ألا تحبون أن يغفر الله لكم؟!:
أَسْطُرُ
لأخي القارئ هذا المأثر التاريخي الفاخر؛ لِتَقَرَّ به عيوننا، ويكونَ بردًا
وسلامًا على قلوبنا !
ومأثرنا
هذا لا يعيه قلب عامر بالإيمان؛ إلا غَدَا العفو أحب إليه من الانتقام؛ ذلك أنه في
ذروة البلاء المستطير، وهو بذلك يفضح صاحب كل خلاف صغير، لا تراه العين المجردة
قياسًا مع أخيه، وإليك تبيانه:
قالت عائشة
ل: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد السفر أَقْرَعَ بين أزواجه، ومن خرج
سهمها اصطحبها، فَأَقْرَعَ بيننا في غزاة فخرج سهمي، فَسِرْتُ معه، وقد حملت في
هَوْدَج، حتى إذا قَفِلَ النبي صلى الله عليه وسلم عائدًا من غزوته ونزلنا منزلًا،
آذن ليلةً بالرحيل، فَرَحَلُوا وأنا ألتمس عقدًا لي ضاع مني، فَحَبَسَنِي
ابتغاؤُهُ، ظنًا منهم أني في هودجي، وكانت النساء إذ ذاك خفافًا لم يَثْقُلْن، أما
أنا فَوَجَدت عقدي ثم جئت منزلنا وليس فيه أحد، فأقمت فيه ابتغاء عودتهم لي إذا
فقدوني، ثم غلبتني عيناي فنمت، وقدر الله تعالى أن يكون صفوان بن المعطل رضي الله
عنه من وراء الجيش فَرَآنِي فَأَتَى واسترجع فاستيقظت، ثم أناخ راحلته فركبتها
وانطلق يقود الراحلة بي حتى أتينا الجيش، فرآنا عبد الله بن أبي بن سلول الذي أعلن
عن حديث الإفك بخبرٍ مفاده: إنَّ عائشة زانية، والزاني هو صفوان !
فقدمنا
المدينة واشتكيت شهرًا، وَيُرِيبُنِي في وَجَعِي أَنِّي لا أرى اللطف الذي عهدته
من النبي صلى الله عليه وسلم حين أمرض، إنما كان يدخل فَيُسَلِّم ولا يزيد عن
قوله: كيف أنتم؟ فَلَمَّا امتثلت للشفاء خرجت أنا وأم مسطح ليلًا لِمُتَبَرَّزَنَا
قبل أن نَتَّخِذَ بيوت الخلاء قريبًا من بيوتنا، فبينا نحن نمشي تعثرت أم مسطح
فقالت: تَعِسَ مسطح ! فقلت لها: بئس ما قلت، أتسبين رجلًا شهد بدرًا؟!
قالت: ألم
تسمعي ما قالوا؟ ثم أخبرتني بحديث الإفك، فازددت مرضًا إلى مرضي، فلما رجعت إلى
بيتي دخل عليَّ النبي صلى الله عليه وسلم فسلم وسأل عني، فاستأذنته في الذهاب
لأبوي؛ لأستيقن الخبر منهما، فأذن لي، فذهبت وسألت أمي عما يتحدث به الناس، فقالت:
يا بُنَيَّة هَوِّنِي على نفسك الشأن، فَوَ الله لَقَلَّمَا كانت امرأة قط وضيئة
عند رجل يحبها ولها ضرائر إلا أكثرن عليها من القول !
فبت تلك
الليلة، حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع، ولا أكتحل بنوم !
ولم ينزل
وحيٌ بإثباتٍ ولا نفي ! واشتد الأمر على النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى الصحابة
الكرام، وباتُ الجميع في بلاءٍ شديد، فَعِرْضُ النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه
أبو بكر الصديق رضي الله عنه يُهَان ! عِرْضُ النبي صلى الله عليه وسلم والصديق
تَلُوكُهُ الألسنة !
فلما اشتد
الحال بنبينا صلى الله عليه وسلم جمع عليًا وأسامة يستشيرهما في طلاق عائشة ل،
فقال أسامة رضي الله عنه: أهلك يا رسول الله، والله لا نعلم عنها إلا خيرًا، أما
علي رضي الله عنه فقال: يا رسول الله لم يُضَيِّق الله عليك والنساء سواها كثير
وَسَلِ الجارية تصدقك ! فدعا بريرة ل فقال لها: هل رأيت فيها شيئًا يريبك؟! فقالت:
لا، والذي بعثك بالحق !
فعند ذلك
خطب النبي صلى الله عليه وسلم في الناس قائلًا: من يعذرني من رجل بلغني أذاه في
أهلي فو الله ما علمت على أهلي إلا خيرًا؟ فقام سعد بن معاذ رضي الله عنه فقال:
أنا أعذرك منه يا رسول الله، إن كان من الأوس ضربنا عنقه، وإن كان من إخواننا
الخزرج أمرتنا ففعلنا، فقام سعد بن عبادة رضي الله عنه وهو سيد الخزرج فقال: كذبت
لَعَمْرُ الله لا تقتله ولا تقدر على قتله، فقام أسيد بن حضير رضي الله عنه فقال:
كذبت لَعَمْرُ الله والله لنقتلنه؛ فإنك منافقٌ تجادل عن المنافقين ! وثار الأوس
والخزرج والنبي صلى الله عليه وسلم يخفضهم حتى سكنوا !
واشتد
الأمر بالذين آمنوا، وقد تأخر الوحي شهرًا ولم ينزل بعد، وعظمت البلية بالنبي صلى
الله عليه وسلم وصاحبه أبي بكر رضي الله عنه وبعائشة ل التي قالت: بكيت بعدها
ليلتين ويومًا لا يرقأ لي دمع، ولا أَكْتَحِلُ بِنَومٍ، حتى أظن أن البكاء فالق
كبدي !
وبينا
أبواي يجلسان عندي دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس، فتشهد، ثم قال: يا
عائشة؛ فإنه بلغني عنك كذا وكذا فإن كنت بريئة فَسَيُبَرِّئُكِ الله، وإن كنت
ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب تابَ الله
عليه ! فلما قضى مقالته قلص دمعي حتى ما أحس منه قطرة، وقلت لأبي: أَجِب عني رسول
الله صلى الله عليه وسلم، قال: والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه
وسلم!
فقلت لأمي
أجيبي، فقالت: والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم !
فقلت أنا:
إني والله لقد علمت أنكم سمعتم ما يتحدث به الناس، وَوَقَرَ في أنفسكم، وصدقتم به،
ولئن قلت لكم إني بريئة لا تصدقوني، ولئن اعترفت لكم وأنا بريئة لتصدقوني، ووالله
ما أجد لي ولكم مثلًا إلا أبا يوسف إذ قال: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ
الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف: 18]، ثم تحولت على فراشي وأنا أرجو أن
يبرئني الله، وما ظننت أن ينزل في شأني وحيًا، ولأنا أحقر في نفسي من ذلك !
فو الله ما
رام النبي صلى الله عليه وسلم مجلسه، ولا خرج أحد من أهل البيت، حتى نزل الوحي،
فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم ما كان يأخذه من الشدة، فلما سري عنه وهو يضحك كان
أول كلمة تكلم بها: احمدي الله فقد برأك الله !
فقالت أمي:
قومي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: لا والله لا أقوم إليه، ولا أحمد
إلا الله وتلا النبي صلى الله عليه وسلم ما أنزله الله تعالى إليه: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا
تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [النور: 11] !
فلما أنزل
الله براءتي عفا أبو بكر رضي الله عنه عن مسطح بن أثاثة رضي الله عنه، إلا أنه
تَمَنَّعَ عن راتبٍ شهري كان يعطيه إياه، فأنزل الله تعالى: {وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ
يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ
لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 22]
فقال أبو
بكر رضي الله عنه: بلى والله إني لأحب أن يغفر الله لي، فَغَفَرَ لمسطح ذنبه، ثم
عاد عليه بالنفقة قائلًا: والله لا أنزعها عنه أبدًا ([1])
!
رسالة
الحادثة:
إن أبا بكر
رضي الله عنه الذي خُدِشَ عِرْضُهُ، وَعِرْضُ نبيه صلى الله عليه وسلم، ولاكَتْهُ
الألسنةُ شهرًا كاملًا، عفا عن المتكلم عفوًا شاملًا، فرفعه الله ورعاه، وأعزَّه
وتولاه، بل سمَّاه ربُّهُ أولي الفضل بصيغة الجمع؛ تكريمًا له وتعظيمًا !
فمأثرنا
هذا يبث نداء إليكم:
يا من
أُصِبتُم بِأَذِيَّةٍ وَبَلاءٍ من صديقٍ أو أخٍ أو جارٍ أو رحمٍ أو زوجةٍ أو صهرٍ
أو أي إنسانٍ، إن مصابكم لا يوازي مثقال ذرة قط مقارنة بانتهاك عِرْضِ النبي صلى
الله عليه وسلم وصاحبه الصديق رضي الله عنه ! فَلْتَعْفُوا وَلْتَصْفَحُوا، ألا
تُحِبُّون أن تكونوا من أولي الفضل، وأن يغفر الله لكم؟!
إنَّ الشيطان الذي يوسوس لك أن
العزة بالعفو تزول؛ لا عزة له ولا معه، ألا ترى أنه لما أقسم أن يغويك ذهب يقسم
بعزة الله {فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ
أَجْمَعِينَ} [ص: 82]، قال قتادة: علِمَ عدوُّ الله أنه ليست له عزَّة([2]).
وددت
أني لأصحابي مثله لأعدائه:
فهذا ابن
تيمية آذاه مُخالِفُوه، وبالسلطان خَوَّفُوه، ثم وضعوه في زنزانة، وحيل بينه وبين
إخوانه، فما لانت له عريكة، وما ذابت له
سبيكة، بل عفا عنهم، واستغفر لهم، ولم يُحِلَّ لأحدٍ من أحبابه أن يؤذيهم !
قال ابن القيم: وقد جئته يومًا
أبشره بموت أكبر أعدائه، وأشدهم له أذى، فنهرني، وَتَنَكَّرَ لِي، واسترجع قائلًا:
إنا لله وإنا إليه راجعون !
ثم قام من فوره إلى بيت أهله،
فعزاهم، وقال لهم: إني لكم مكانه، فلا يكون لكم أمرٌ تحتاجون فيه إلى معونة إلا
وأعنتكم به، فَسُرَّ أهله، وفرحوا بفعله، فرحمه الله، ورضي عنه وأرضاه !
قال ابن القيم: ما رأيت أجمع لخصال
الأخلاق من شيخ الإسلام، حتى قال أحد أصحابه: وددت أني لأصحابي مثله لأعدائه، فما
رأيته إلا داعيًا الله لهم ! بل الدعاة في لغته هم:
" الذين يعلمون الحق،
ويرحمون الخلق "([3])
!
هذا
ابن أخيك قتل ابنك !:
وهذا سَيِّدُ
العافين الأحنف بن قيس، الذي قال: وجدت الاحتمالَ أَنْصَرَ لي من الرجال، وما
آذاني أحدٌ إلا أخذت في أمره بإحدى ثلاث: إن كان فوقي عرفت له فضله، وإن كان مثلي
تفضلت عليه، وإن كان دوني أكرمت نفسي عنه !
سمع محمود
الوراق بمقالة الأحنف فصيرها شعرًا قال فيه:
سألزم نفسي الصفح عن كل مذنب
*** وإن عظمت منه عليَّ الجرائـم
فما النـاس إلا واحـد من ثلاثـة
*** شريف ومشروف ومثل مقـاوم
فأما الذي فوقي فأعـرفُ قـدره
*** وأتبع فيـه الحق والحـق لازم
وأما الذي دوني فان قال صُنْتُ عن
*** إجابتـه نفسـي وإن لام لائـم
وأما الذي مثلـي فإن زَلَّ أَو هَفَـا
*** تفضلتُ إنَّ الحُرَّ بالفضل حاكم([4])
قيل للأحنف
يومًا: ممن تعلمت الحلم؟ قال: من قيس بن عاصم، رأيته يومًا قاعدًا بفناء داره
محتبيًا يُحَدِّثُ قَومَهُ، حتى أُتِيَ بِرَجُلٍ مكتوف وآخر مقتول، فقيل له: هذا
ابن أخيك قتل ابنك !
فو الله ما
حَلَّ حبوته، ولا قطع كلامه، فلما أتمه التفت إلى ابن أخيه فقال له: يا ابن أخي،
بئس ما فعلت، أثمت ربك، وقطعت رحمك، وقتلت ابن عمك، ورميت نفسك بسهمك، ثم قال
لابنٍ له " قم يا بني فَوَارِ أخاك، وَحُلَّ قيد ابن عمك، وَسُقْ إلى أُمِّكَ
مائة ناقة دِيَةَ ولدها، فإنها غريبة عن قومنا([5])،
وأنشأ يقول:
للنفس تصبيرًا وتعزيـة
*** إحدى يدي أصابتني ولم ترد
خلف من
فقد صاحبـه
*** أخي حين أدعوه وذا ولدي([6])
التعليقات
يرجى تسجيل الدخول