مختارات من تفسير ( من روائع البيان في سور القرآن ) (الحلقة 238)

الحكم التشريعي السادس والثلاثون : تحريم الربا

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [البقرة: 278]

 

السؤال الأول:

لِمَ قدّم ربنا تعالى الأمر بالتقوى ﴿ اتَّقُوا اللَّهَ على الأمر بترك الربا، مع أنّ الآيات تعالج قضية الربا؟

الجواب:

أُمِر الناس بتقوى الله تعالى قبل الأمر بترك الربا؛ لأنّ تقوى الله هي أصل الامتثال والاجتناب، وترك الربا من جملتها وخصلة من خصال التقوى.

السؤال الثاني:

ما أهم دلالات هذه الآية ؟

الجواب:

لما بيّن الله تعالى في الآية السابقة 275 أنّ من انتهى عن الربا فله ما سبق، فقد كان يظن أنه لا فرق بين المقبوض منه والباقي في ذمة القوم، فأوضحت هذه الآية أنّ المقبوض السابق قبل نزول الآية معفوّ عنه، وإن لم تقبضوه كله أو بعضه فإنه يحرم قبضه.

قوله: ﴿ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ يدل على أنّ الإيمان لا يتكامل إذا أصر الإنسان على كبيرة، وإنما يصير مؤمناً بالإطلاق إذا اجتنب كل الكبائر.

وهذا التركيب العجيب ﴿ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ يضع الناس أمام أنفسهم وجهاً لوجه، وسر هذا التركيب يكمن في كلمة (إنْ)، وهي أداة شرط تستعمل في القرآن عندما يكون الأمر موضع شك قابلاً للظن والاحتمال، أمّا (إذا) فتستعمل في مواضع اليقين.

وقد ورد تركيب ﴿ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ مع فئتين من الناس:

الأولى: وهم المؤمنون الصادقون الذين لا يُشَكُّ في صدقهم وحسن بلائهم وسابق جهادهم وصحبتهم للنبي .

الثانية: وهم المنافقون الفاسقون الذين لا يُشك في خياناتهم وتلونهم وكذبهم.

ومن السهل أنْ نفهم التركيب ﴿ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ مع الفئة الثانية، فهم يكذبون على الله وعلى رسوله وعلى المؤمنين؛ ولذلك يخاطبهم الله عز وجل بأسلوب الشك في إيمانهم ويبين للمؤمنين الصادقين كذبهم ونفاقهم، قال تعالى: ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [البقرة:91] .

أمّا ورود هذا التركيب مع فئة المؤمنين الصادقين المخلصين فكما في آية الأنفال : ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [الأنفال:1] وقد نزلت هذه الآية الكريمة على النبي في غزوة بدر ومعه الصحابة الذين هم أكرم أهل الأرض بعد أنبياء الله، فمن الواضح أنّ مثل هذه الآية عندما يرد مع مثل هؤلاء الناس يكون تطهيراً لهم وتعليماً وتذكيراً، كأنها؛ أي الآية تضعهم في منزلة الشك في إيمانهم إنْ لم يفعلوا ما يأمرهم الله به فيهبُّوا للعمل بأحكام الله، فيدفعوا عنهم صورة التردد والشك وليدخلوا في دائرة الإيمان الوثيق الذي يعلمه الله منهم بصدق أقوالهم وأعمالهم.

3 ـ هذه الآية فيها النهي القاطع الكامل عن التعامل بالربا .

4 ـ قيل : إنّ هذه الآية نزلت في العباس بن عبد المطلب ، ورجل من بني المغيرة ، كانا شريكين في الجاهلية ، أسلفا في الربا إلى أناس من ثقيف ، فجاء الإسلام ولهما أموال كثيرة من الربا فأنزل الله الآية . وكانت ثقيف قد صالحت النبي عليه السلام على ترك ما لهم وما عليهم من الربا حين دخلوا في الإسلام .

وفي حَجّة الوداع كان من خطبة النبي عليه السلام :( ألا إنّ كل ربا في الجاهلية موضوع ، لكم رؤوس أموالكم ، لا تظلِمون ولا تُظلَمون ، وأولُ ربا موضوع ربا العباس بن عبد المطلب ) .  [سنن الترمذي 3087].

السؤال الثالث:

 قوله تعالى ﴿وَذَرُواْ أي: اتركوا، ما كلمات منظومة الترك في القرآن الكريم ؟

الجواب:

 1- الترك:

هو التخلي عن شيء بلا عودة مطلقة.

شواهد قرآنية:

﴿ وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ [الدخان:24] وهو ترك نهائي.

 ﴿ إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [يوسف:37] أي: بلا رجعة.

 ﴿ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا [البقرة:264] أي: هذا العمل ليس له أجر في الآخرة كالربا؛ لأنه يُحبط العمل .

 2- دع:

وهو تركٌ مؤقت لشيء لحساب شيء أهم، ولا يمنع من العودة إليه بعد أنْ تتم الشيء المهم، مثال: دع اللعب وصلِّ.

﴿ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ [الأحزاب:48].

 3- ذر:

التخلي عن شيء لتفاهته، وهو مأخوذ من (الوَذَرِ )وهي القطعة التي تقطع في عملية الختان، وهي ترمز إلى تفاهة الشيء.

* شواهد قرآنية:

 ﴿ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا [البقرة:278].

 ﴿ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ [الأنعام:91].

 ﴿ كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ * وَتَذَرُونَ الْآَخِرَةَ [القيامة:20-21].

 ﴿ ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا [المدثر:11].

4- تولى:

ذهب بسرعة ومنها ولّى دبره.

 شواهد قرآنية:

﴿ ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ [القصص:24] في قصة موسى عليه السلام، سقى لهما أولاً، ثم ذهب مسرعاً إلى الظل لأدبه وحيائه.  

وقوله تعالى: ﴿ فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ [الصافات:90] بمعنى هربوا وتخلوا عنه.

 5- أعرض:

الإعراض: هو التخلي عن شيء لقبحه ترفعاً عنه.

﴿ يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا [يوسف:29] باشمئزاز وتكبر.

﴿ فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا [النساء:16] هنا تنبيه بعدم التعرض للتائب بعد توبته والترفع عن التعيير.

﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآَيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا [الكهف:57] هنا بمعنى التحدي واحتقار الحرمة.

والله أعلم .

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين