
لقد عرفنا من خلال العرض السابق أنّ العلماء أحد ركني قيام الحضارات و سقوطها ، ثم عرفنا المنطلقات الثلاثة التي أسس عليها الإسلام قيمة العلماء .
إذن فمَن هم هؤلاء العلماء الذين رفع الإسلام شأنهم عالياً و نوّه بذكرهم ؟؟
من خلال المنطلقات الثلاثة الآنفة الذكر ، يمكننا أن نفهم أنّ العلم قسمان :
? القسم الأول : علم الوسائل المادي ، و نقصد به العلم المادي بمختلف شعبه و مجالاته ، إذ كان هذا العلم هو آلية تحقيق المظهر للعمران الحضاري الذي رغّب فيه الوحي الرباني ، كما وقعت الإشارة إليه بقوله تعالى : { هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَ اسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا } [هود:61] . أي طلب منكم إعمار الأرض و إصلاحها و الابتعاد عن الإفساد فيها .
? القسم الثاني : علم المقاصد القيمي ، و نقصد به العلم التشريعي بشعبه الثلاث : العقيدة و السلوك و التنظيم ، إذ كان هذا العلم هو آلية إعادة بناء شخصيّة الإنسان ، و توجيهها و هي تمارس صناعة و تشييد العمران الحضاري توجيهاً صحيحاً يتناسب مع الغاية النهائية التي خُلق لأجلها الإنسان في هذا العالم ، كما وقعت الإشارة إليه بقول تعالى : { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَ?هَ إِلَّا اللَّهُ } [محمد:19] . { أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ } [المؤمنون:115] .
إذن هذا التقسيم يرجع إلى حقيقة أنّ علم الوسائل المادي يمكن الاستغناء عنه ، إذ هو آلية يتوسل بها الإنسان المسلم لتحقيق مهمّته في الحياة كما أرادها الخالق تبارك شأنه . أما علم المقاصد القيمي فلا يمكن الاستغناء عنه ، إذ إنّه يرسم للإنسان المنهج الصحيح للحياة الفاضلة . و من هنا إذا كان تخلف الإنسان في علم الوسائل المادي يجلب عليه مشقة ماديّة ، فإنّ تخلفه في علم المقاصد القيمي يجلب عليه الشقاء الأبدي .
و لقد أشار الله تعالى إلى هذه الحقيقة الجوهريّة .. حقيقة أنّ الوحي الرباني هو « علم القيمة » ، و قد ورد هذا في أكثر من عشرين موضعاً ، نذكر منها : { وَ لَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ } [البقرة:120] ، { شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَ?هَ إِلَّا هُوَ وَ الْمَلَائِكَةُ وَ أُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ } [آل عمران:18] . { وَ كَذَ?لِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَ لَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَ لَا وَاقٍ } [الرعد:37] .
إذن العلماء صنفان :
? الصنف الأول : علمه يتعلّق بعلم المقاصد القيمي .
? الصنف الثاني : علمه يتعلّق بعلم الوسائل المادي .
و هنا مبحث مهم : هل هذا التقسيم يعني أنّ مطلق علماء المقاصد القيمي أفضل من مطلق علماء الوسائل الكوني ؟؟
الجواب هو :
علم المقاصد القيمي أفضل و أشرف في نفسه من علم الوسائل الكوني في نفسه ، إذ كان متعلّقاً تعلّقاً مباشراً بالله تعالى و حقائق الوجود الكبرى ، على عكس علم الوسائل الكوني . و بهذا فإنّ مطلق علماء المقاصد القيمي أفضل و أشرف من مطلق علماء الوسائل الكوني . أما إذا شارك عالم من علماء الوسائل الكوني في علم المقاصد القيمي ، فإنّ الأمر يرجع إلى عوامل أخرى في التفضيل و التشريف كالإخلاص لله تعالى ، لزوم اتباع المنهج النبوي ، القيام بتعاليم الشريعة في نشاطات الحياة .. إلخ . كما قال الحق تعالى : { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } [الحجرات:13] .
الحلقة السابقة هــنـا
جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

التعليقات
يرجى تسجيل الدخول