نظرة من نافذة الطائرة

 

حلّقت بنا الطائرة ، بعد يوم قد اكتظّ بصور وألوان من حياة الإنسان ، واهتماماته وسعيه ، وطيشه وعبثه ، وظلمه لأخيه الإنسان وبغيه ، واستعلائه في الأرض ، وشتّى شؤونه .. 

 ونظرت من نافذة الطائرة ، فقلت : يا سبحان الله ! كم الدنيا صغيرة قليلة ، لا تحتاج إلى كلّ هذا الخصام والعناء .؟! وهل يعقل أيّها الإنسان أن تكون الدنيا بكلّ ما فيها من دقّة ونظام ، وجمال وإحكام ، لا هدف لها إلاّ اللهو والعبث ، والتنافس والعدوان ، والظلم والطغيان .؟! وأن لا غاية وراءها ، ولا هدف لها .؟! 

 

وهل يلتقي النظام مع العبث .؟ وإحكام الصنع والخلق مع فقد الهدف .؟ أيعقل أن تعتزّ بعقلك وجِدّك ، وطموحك وإنجازك ، ثمّ تنفي عن وجودك كلّه الغاية من خلقه ، وتحسب أنّك ستمضي سدى .؟! 

 

 أيّها الإنسان ! ما أجمل حياتك وأعزّها وأشرفها عندما تعرف غاية وجودك ، ومنتهى حياتك ، ومآلك بعد مماتك ، وأنّ من خلقك أراد لك أن تكون خليفة في أرضه ، وعبده السيّد ، المخدوم لا الخادم ، تسير وفق شرعه وهديه ، ثمّ تكون جليسه في دار رضوانه ، حيث النعيم العظيم ، والرضوان المقيم .؟! 

 

 وما أخسر حياتك أيّها الإنسان ! عندما تظنّها شهوةً حاضرة ، ونزوة عابرة ، تعيش زهرة شبابك وأنت تلهث وراءها ، وربّما أدركت منها ما أدركت ، وفاتك كثير ممّا أمّلت .. ثمّ أسلمتك سنن الحياة وأقدارك ، التي لا تغفل عنك ، إلى عالم الموت ، الذي ما فكّرت يوماً به ، وما علمت ما وراءه ، أو إلى شيخوخة وعجز ، وضعف وأمراض ، وعشت بقيّة حياتك متحسّراً على الشباب الضائع ، والصحّة الذاهبة ، والآمال التي لم تنل منها إلاّ أقلّها .. 

 

 ما أخسر حياتك أيّها الإنسان ! عندما عرفت أشياء في هذه الدنيا ، وفرحت بها ، وغرقت في الجري وراءها ، وحشرت ذاتك بتفاهتها ، ولكنّك ما عرفت نفسك التي بين جنبيك ، وما عرفت حقيقة حياتك ، وغاية وجودك .! وما عرفت ربّك ، الذي خلقك فعدلك ، وفي أحسن تقويم ركّبك ، وأمدّك بنعم أسعدت حياتك ، وأنت عاجز عن استدامة أيّة نعمة منها بجهدك .. ثمّ تركب رأسك عناداً لربّك وإعراضاً ، أو جرياً وراء لذّات نفسك وشهواتك .! 

 

نظرت من نافذة الطائرة ، فقلت : يا سبحان الله ! 

 كم يحلم الله على عباده ، وهو يراهم في لهوهم ومعاصيهم يتقلّبون .! وهو يمدّهم بنعمته ، ويمهلهم لعلّهم يتوبون .! وهو أعلم بهم حيث يتقلّبون .! 

 وكم يستصغرنا هذا الكون بما فيه ، ويغتاظ منّا ، وهو يسبّح خالقه ويعظّمه ، ويرانا بما نحن عليه من الغفلة واللهو .! ولو أذن الله له لأهلكنا الجوّ والبرّ والبحر .!

 وكم تستصغرنا ملائكة الله الكرام ، وهي ترى الإنسان يطغى في الأرض ويبغي ، وغير ذلك أولى به ، لو كان يسمع أو يعقل ، وينظر إلى مصيره ومآله ويتدبّر .! 

 نظرت من نافذة الطائرة ، فقلت : « سبحان الذي سخّر لنا هذا ، وما كنّا له مقرنين ، وإنّا إلى ربّنا لمنقلبون » . ألا ما أعظم أن يذكر الإنسان ربّه جلّ وعلا عند كلّ خطوة يخطوها ، ويتذكّر منقلبه إليه ، ومصيره بين يديه .!

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين