من الخصائص العامة للإسلام الربانية – 1 –

 

يتميز الإسلام عن كل ما سواه من الأديان والمذاهب والأنظمة، بمجموعة من الخصائص العامة، جعلته خير دين ينتظم البشرية ويقودها إلى رشدها وتخللت كل أجزائه ومقوماته: عقيدة وبعادة وأخلاقاً وتشريعاً ونظام حياة.

وسنحاول هنا إلقاء الضوء على أهم هذه الخصائص وأبرزها، مستمدين التوفيق من الله تعالى.

أما الخصيصة الأولى من الخصائص العامة للإسلام فهي: الربانية.

والربانية ـ كما يقول علماء العربية ـ مصدر صناعي، منسوب إلى الرب تعالى، وزيدت فيه الألف والنون، ومعناه الانتساب إلى الرب، أي: الله سبحانه وتعالى.

ويطلق على الإنسان أنه رباني إذا كان وثيق الصلة بالله، عالماً بدينه وكتابه، معلماً له، وفي القرآن الكريم:[ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ] {آل عمران:79}. 

والمراد من الربانية هنا أمران:

1 ـ ربانية الغاية والوجهة. 2 ـ ربانية المصدر والمنهج.

1 ـ ربانية الغاية والوجهة: 

فأما ربانية الغاية والوجهة، فنعني بها: أن الإسلام يجعل غايته الأخيرة وهدفه البعيد، هو حسن الصلة بالله تبارك وتعالى، والحصول على مرضاته، فهذه هي غاية الإسلام، وبالتالي هي غاية الإنسان، ووجهة الإنسان، ومنتهي أمله وسعيه وكدحه في الحياة:[يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ] {الانشقاق:6}.[وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ المُنْتَهَى] {النَّجم:42}.

ولا جدال في أن للإسلام غايات وأهدافاً أخرى إنسانية واجتماعية، ولكن عند التأمل نجد هذه الأهداف في الحقيقة خادمة للهدف الأكبر، وهو مرضاة الله تعالى، وحسن مثوبته، فهذا هو هدف الأهداف، أو غاية الغايات.

في الإسلام تشريع ومعاملات،ولكن المقصود منها هو تنظيم حياة الناس حتى يستريحوا ويبرأوا من الصراع على المتاع الأدنى، ويفرغوا لمعرفة الله تعالى وعبادته.

وفي الإسلام جهاد وقتال للأعداء، ولكن الاية هي: [وحَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ للهِ] {الأنفال:39}.

وفي الإسلام حث على المشي في مناكب الأرض والأكل من طيباتها،ولكن الغاية هي القيام بشكر نعمة الله وأداء حقه:[ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ] {سبأ:15}.

وكل ما في الإسلام من تشريع وتوجيه وإرشاد، إنما يقصد إلى إعداد الإسلام ليكون عبداً خالصاً لله، لا لأحد سواه، ولهذا كان روح الإسلام وجوهره هو التوحيد.

ومعنى التوحيد: أن يعلم الإنسان إنه لا إله إلا الله، وأن يفرده تعالى بالعبادة والاستعانة، فلا يشرك به أحداً، ولا يشرك معه شيئاً، وهذا معنى:[إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ] {الفاتحة:5}. التي يرددها المسلم في صلواته كل يوم ما لا يقل عن سبع عشرة مرة، كلما قرأ فاتحة الكتاب في ركعة من ركعات الصلاة.

ولقد خاطب الله تعالى رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم بهذه الحقيقة، وأمره أن يعلنها ويبلغها للناس، فقال [قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ العَالَمِينَ(162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ المُسْلِمِينَ(163) قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ(164) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ العِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ(165) ]. {الأنعام}..

إن الإنسان لم يخلق لمجرد أن يأكل ويشرب، ويلهو ويلعب، ثم بعد ذلك يموت أو ينفق كما تنفق الدابة، كالذين حكى القرآن عنهم أنهم:[ يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ] {محمد:12}.

إنما خلق الإنسان لغاية أسمى.

يقولون: إن الأحمق يعيش ليأكل، والعاقل يأكل ليعيش، فإن المؤمن يعيش ليعبد الله وحده.

يقرر القرآن هذه الحقيقة بوضوح وجلاء حين يذكر الغاية من خلق الجن والأنس فيقول  تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ(56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ(57) إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو القُوَّةِ المَتِينُ(58) ]. {الذاريات}. 

بل يبين القرآن الكريم أن خلق العالم كله علوية وسفلية، سمواته وأرضه، لم تكن الغاية منه إلا أن يعرف الناس ربهم القادر على كل شيء، العليم بكل شيء، وهذه المعرفة هي باب كل هدى، ومفتاح كل خير، يقول سبحانه:[اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا] {الطَّلاق:12}. 

الإنسان إذن لم يخلق لنفسه، فكل شيء في هذه الكون قد خلق ليؤدي خدمة لغيره، وهو كذلك لم يخلق لخدمة شيء آخر من مخلوقات هذا الكون، فكل ما في الكون سخر لخدمته، كما قال الله تعالى:[أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً] {لقمان:20}.

إنما خلق الله جل جلاله الإنسان، لمعرفته وعبادته، وأداء أمانته في الأرض، وكفى بهذا شرفاً وفخراً، فهو سيد في الكون عبد لخالته وحده.

من ثمرات هذه الربانية في النفس والحياة:

ومما لا ريب فيه أن لهذه الربانية ـ ربانية الغاية والوجهة ـ فوائد وآثاراً جمّة في النفس والحياة، يجنى الإنسان ثمارها في هذه الدنيا، فضلاً عن ثمراتها في الآخرة، وهي ثمار في  غاية الأهمية.

فمن آثار هذه الربانية وثمراتها:

أولاً ـ معرفة غاية الوجود الإنساني:

أن يعرف الإنسان لوجوده غاية، ويعرف لسيرته وجهة، ويعرف لحياته رسالة، وبهذا يحس أن لحياته قيمة ومعنى، ولعيشه طعماً ومذاقاً، وأنه ليس ذرة تافهة تائهة في الفضاء، ولا مخلوقاً سائباً يخبط خبط عشواء في ليلة ظلماء، كالذين جحدوا الله أو شكوا فيه، فلم يعرفوا: لماذا وجدوا؟ ولماذا يعيشون ولماذا يموتون؟

كلا، إنه لا يعيش في عماية، ولا يمشي إلى غير غاية، بل يسير على هدى من ربه، وبينه من أمره، واستبانة لمصيره، بعد أن عرف الله وأقر له بالواحدانية.

إنه لا يقول ما قاله الشاعر الحائر المرتاب:

لبست ثوب العمر لم أستشر=وحرت فيه بين شتى الفكر!

وسوف أنضو الثوب عني ولم=أدر: لماذا جئت؟ أين المفر!

 

أو ما قاله الآخر:

 

جئت لا أعلم من أين ولكني أتيت!

 

كلا... فقد اتضحت وجهته الربانية، وعرف من أين جاء، ولم جاء، وإلى من فراره، وأين قراره، إن حسبه أن يقرأ من كتاب ربه ما رد به إبراهيم خليل  الرحمن على عبدة الأوثان فقال [فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ العَالَمِينَ(77) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ(78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ(79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ(80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ(81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ(82) ]. {الشعراء}..

ثانياً ـ الاهتداء إلى الفطرة:

ومن ثمرات الربانية و فوائدها أن يهتدي الإنسان إلى فطرته التي فره الله عليها والتي تطلب الإيمان بالله تعالى، ولا يعوضها شيء غيره، يقول تعالى:[فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ] {الرُّوم:30}.

واهتداء الإنسان إلى فطرته ليس كسباً رخيصاً، بل هو كسب كبير، وغنم عظيم، فيه يعيش المرء في سلام ووئام مع نفسه، ومع فطرة الوجود الكبير من حوله، فالكون كله رباني الوجهة، ويسبح بحمد الله:[ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ] {الإسراء:44}.

والحقيقة إن في فطرة الإنسان فراغاً لا يملؤه علم، ولا ثقافة ولا فلسفة، إنما يملؤه الإيمان باله جل وعلا.

وستظل الفطرة الإنسانية تحس بالتوتر والجوع والظمأ، حتى تجد الله، وتؤمن به، وتتوجه إليه.

هناك  تستريح من تعب وترتوي من ظمأ، وتأمن من خوف، هناك تحس بالهداية بعد الحيرة، والاستقرار بعد التخبط، والاطمئنان بعد القلق، ووجدان المنزل والأهل بعد طول الغربة، والضرب في أرض التيه.

فألقت عصاها واستقر بها النوى=كما قر عينا بالإياب المسافر

فإذا لم يجد الإنسان ربه ـ وهو أقرب إليه من حبل الوريد ـ فما أشقى حياته وما أتعس حظه، وما أخيب سعيه!!

إنه لن يجد السعادة، ولن يجد السكينة، ولكن يجد الحقيقة... لن يجد نفسه ذاتها:.[ كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ] {الحشر:19} 

فتصور إنساناً يعيش دون أن يجد نفسه، وهو في رأى نفسه، وفي نظر الناس بشر عاقل، سميع بصير، بل لعله جامعي مثقف، ولعله ـ فوق ذلك ـ دكتور كبير في العلوم أو الآداب!

وكيف يجد نفسه من لم يعرفها ؟ وكيف يعرفها من حجب عنها بالغرور والكبر؟ أو شغل عنها باتباع الشهوات، والإخلاد إلى الأرض، والغرق في لذائذ الحس،  ومطالب الجسد والطين؟

إن الإنسان خلق عجيب، جمع بين قبضة من طين الأرض، ونفخة من روح الله، فمن عرف جانب الطين، ونسى نفخة الروح، لم يعرف حقيقة الإنسان.

ومن أعطى الجزء الطيني فيه غذاءه وربه مما أنبتت الأرض، ولم يعط الجانب الروحي غذاءه من الإيمان ومعرفة الله، فقد بخس الفطرة الإنسانية حقها، وجهل قدرها، وحرمها ما به حياتها وقوامها.

قال ابن القيم  رحمه الله تعالى في كتابه: مدارج السالكين: (في القلب شعث لا يلمه إلا الإقبال على الله، وفيه وحشة لا يزيلها إلا الأنس بالله، وفيه حزن لا يذهبه إلا السرور بمعرفته، وصدق معاملته، وفيه قلق لا يسكنه إلا الاجتماع عليه، والفرار إليه، وفيه نيران حسرات لا يطفئها إلا الرضى بأمره ونهيه وقضائه، ومعانقة الصبر على ذلك إلى وقت لقائه.

وفيه فاقة لا يسدها إلا محبته والإنابة إليه، ودوام ذكره، وصدق الإخلاص له، ولو أعطى الدنيا وما فيها لم تسد تلك الفاقة أبداً).

وهذا ليس كلام عالم فحسب، بل كلام ذائق مجرب، يقول ماخبره وأحس به في نفسه، وما رآه ولاحظه في الناس من حوله.

إنها الفطرة البشرية الأصيلة التي لا تجد سكينتها إلا في الاهتداء إلى الله والإيمان به، والالتجاء إليه.

إنها الفطرة التي لم يملك مشركو العرب في جاهليتهم أن ينكروها مكابرة وعناداً:[وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللهُ] {العنكبوت:61}. 

وقد يتراكم على هذه الفطرة صدأ الشبهات أو غبار الشهوات، وقد تنحرف وتتدنس باتباع الظن أو اتباع الهوى، أو التقليد الجاهل للأجداد والآباء، أوالطاعة العمياء للسادة والكبراء، وقد يصاب الإنسان بداء الغرور والعجب فيظن نفسه شيئاً يقوم وحده، ويستغني عن الله!!

بيد أن هذه الفطرة الأصيلة تذبل ولا تموت، وتكمن ولا تزول، فإذا أصاب الإنسان من شدائد الحياة وكوارثها مالا قبل له به، ولا يد له ولا للناس في دفعة، ولا رفعة، فسرعان ما تزول القشرة السطحية المضللة، وتبرز الفطرة العميقة الكامنة، وينطلق الصوت المخنوق المحبوس، داعياً ربه، منيباً إليه كما قال تعالى:[وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي البَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ] {الإسراء:67}.

هذه الفطرة حقيقة أجمع عليها الباحثون في تاريخ الأمم والأديان والحضارات فقد وجدوا الإنسان منذ أقدم العصور يتدين ويتعبد ويؤمن بإله، حتى قال أحد كبار المؤرخين: (لقد وجدت في التاريخ مدن بلا قصور ولا مصانع ولا حصون، ولكن لم توجد أبداً مدن بلا معابد).

ولهذا كانت مهمة رسل الله كافة في جميع الأعصار، هي تحويل الناس من عبادة المخلوقات إلى عبادة الخالق، وكان نداؤهم الأول إلى قومهم:[ أَنِ اُعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ] {النحل:36}. [اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ] {الأعراف:-65-73-85-59}..

ثالثاً ـ سلامة النفس من التمزق والصراع:

ومن ثمرات هذه الربانية ـ ربانية الغاية والوجهة ـ سلامة النفس البشرية من التمزق والصراع الداخلي، والتوزع والانقسام بين مختلف الغايات،وشتى الاتجاهات.

لقد اختصر الإسلام غايات الإنسان في غاية واحدة هي إرضاء الله تعالى، وركز همومه في هم واحد هو العمل على ما يرضيه سبحانه.

ولا يريح النفس الإنسانية شيء كما يريحها وحدة غايتها ووجهتها في الحياة فتعرف من أين تبدأ، وإلى أين تسير، ومع من تسير.

ولا يشقى الإنسان شيء مثل تناقض غاياته، وتباين اتجاهاته، و تضارب نزعاته، فهو حيناً يشرق، وحيناً يغرب، وتارة يتجه إلى اليمن، وطوراص يتجه إلى اليسار، ومرة يرضى زيداً فيغضب عمرو، وأخرى يرضى عمراً فيغضب زيد، وهو في كلا الحالين حائر بين رضا هذا وغضب ذاك. 

ومن في الناس يرضى كل نفس=وبين هوى النفوس مدى بعيد

 

إن عقيدة التوحيد قد منحت المسلم يقيناً بأن لا رب إلا الله يخاف ويرجى، ولا إله إلا الله، يتقي سخطه، و يلتمس رضاه، وبهذا أخرج المسلم كل الأرباب الزائفة من حياته، وحطم كل الأصنام  المادية والمعنوية من قلبه، ورضى بالله وحده رباً، عليه يتوكل، وإليه ينيب، وفي فضله يطمع،ومن قوته يستمد، وله يتودد، وإليه يحتكم، وبه يعتصم:[ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ] {آل عمران:101}.

فأين هذا من المشرك بالله، الذي تعددت أربابه، وتضاربت وجهاته، وقد مثله القرآن الكريم بعبد له أكثر من سيد، وهم شركاء متشاكسون غير متوافقين، كل يأمره بضد ما يأمره به الآخر، ويريد منه غير ما يريده، فهمه متفرق، وقلبه مشتت، يقول تعالى:[ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا] {الزُّمر:29}. 

وقال يوسف عليه السلام لرفيقيه في سجن مصر، وقد كانا كقومهم ممن يعبدون مع الله إلهة أخرى:[يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الوَاحِدُ القَهَّارُ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الحُكْمُ إِلَّا للهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ] {يوسف: 39 -40}.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 

المصدر: مجلة الوعي الإسلامي جمادى الأولى 1395 العدد: 125.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين