من رجال الآخرة : الخليفة العادل عمر بن عبدالعزيز رحمه الله

 

لقد جمع الرجال من سلفنا الصالح بين صفتي الصلاح والإصلاح، فكانوا صالحين في أنفسهم، مصلِحين لمجتمعاتهم.

 

وإن واحدًا من هؤلاء: "الإمام الحافظ العلامة المجتهد أمير المؤمنين الخليفة العادل عمر بن عبدالعزيز رحمه الله"، فإنه لما وَلِيَ الخلافة أحدث في نفسه تغييرًا شاملاً وانقلابًا خطيرًا، وظهر آثار هذا التغيير واضحة جليَّة على جميع تصرفاته، وفي مجتمعه.

 

لقد قام منهجه التغييري على قواعدَ وأسس مستمدة ومستوحاة من منهج الله.

 

وكان من هذه القواعد والأسس قاعدةٌ كان لها الأثر الكبير في تكوين شخصيته وانطلاقته المباركة، ألا وهي الزهد في الدنيا، قاعدة التجرد المطلَق، والنزاهة في أروع صورها!

 

وكان لهذه القاعدة الإيمانية عوامل ساعدت على ظهورها، من أهمها:

أولاً: استعداده الفطري وما يتحلى به من صفاء ونقاء؛ فقد كان رحمه الله منذ صغره يخاف الآخرة، ويبكي لذِكر الموت، بكى مرة وهو غلام صغير قد جمع القرآن، فأرسلت إليه أمه فقالت: ما يبكيك؟ قال: "ذكرتُ الموت".

 

ثانيًا: تعهده بالتعليم والتربية والتأديب منذ نشأته، وكان ذلك بتوجيه من والده؛ فقد بعثه إلى المدينة المنورة يتأدب بها، وكتب إلى الإمام الفقيه صالح بن كيسان أن يتعاهَدَه.

 

وكان يلازم التابعيَّ الجليل الإمام عبيدالله بن عبدالله بن عتبة في هذه الفترة، ويأخذ عنه العلم والحديث.

 

وحدَث أن أبطأ يومًا عن الصلاة، فقال له الإمام صالح بن كيسان: ما حبَسك؟

قال: كانت مُرَجِّلَتي - ماشطة شعري - تسكِّن شعري.

 

فقال: بلغ حبُّك تسكينَ شعرك أن تؤثِرَه على الصلاة؟

وكتب إلى والده بذلك، فبعث إليه والده برسول فلم يكلِّمْه حتى حلق شعره!

 

وكان لهذه التربية وهذا التعليم أكبرُ الأثر في حياته؛ لذلك كان يقول عندما ولِيَ الخلافة: لو أدركني عبيدالله بن عبدالله بن عتبة إذ وقعتُ فيما وقعت فيه، لهان علَيَّ ما أنا فيه".

 

ثالثًا: قُربه من العلماء العاملين، ممن يُعرَف بالعلم والزهد والورَع، وأخذُه بمشورتهم، وطلب النصح منهم، لا سيما بعد الخلافة حينما أنيطت به مسؤولية الأمة.

 

كتب إلى شيخ التابعين الإمام العابد الزاهد الحسن البصري رحمه الله يقول له: "عِظْني وأوجز"، فكتب إليه رسالة غالية عاطرة نفيسة، هذا نصها:

"أما بعد:

فإنَّ رأس ما هو مصلحك ومصلح به على يدك: الزهدُ في الدنيا، وإنما الزهد باليقين، واليقين بالتفكر، والتفكر بالاعتبار، فإذا أنت تفكرت في الدنيا لم تجِدْها أهلاً أن تبيعَ بها نفسك، ووجدت نفسك أهلاً أن تكرمَها بهوان الدنيا؛ فإنما الدنيا دارُ بلاء ومنزلُ غفلة".

 

وكذلك كتب إلى علماء عصره العاملين، وزهَّادهم، وعبَّادهم، يسترشدهم ويستنصحهم.

 

بكى مرة - بعد أن استُخلِف - وكان بجانبه الإمامُ أبو قِلابة فقال له: هل تخشى عليَّ يا أبا قِلابة؟!

فقال: كيف حبُّك الدرهم؟

قال: لا أحبه.

 

قال: لا تخَفْ! إن الله عز وجل سيُعينك".

 

هكذا كان حاله؛ دائم الخوف، دائم البكاء، كيف لا وهو يعلم أنه مسؤول عن دولة تمتد حدودُها من أطراف الصين إلى بحر الظلمات!

 

وكان زاهدًا في المال: لم يأخذ من بيت مال المسلمين شيئًا، وكان قادرًا أن يأخذ ما يشاء منه، لكن زهده الحقيقي ونزاهته كانت تمنعه، فكان له غلام يعمل على بغلٍ له، يأتيه بدرهم كل يوم فيُنفقه على نفسه.

 

ولقد وصلت نزاهتُه إلى حد لا يوصف، لا سيما حينما يتعلق الأمرُ ببيت مال المسلمين.

 

أُتِي مرة بماء قد سخن في فحم الإمارة، فكرهه ولم يتوضأ به.

 

وقال مرة: سخنوا لي ماء أغتسل به للجمعة.

فقيل له: يا أمير المؤمنين، لا والله ما عندنا عود حطب نوقده به.

قال: فذهبوا بالقمقم إلى المطبخ، مطبخ المسلمين، ثم جاؤوا به وهو يفور.

فقال لهم: ألم تخبروني أنه ليس عندكم حطب؟! لعلكم ذهبتم به إلى مطبخ المسلمين؟

قالوا: نعم.

قال: ادعوا لي صاحب المطبخ، فلما جاءه قال له: قيل لك: هذا قمقم أمير المؤمنين فأوقدتَ تحته؟!

فقال: لا والله يا أمير المؤمنين، ما أوقدت تحته عودًا واحدًا، وإنْ هو إلا جمر لو تركته لخمد حتى يصير رمادًا.

قال: بكم أخذت الحطب؟

قال: بكذا.

قال: أدُّوا إليه ثمنه".

 

وأُخرج مِسكٌ من الخزائن، فوضع بين يديه، فأمسك بأنفه مخافةَ أن يجد ريحه، فقال له رجل من أصحابه: يا أمير المؤمنين، ما ضرَّك لو وجدت ريحه؟!

 

فقال: وهل يُنتفع من هذا إلا بريحه؟!

هكذا كان الزهد عند الخليفة عمر بن عبدالعزيز مستمدًّا من منهج الله، ليس فيه تحريم حلال أحله الله، وإنما طلب للحلال الخالص الذي لا شبهة فيه، ورفض للدنيا من القلب، وعندها لا يحزن على فواتها، ولا يفرَحُ بمقدَمِها، فإذا جاءت فلا توسُّع عنده في المباحات خشية أن يكون هذا التوسع على حساب أموال الأمة، وهذه الزهادة من النزاهة بمكان، لا سيما لمن ولِيَ أمرًا من أمور المسلمين، لقد قام بأعباءِ الخلافة خيرَ قيام وهو يردِّد:

ولا خيرَ في عيش امرئٍ لم يكن

                                  له مع الله في دار القرار نصيبُ

 

فسعِدت به الحياة، وسعدت به الإنسانية، وسعد به المجتمع بكل أصنافه واتجاهاته.

وصدق جريرٌ عندما قال فيه:

حُمِّلت أمرًا عظيمًا فاضطلعتَ به

                                    وسِرت فيه بحُكم الله يا عمرا

 

ما أحوجنا ونحن نعيش في عصرٍ طغت فيه المادة، وتوسَّع الناس لا في المباح بل في الحرام، إلى هذا المبدأ المبارك؛ مبدأ الزهد، مبدأ النزاهة.

 

إن أمَّةً قد فقدت هذا المبدأ لا تستطيع أن تستردَّ مجدَها الضائع؛ لأن المجد المُضاعَ لا يستردُّ إلا ببذل المُهَج والأرواح، وهيهات لمن لم يتصف بالزهد أن يبذُلَ المهج والأرواح!

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين