صحَّ أنها صلاة بعينها من صلوات المسلمين، وإذا كان ذلك كذلك، وكان النبي صلى الله عليه وسلم صحيحاً عنه أنه لاعن بين العجلانيين بعد صلاة العصر، دون غيرها من الصلوات كان معلوماً أن التي عنيت بقوله: (تحبسونهما من بعد الصلاة) هي الصلاة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخيرها لاستحلاف من أراد تغليظ اليمين عليه، هذا مع ما عند أهل الكفر بالله من تعظيم ذاك الوقت، وذلك لقربه من غروب الشمس).

فابن جرير رجح، واستدل بدليل لغوي، وبدليل نقلي هو فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع العجلانيين، وأشار كذلك إلى تعظيم المستحلفين من اليهود والنصارى لهذا الوقت، ولكن الكاتب اكتفى بكلمة واحدة هي أن الصلاة في الآية مطلقة، وقد رد الطبري القول بالإطلاق، فكان على الكاتب لو أراد الإقناع برأيه أن يفند ما قاله الطبري وغيره، مع العلم بأن هذا قول الجمهور.

فإذا أضفنا إلى ذلك ما كان من النبيِّ صلى الله عليه وسلم عندما نزلت الآية، وما فعله أبو موسى الأشعري رضي الله عنه وما روي عن سعيد بن جبير رضي الله عنه وقتادة من أن الاستحلاف يكون بعد العصر، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من حلف على يمين كاذبة بعد العصر لقي الله وهو عليه غضبان"، مما يدل على أن هذا الوقت كان وقت الاستحلاف، وما قاله الزمخشري من أن صلاة العصر كانت معروفة عندهم بالتحليف بعدها، وأن ذلك أغنى عن التقييد.

أقول: إذا أضفنا كل ذلك إلى ما قاله الطبري لم يخامرنا شك في أن الكاتب حينما قال: (والرأي) لم يكن منصفاً لهؤلاء العلماء، بل لم يكن على المنهج الصحيح في قبول بعض الآراء ورفض بعض آخر منها.

4 – قال الكاتب: (لا نذهب في فهم الآية الكريمة إلى ما ذهب إليه المفسرون من أن حبس الشاهدين بعد الصلاة، وتوجيه اليمين إليهما إنما يكون ذللك عند الارتياب في شهادتهما، فإن حبسهما بعد الصلاة وقبل أداء الشهادة هو الإجراء المطلوب على كل حال، سواء وقع في نفس أهل المتوفى ارتياب أو لم يقع، فذلك التدبير من أداء الشهادة بعد الصلاة مما يدخل الطمأنينة في النفوس، و مما يقيم في نفس الشاهدين وازعاً يزعهما عن الانحراف في الشهادة على وجهها كما يقول سبحانه: [ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا ] {المائدة:108}.

وأول ما نلاحظه أن الكاتب أوهم القراء أن المفسرين جميعاً قالوا: إن الحبس لا يكون إلا بعد الارتياب، وأنه – وحده – يقول بخلاف ذلك – أي برأي جديد مع أن من المفسرين من قال به.

والمسألة ترجع إلى احتمال لغوي لا مناص من الاعتراف به، ولا يمكن تجاهله بل لا يمكن تجاوز رأيٍ ما إلا إذا أقيم دليل على أنه غير صالح بدليل وحجة.

الآية الكريمة تقول: [تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ] {المائدة:106}.

فهناك شرط مؤخَّر تقدمه فعلان يصلح الثاني منهما أن يكون دليل الجواب، ويصلح الأول معطوفاً عليه، الثاني أن يكونا دليلي الجواب.

 فعلى التقدير الأول: إن ارتبتم يقسمان بالله، وعلى التقدير الثاني: إن ارتبتم فاحبسوهما فيقسمان بالله وهذا كما قلت صنيع لغوي لا سبيل إلى إنكاره أو تجاهله.

وقد قال بالأول بعض المفسرين، وقال بالثاني أكثر المفسرين، روى الطبري عن قتاده قوله: (فإن ارتبتم في شهادتهما استحلفا بعد العصر).

وعن سعيد بن جبير: (فإن صدقهما الورثة قُبل قولهما وإن اتهموهما أحلفا بعد صلاة العصر).

وقال الفخر الرازي: (إن ارتبتم اعتراض، والمعنى إن ارتبتم في شأنهما واتهمتموهما فحلفوهما).

وذكر الطبري عن السدي: فإن رضي أهل الميت الوصية وعرفوا مال صاحبهم تركوا الرجلين، وإن ارتابوا رفعوهما إلى السلطان فذلك قوله: [تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ] {المائدة:106}.

وفي روح المعاني: إن ارتبتم والجملة شرطية حذف جوابها لدلالة ما سبق من الحبس والإقسام عليه.

وأعتقد أنه لا وجه مطلقاً – بعد كل ما سبق – لقول الكاتب – أنه لا يذهب مذهب المفسرين، وكان يرجى منه أن يقول: إني أذهب مذهب بعض المفسرين الذين يقولون أن الاستحلاف مقيد بالارتياب، أما الحبس فهو مطلق.

على أن ما سبق من قوله في الشاهدين، وأن المفروض فيهما أنهما ذوا عدل يقتضي أن يرجِّح الرأي القائل بأن جواب الشرط ما دل عليه الحبس والإقسام معاً، وقد رد قول الفقهاء وقال إنه غير صحيح حين قالوا أن الشاهدين أصبحا متهمين بارتياب أهل الميت فيهما، رد ذلك بقوله: إن المفروض في الشاهدين أنهما ذوا عدل، فإذا لم يرض وصف التهمة لهما بارتياب ورثة الميت فيهما – مع أن ذلك صحيح – بفرض عدالتهما فلأن يعفيهما من الحبس أولى وأحق.

وأقول: إن قول الفقهاء صحيح وتخطئته لهما في هذا القول ليست بصحيحة، وذلك لأن هذا أمر لا مجال للتردد فيه، الشاهدان ذكرا ما أوصى به الميت،وأهل الميت شكوا في شهادتهما فبماذا نسمي ذلك ؟ هل يمكن أن نسمية إقرار أهل الميت بعدالتهما، أو رضاء أهل الميت عنهما، وإذا لم يكن هذا اتهاماً لهما فما الاتهام؟

5 – ويعلل الكاتب لذكر كلمة (مصيبة) في هذه الآية: [فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ المَوْتِ] {المائدة:106}. بأن ذلك إشارة إلى أن هذا الموت الذي يقع في الغيبة هو شيء أكثر من الموت بما يبعث من حسرة مضاعفة في المحتضر الذي لم يشهده أهله، وفي أهله الذي لم يحضروا موته ولم يؤدوا ما يجب للميت على الحي، ومن هناك جاء التعبير عن الموت بالمصيبة الذي هو في واقعه شيء طبيعي في غير تلك الحال التي وقع فيها؟

وهذا الكلام هنا غريب حقاً فكأنَّ القرآن لم يعبر عن الموت بالمصيبة إلا هنا، وكأن الموت لا يكون موجعاً محزناً إلا في الغربة، فمن قال إن الموت في واقعه شيء طبيعي في غير هذه الحال؟ وهل نزل قوله تعالى:.[ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ] {البقرة:155-156}. فيمن ماتوا في الغربة؟ أما الذين مات أحباؤهم في الحضر فإنهم لم تصبهم مصيبة، فلا صبر ولا بشرى؟

إن القرآن الكريم عبر بكلمة (مصيبة) عن نوازل أخرى: [مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ] {التغابن:11}. وإذاً فهي ليست خاصة بالموت في الغربة.

ولو صحَّ لنا أن نستبدل كلمات أقرب إلى الصواب بكلمات الكاتب لقلنا: جمع القرآن الكريم هنا بين المصيبة والموت مع أن الموت في نفسه مصيبة، ومع أنه لو قيل: فأصابكم الموت لفهم منه مصيبة الموت لسر من الأسرار البلاغية، ذلك أن الموت في ذاته أمر تفزع منه القلوب والأبدان، ولكنه في الغربة يكون أشد على النفوس وقعاً فصرح بلفظ المصيبة هنا للإشارة إلى قسوة الموت في الغربة.

وأعود فأقول: إن الكاتب الفاضل – فيما أعرف - حسن القصد، ولكن هذا الذي نعرفه لا يجعلنا نغضُّ الطرف عن أسلوب التعبير حين يتصل بالقرآن الكريم،ولا عن تنقص الأقدمين من المفسرين والفقهاء وتخطئتهم وإيهام أنهم يعملون عمل الفارغين من المماحكة اللفظية والرياضة الذهنية، وهم ينظرون في كتاب الله تعالى، ويكون واجبنا في الذود عنهم ألزم حين يكونون هم على الجادة، وغيرهم ممن يخطئونهم على ثنيات الطريق.

والله يهدينا جميعاً سواء السبيل.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 

من كتاب:" تيارات منحرفة في التفكير".

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين