هل كل مايقع على الإنسان من قضاء الله ؟

كتب بعضهم :

[لقد كشفت محاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا عن عمق تأثر قطاع كبير من الأمة الاسلامية بالافكار البالية التي كانت سببا في تخلفها واستكانتها للطواغيت والظلمة، فعندما اشرنا في بعض منشوراتنا ان فشل الانقلاب لا علاقة له برضى الله او غضبه على اردوغان، وإنما له علاقة بالاجراءات والخطوات التي اعتمدها اردوغان، خرج من يستنكر ذلك، قائلا: ان الله لا ينسى عباده الصالحين وكل الأمر كان مقدرا عند الله وقضاء الله نافذ لا محالة!!

لقد زرع الطواغيت والظلمة في وعي الأمة، من خلال علماء السلطان،واولياء الشيطان،  ان كل ما يقع عليها هو قضاء الله، فالحاكم المجرم والظالم من قضاء الله، ومن يعترض عليه ويخالفه فهو معترض على قضاء الله، مما اورث الأمة الذل والاستكانة والقبول بالواقع دون سعي لتغييره، فاذا جاءهم حاكم مجرم فكل ما عليهم هو ان يصبروا؛ لأنه من قضاء الله، حتى يمن الله بحاكم عادل، ولم تتعلم الأمة ان الاخذ بالأسباب واجب اوجبه الله عليها، فلا تقوانا ولا ايماننا ولا دعاؤنا يرد مثلا اعداءنا، فليس هذا هو قانون الله؛ لأن قانونه" وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة" ، فلم يستجب الله لمشايخ الأزهر حينما اجتمعوا في ساحاته يقرأون صحيح البخاري بنية هزيمة نابليون لما احتل مصر!. كيف يستجيب الله لمن خالف الأخذ بقانون السببية! 

إن هذا الفكر، القدري، يقود شباب الأمة الى الالحاد لأنهم لا يجدون أجوبة مقنعة على أسئلتهم: لماذا تخلى الله عن مرسى ولم يتخل عن أردوغان مع أن الظاهر ان مرسي اقرب الى الاسلام من اردوغان؟!!

الجواب التقليدي: ان حالة مرسي ابتلاء، اما حالة اردوغان فهي تأييد ونصر من الله وكليهما من قضاء الله ... لذلك نركز دائما على وجوب امتلاك ادوات معرفية جديدة لفهم ديننا لحل اشكالية العلاقة بين النص والواقع.

الصرفندي].

ملاحظات في المقال:

** حددت جملا وردت في المقال لأكشف ما فيها من معان طالحة ، وتحليلات فاشلة ، وجهل هو من وراء هذا التوجه من الكاتب :

- هذه العبارات من المقال ، تكاد تغطي كل المقال ، مما يدل على عمق الفواحش الفكرية التي زجّ بها الكاتب :

- بالأفكار البالية التي كانت سببا في تخلفها واستكانتها للطواغيت والظلمة

* التعليق : وصف الإيمان بالقدر من الأفكار " البالية " وجهل أن القرآن والسنة قد وردت به !

- لا علاقة له برضى الله أو غضبه على أردوغان، وإنما له علاقة بالإجراءات والخطوات التي اعتمدها أردوغان!

* التعليق :جهل صارخ في عسر هضمه لمسألة " القدر" وأنه لا يتعارض مع الأخذ بالأسباب ، وجهل أمر مراضي الله ، ومساخطه ، والنصوص من القرآن والسنة مفعمة بهما ، لكن الكاتب لا يعترف على المصدر التي نبني التصور بهما ، ويرتكن لثقافة لا ندري ما مصدرها !

- لقد زرع الطواغيت والظلمة في وعي الأمة، من خلال علماء السلطان ،وأولياء الشيطان ، أن كل ما يقع عليها هو قضاء الله!

* التعليق : يظهر أن كل العلماء كانوا علماء طواغيت ! وأن الطواغيت تمكنوا من رقاب الأمة جميعها ، فلم تنج منهم إلا رقبة الكاتب ، علما ، وبيقين أنه جاهل بالقرآن وبالسنة اللذين قد قررا بما لا يعد من النصوص المتعلقة بالقدر ، إلا إذا كان هداما لكل مرجعيات الأمة !

- فالحاكم المجرم والظالم من قضاء الله، ومن يعترض عليه ويخالفه فهو معترض على قضاء الله!

* جهل بالعلاقة بين القدر وبين ما كلف به المكلف ، فمن زلقت قدمه ، فحمل للمشفى لوضع الضمادة على الرجل المكسورة ! الكسر من القدر ، والسعي للتداوى من التعامل مع الأسباب ، وهذا الذي جاء به الكتاب والسنة ، فكل شيء يقدر ، وقد طلبت منها الشريعة أن ننكر " المقدّر " مع الرضا بما وقع ، فلو كسرت رجل الكاتب ، أو يده – مثلا - وسخط هذا الذي وقع ، وسعى ليجبر الكسر ، فهو آخذ بالأسباب ، وسخط ما وقع ، وسخطه لا يلغي أن ما وقع علمه الله أزلا ، وخصّصته الإرادة ، وأبرزته القدرة ، وهو جوهر القدر!

- فإذا جاءهم حاكم مجرم فكل ما عليهم هو أن يصبروا؛ لأنه من قضاء الله.

*خرج الكاتب من الجهل إلى الافتراء ، وأظن أنه لم يقرأ ما حققه الفقهاء في شأن " العزل " لحاكم ظالم ، وجهل كعادته حديثه - عليه الصلاة والسلام - : عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ - رضي الله عنهما - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " سَيِّدُ الشُّهَدَاءِ حَمْزَةُ بن عَبْدِ الْمُطَّلِبِ , وَرَجُلٌ قَامَ إِلَى إِمَامٍ جَائِرٍ , فَأَمَرَهُ وَنَهَاهُ , فَقَتَلَهُ "

- والصبر المطلوب صبر على ما يلحق بالمسلم من إيذاء الجائر ، أما مر معك قول الله - تعالى - : {يَابُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}، وقوله - تعالى - : {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا }

- عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ - رضي الله عنه - يَقُولُ : قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " مَا مِنْ نَبِيٍّ بَعَثَهُ اللهُ فِي أُمَّةٍ قَبْلِي إِلَّا كَانَ لَهُ مِنْ أُمَّتِهِ حَوَارِيُّونَ وَأَصْحَابٌ , يَهْتَدُونَ بِهَدْيِهِ  وَيَسْتَنُّونَ بِسُنَّتِهِ , ثُمَّ إِنَّهَا تَخْلُفُ مِنْ بَعْدِهِمْ خُلُوفٌ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ , وَيَفْعَلُونَ مَا لَا يُؤْمَرُونَ , فَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِيَدِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ , وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِلِسَانِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِقَلْبِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ , وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ الْإِيمَانِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ " فما أجهل هذا الكاتب ، وأنصح له أن يعمل في مجال عالم الرياضة !

- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ  فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ , فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ  وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ "

- وقد قرر الفقهاء : أنَّ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنْ الْمُنْكَر فَرْضُ كِفَايَة , إِذَا قَامَ بِهِ بَعْضُ النَّاسِ , سَقَطَ الْحَرَجُ عَنْ الْبَاقِينَ، وَإِذَا تَرَكَهُ الْجَمِيعُ , أَثِمَ كُلُّ مَنْ تَمَكَّنَ مِنْهُ بِلَا عُذْرٍ وَلَا خَوْف.

- لأن قانونه" وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة" ، فلم يستجب الله لمشايخ الأزهر حينما اجتمعوا في ساحاته يقرؤون صحيح البخاري بنية هزيمة نابليون لما احتل مصر!

* التعليق : فقر الطاقة العقلية حتى بدت هزيلة لم تتمكن من الجمع بين الدعاء ، وإعداد القوة ، لا تعارض بينهما ، فالعجب من سخريته من الدعاء ، والعجب منه حيث زعم أن الله لم يستجب لعلماء الأزهر ، ألا يمكن أن تكون الإجابة بالتسديد في السلوك الذي يسعى إلى طرد المحتل ، ثم ألم تنطلق الثورة التي أطاحت بالمحتل ! أبلغ الجهل بالكاتب ليتعلق بالتاريخ ! أي باحث هذا ؟

- ان هذا الفكر، القدري، يقود شباب الأمة إلى الإلحاد لأنهم لا يجدون أجوبة مقنعة على أسئلتهم

* التعليق : لو قرأ عن عقيدة الصحابة الذين انطلقوا يمدون رواق الإسلام عبر فتوحات مباركة لما قال ما قال ، يمكن أن يكون أثر الإيمان بالقدر على ما ذكر لو كان المؤمن به لم يفهمه على الوجه الصحيح ، كما هو حال الباحث صاحب المقال !

- سيأتي لمحة تاريخية عن أثر الإيمان بالقدرفي حياة المسلمين قبل ظهور أمثال هذا الكاتب !

- إن حالة مرسي ابتلاء، أما حالة أردوغان فهي تأييد ونصر من الله وكليهما من قضاء الله

* التعليق : فهمنا واقع الجهل ، ولكن لا يفهم واقع الكاتب الفكري حين جهل أن الابتلاء يكون في السراء ، والضراء ، في المنع والعطاء ، في الانتصار والهزيمة ، فلم ينكر هذا الذي ألقاه على ألسنة أناس تخيل وجودهم ، هل مرّ الكاتب على قوله - تعالى - : {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} والله إن الغباء مقيت ، ولا يطاق !

- نركز دائما على وجوب امتلاك أدوات معرفية جديدة لفهم ديننا لحل إشكالية العلاقة بين النص والواقع.

إن كان هناك عبارة سائغة هي هذه والله!

** هناك مجموعة من الحقائق جهل الكاتب بها من وراء هذا " التخبيص " الذي جمع بين لبن العصفور ، وبيض عنقاء مغرب !

- القضاء والقدر من أمور الغيب التي جاءت بها النصوص من قرآن وسنة ، فإثباتها يرجع إلى النص المعصوم !!

- من أركان الإيمان: الإيمان بالقدر ، ومعلوم أن إنكار أي ركن من أركان الإيمان التي ثبتت بالنصوص ، لا عن طريق " علماء السلطان !!! " يقتضي الكفر!

- لا يتعارض الأخذ بالأسباب والإيمان بالقدر إلا في نظر من ضاق عطنه ، ولم يكن له معدة فكرية سليمة ، أو كان جاهلا بمعنى القدر ، وجاهلا بجوهر الأسباب، فاقدر لا يستحضر قبل الأخذ بالأسباب التي كلفنا بها ، وحيث آتت تلك الأسباب ثمرات سلبا أو إيجابا ، نقول : قدر الله ، وما شاء فعل ، فقد أخذ الرسول بالأسباب التي يسرت ليوم الهجرة بإحكام ن ومع هذا وصل المشركون إلى فوهة غار ثور ، وهنا برز من حقائق الإيمان { لا تحزن إن الله معنا } ومثله ما كان من أمر الكليم ، وقد خرج ببني إسرائيل ، وجاء البحر يقف في وجه متابعة المسير ، وهنا ظهر معنى الصلة بالله في قلب موسى عليه السلام ، حيث أطلقها صيحة  { كلا إن معي ربي سيهدين} !

- ترك الأسباب تعطيل لحكمة الله ، حيث أقام الدنيا على الأسباب ، واعتقاد أن الله لا علاقة له بالأسباب إيجادا وإمدادا عمى خطير ، وشرك ، حيث يرى مظاهر القدرة ن وينكر المظهر!

- نؤكد بالنص الذي هو المرجع لإثبات ما نبت ، ونفي ما ننفي ، فإن كان الكاتب لا يرجع في هذا إلى النص ، ويخيط ثوب التصور بمخيط هواه ، وبهذا يكون إيذاؤه لنفسه أكبر من كونه ينكر ركنا من أركان الإيمان !

- نصوص في القدر

{إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}

{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}

{فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَامُوسَى}

{وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ }

{فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ}

{إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى}

عن سعد بن مالك قَالَ رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "عَجِبْتُ لِلْمُؤْمِنِ, إِنْ أصابه خير حمد ربه وَشَكَرَ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ مُصِيبَةٌ حَمِدَ ربه وَصَبَرَ، فَالْمُؤْمِنُ يُؤْجَرُ فِي كُلِّ شيء, حتى فِي اللُّقْمَةِ يَرْفَعُهَا إِلَى فِيِّ امرأته".

وفي "صحيح مسلم" "2295" من حديث صهيب -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولَ اللَّهِ, صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلم: "عجبا لأمر المؤمن؛ إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن؛ إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له".140 صحيح:

وأخرجه البخاري في الإيمان "19"، وفي الزكاة، ومسلم في الإيمان والزكاة، وأبو داود في السنة، والنسائي في الإيمان، وأحمد "1/ 176".

 عَنْ صُهَيْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَ الْمُؤْمِنِ كُلُّهُ خَيْرٌ إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ فَشَكَرَ كَانَ خَيْرًا، وَإِنَّ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ فَصَبَرَ كَانَ خَيْرًا ". أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي الصَّحِيحِ، مِنْ حَدِيثِ سُلَيْمَانَ بْنِ الْمُغِيرَةِ  أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، قَالَ: سَمِعْتُ صَالِحَ بْنَ مِسْمَارٍ، قَالَ: " مَا أَدْرِي أَنِعْمَةُ اللهِ عَلَيَّ فِيمَا بَسْطَ عَلَيَّ أَفْضَلُ، أَمْ نِعْمَتُهُ فِيمَا زَوَى عَنِّي "

 وروى الطبراني برجال ثقات عن عبد الله بن جعفر رضي اللَّه عنهما أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لما انصرف عنهم أتى ظلّ شجرة فصلى ركعتين ثم قال: «اللهم إني أشكو إليك ضعف قوّتي وقلة حيلتي وهواني على الناس يا أرحم الراحمين أنت رب المستضعفين وأنت ربي إلى من تكلني إلى بعيد يتجهّمني أو إلى عدوّ ملكته أمري إن لم يكن بك عليّ غضب فلا أبال ولكن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك أو تحلّ علي سخطك لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك» .

 عبد الله بن عباس قال: حدثني عمر بن الخطاب قال: لما كان يوم بدر نظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المشركين وهم ألف، وأصحابه ثلاثمائة وتسعة عشر رجلًا، فاستقبل نبي الله - صلى الله عليه وسلم - القبلة ثم مد يديه فجعل يهتف بربه "اللَّهم أنجز لي ما وعدتني، اللَّهم آت ما وعدتني، اللَّهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإِسلام لا تعبد في الأرض" فما زال يهتف بربه مادًا يديه مستقبل القبلة حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه ثم التزمه من ورائه وقال: يا نبي الله كفاك مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك فأنزل الله -عَزَّ وجَلَّ- {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ} فأمده الله بالملائكة.

 ** ملخص حكم إنكار القدر، وقد أطلت فيه النفس لأني على يقين بأن عقدة الكاتب هي الجهل الفاضح بالقدر ، حيث جهل واضع عقيدة القدر ، وظن أنها من وضع علماء السلطان !فما أبأس أمثاله ! وما أجهله بالنصوص التي هي آيات وأحاديث جاءت بالقدر ، إن الكاتب أراد أن ينكر القدر بنسبته إلى غير واضعه ، ويكفيه جهلا أن الأمة مجمعة على الإيمان بالقدر! أفكلها علماء سلاطين ، أليس الأولى كما سأبين بالأدلة أن الكاتب ممن شربوا من الأعداء المنحرفين عن الصواب هذا المشرب ، وأخذ ممن ضل عن المنهج! !

 - ظهر في آخر عهد الصحابة قوم أنكروا القدر السابق، ويعرفون بغلاة القدرية، كمعبد الجهني وغيلان القدري فأنكروا العلم الأزلي، ونفوا كتابة الحوادث قبل حدوثها، وقالوا:" إن الأمر أنف" أي: مستأنف. وقد كفرهم السلف، وحذروا منهم، كما روى مسلم عن ابن عمر أنه قال: والذي نفسي بيده لو أن لأحدهم مثل أحد ذهبا فأنفقه في سبيل الله ما قبله الله منه حتى يؤمن بالقدر.

 - وقال الإمام الشافعي: ناظروهم بالعلم، فإن أقروا به خصموا، وإن جحدوه كفروا. وقال الإمام أحمد القدر قدرة الله.

 - ثم حدث بعدهم المعتزلة، كعمرو بن عبيد وواصل بن عطاء وأنكروا قدرة الله على أفعال العباد، وزعموا أن الله لا يهدي من يشاء، ولا يضل من يشاء، وأن قدرة المخلوق على أفعاله تغلب قدرة الله تعالى، وقد أنكر عليهم السلف، وبينوا ضلالهم

 -عَن يحيى بن يعمر قَالَ كَانَ أول من تكلم فِي الْقدر بِالْبَصْرَةِ معبد الْجُهَنِيّ فَانْطَلَقت انا وَحميد بن عبد الرَّحْمَن الْحِمْيَرِي حاجين اَوْ معتمرين فَقُلْنَا لَو فلقينا احدا من أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَسَأَلْنَاهُ عَمَّا يَقُول هَؤُلَاءِ فِي الْقدر فوفق لنا عبد الله بن عمر دَاخِلا الْمَسْجِد فاكتنفته أَنا وصاحبي فَظَنَنْت أَن صَاحِبي سيكل الْكَلَام الي فَقلت ابا عبد الرَّحْمَن انه قد ظهر قبلنَا أنَاس يقرؤون الْقُرْآن ويتقفرون الْعلم يَزْعمُونَ أَن لَا قدر وَأَن الامر أنف فَقَالَ إِذا لقِيت أُولَئِكَ فاخبرهم أَنِّي مِنْهُم بَرِيء وَأَنَّهُمْ مني بُرَآء وَالَّذِي يحلف بِهِ عبد الله بن عمر لَو أَن لاحدهم مثل أحد ذَهَبا فأنفقه فِي سَبِيل الله مَا قبله الله مِنْهُ حَتَّى يُؤمن بِالْقدرِ ثمَّ قَالَ حَدثنِي عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ قَالَ بَيْنَمَا نَحن جُلُوس عِنْد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اذ طلع علينا رجل شَدِيد بَيَاض الثِّيَاب شَدِيد سَواد الشّعْر لَا يرى عَلَيْهِ أثر السّفر وَلَا يعرفهُ منا أحد حَتَّى جلس الى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فأسند رُكْبَتَيْهِ الى رُكْبَتَيْهِ وَوضع كفيه على فَخذيهِ وَقَالَ يَا مُحَمَّد أَخْبرنِي عَن الاسلام قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (الاسلام أَن تشهد أَن لَا اله الا الله وَأَن مُحَمَّدًا رَسُول الله وتقيم الصَّلَاة وتؤتي الزَّكَاة وتصوم رَمَضَان وتحج الْبَيْت أَن اسْتَطَعْت اليه سَبِيلا (قَالَ صدقت فعجبنا لَهُ يسْأَله ويصدقه قَالَ فَأَخْبرنِي عَن الايمان قَالَ (أَن تؤمن بِاللَّه وَمَلَائِكَته وَكتبه وَرُسُله وَالْيَوْم الآخر وتؤمن بِالْقدرِ خَيره وشره (قَالَ صدقت) وإنما قال ابن عمر ذلك جوابا على ما نقل إليه من أن أناسا من البصرة يقولون: إن الله عز وجل لم يقدر فعل العبد، وإن الأمر أنف، وأنه لا يعلم بأفعال العبد حتى يعملها وتقع منه؛ فابن عمر حكم بكفرهم اللازم من قوله: "ما قبله الله منه حتى يؤمن بالقدر 

 القدرية" وهي القول بإنكار القدر، وأن الأمر أنف، وأوّل من قال بهذه البدعة معبد الجهني المقتول في بدعته سنة 80هـ، وذلك في آخر زمن الصحابة، وقد تبرّأ الصحابة من مذهبه كابن عمر وأنس وغيرهما رضي الله عنهم، وقد تبعه على بدعته غيلان الدمشقي الذي قتله هشام بن عبد الملك، والمعتزلة تنفي القدر إلاّ قليل منهم، وكذلك تسمى الجبرية المحتجّون بالقدر (قدرية): أيضاً، والتسمية على الطائفة الأولى أغلب.

- انظر: الفرق بين الفرق للبغدادي (ص14)، صحيح مسلم بشرح النووي (1/ 150).

- وانظر في موضوع القدر: الفصل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم (3/ 22 وما بعدها، 4/ 192)، مقالات الإسلاميين للأشعري (1/ 298)، شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز (1/ 79).

ثم سلك آثارهم التابعون لهم بإحسان، فاقتفوا طريقهم، وركبوا منهاجهم، واهتدوا بهداهم، ودعوا إلى ما دعوا إليه، ومضوا على ما كانوا عليه.

ثم نبغ في عهدهم وأواخر عهد الصحابة القدرية مجوس هذه الأمة، الذين يقولون: لا قدر، وأن الأمر أنف، فمن شاء هدى نفسه، ومن شاء أضلها، ومن شاء بخسها حظها وأهملها، ومن شاء وفقها للخير وكملها، كل ذلك مردود إلى مشيئة العبد ومقتطع من مشيئة العزيز الحميد. فأثبتوا في ملكه ما لا يشاء، وفي مشيئته ما لا يكون.

ثم جاء خلف هذا السلف فقرروا ما أسسه أولئك من نفي القدر وسموه عدلا، وزادوا عليه نفي صفاته سبحانه وحقائق أسمائه وسموه توحيدا.

فالعدل عندهم إخراج أفعال الملائكة والإنس والجن وحركاتهم وأقوالهم وإراداتهم من قدرته ومشيئته وخلقه.

والتوحيد عند متأخريهم تعطيله عن صفات كماله ونعوت جلاله، وأنه لا سمع له ولا بصر ولا قدرة ولا حياة ولا إرادة تقوم به ولا كلام، ما تكلم ولا يتكلم، ولا أمر ولا يأمر، ولا قال ولا يقول، إن ذلك إلا أصوات وحروف مخلوقة منه في الهواء أو في محل مخلوق، ولا استوى على عرشه فوق سماواته، ولا ترفع إليه الأيدي، ولا تعرج الملائكة والروح إليه، ولا ينزل الأمر والوحي من عنده، وليس فوق العرش إله يعبد ولا رب يصلى له ويسجد، ما فوقه إلا العدم المحض والنفي الصرف، فهذا توحيدهم وذاك عدلهم.

ثم نبغت طائفة أخرى من القدرية فنفت فعل العبد وقدرته واختياره، وزعمت أن حركته الاختيارية - ولا اختيار- كحركة الأشجار عند هبوب الرياح وكحركات الأمواج، وأنه على الطاعة والمعصية مجبور، وأنه غير ميسر لما خلق له، بل هو عليه مقسور ومجبور.

ثم تلاهم أتباعهم على آثارهم مقتدين، ولمنهاجهم مقتفين، فقرروا هذا المذهب وانتموا إليه وحققوه وزادوا عليه أن تكاليف الرب تعالى لعباده كلها تكليف ما لا يطاق، وأنها في الحقيقة كتكليف المقعد أن يرقى إلى السبع الطباق، فالتكليف بالإيمان وشرائعه تكليف بما ليس من فعل العبد ولا هو له بمقدور، وإنما هو تكليف بفعل من هو متفرد بالخلق وهو على كل شيء قدير، فكلف عباده بأفعاله وليسوا عليها قادرين، ثم عاقبهم عليها وليسوا في الحقيقة فاعلين.

ثم تلاهم على آثارهم محققوهم من العباد، فقالوا: ليس في الكون معصية ألبتة، إذ الفاعل مطيع للإرادة موافق للمراد

وروى مسلم في صحيحه عن بُرَيْده بن يحيى بن يعمر قال: " كان أول من قال بالقدر بالبصرة معبد الجهني " وذكر بريدة في حديثه أن معبداً ومن معه يزعمون " أن لا قدر، وأن الأمر أنف " .

وقد أثار الصحابة الأحياء في ذلك الوقت كعبد الله بن عمر وابن عباس وواثلة بن الأصقع، وجابر بن عبد الله، وأبي هريرة، وأنس بن مالك حرباً على أصحاب هذه المقالة  . ثم أخذ هذا المذهب عن معبد رؤوس الاعتزال وأئمته كواصل بن عطاء، وعمرو بن عبيد، وغيلان الدمشقي.

فأما واصل بن عطاء رأس الاعتزال، فقد زعم أن الشر لا يجوز إضافته إلى الله، لأن الله حكيم، ولا يجوز أن يريد من العباد خلاف ما يأمر، ويحتم عليهم شيئاً، ثم يجازيهم عليه.

وقرر في مقالته: أن العبد هو الفاعل للخير والشر، والإيمان والكفر، والطاعة والمعصية، وهو المجازى على فعله، والربُّ تعالى أقدره على ذلك كله .

وذهب النظام من المعتزلة إلى أن الله لا يوصف بالقدرة على الشرور والمعاصي، وليست هي مقدورة لله

وهذه الفرقة هي التي أطلق عليها علماؤنا: اسم القدرية. " وسموا بذلك لأنهم أثبتوا للعبد قدرة توجد الفعل بانفرادها واستقلالها دون الله تعالى، ونفوا أن تكون الأشياء بقدر الله وقضائه، وهؤلاء مع ضلالتهم يضيفون هذا الاسم إلى مخالفيهم من أهل الهدى، فيقولون: أنتم القدرية حين تجعلون الأشياء جارية بقدر من الله، وإنكم أولى بهذا الاسم منا " .

وقد ذكر النووي في شرحه على صحيح مسلم: " أن بعض القدرية قال: لسنا بقدرية، بل أنتم القدرية، لاعتقادكم إثبات القدر.

وقد صح أن الرسول صلى الله عليه وسلم سمى القدرية مجوس هذه الأمة، والحديث أخرجه أبو داود في سننه والحاكم في مستدركه على الصحيحين، وقال: صحيح على شرط الشيخين إن صح سماع أبي حازم من ابن عمر

والسبب في تسمية هذه الفرقة بمجوس هذه الأمة " مضاهاة مذهبهم المجوس في قولهم بالأصلين: النور والظلمة، يزعمون أن الخير من فعل النور، والشر من فعل الظلمة، فصاروا ثَنَوِيَّة، وكذلك القدرية يضيفون الخير إلى الله تعالى، والشر إلى غيره، والله - سبحانه وتعالى - خالق الخير والشر جميعاً، لا يكون شيء منهما إلا بمشيئته، فهما مضافان إليه - سبحانه وتعالى - خلقاً وإيجاداً، وإلى الفاعلين لهما من عباده فعلاً واكتساباً "  .

ونشأ في آخر عهد بني أمية أقوام يزعمون أن العبد مجبور على فعله، ليس له خيار فيما يأخذ أو يدع، وبعضهم يثبت للعبد قدرة غير مؤثرة، وأول من ظهر عنه هذا القول هو الجهم بن صفوان، وتفرع عن هذه البدعة أقوال شنيعة، وضلال كبير  .

وقد انتشر هذا القول في الأمة الإسلامية وتقلده كثير من العباد والزهاد والمتصوفة، وإذا كان الفريق الأول أشبه المجوس فإن هذا الفريق أشبه المشركين الذين قالوا: {لو شاء الله ما أشركنا ولا ءابآؤنا ولا حرمنا من شيء} .

وهذا الفريق شرٌّ من الفريق الأول، لأن الأولين عظموا الأمر والنهي، وأخرجوا أفعال العباد عن تكون خلقاً لله، وهذا الفريق أثبت القدر، واحتج به على إبطال الأمر والنهي !

** أما مذهب أهل الحق، فهو أن كل شيء بقضاء وقدر، وللعبد اختيار في أعماله التكليفية، به يثاب ويعاقب، فهو وسط بين نحلتين خاطئتين: "فئة القدرية المعتزلة" التي تزعم أن التقدير الإلهي لم يتناول الشرور، وهي واقعة بفعل العبد، و"فئة الجبرية" التي سلبت الإنسان اختياره ، واعتبرته مجبراً في كل ما يأتي ويذر، والحق أن دين الله بين الغالي والمقصر، وعليه فكل محدث قد تعلق به علمه -سبحانه- أزلاً تعلق انكشاف، كما تعلقت به إرادته أزلاً تعلق تخصيص، وتعلقت به قدرته فيما لا يزال تعلق إيجاد، هذا هو المعلوم من الدين بالبراهين القطعية، وكان عليه السلف من الصحابة وخيار التابعين إلى أن حدثت بدعة القدرية في أواخر زمن الصحابة.

- هذا، ولما بلغ عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أمر من كانوا يزعمون أنه "لا قدر"، وأن "الأمر أنف"، قال لمن بلغه: فإذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم، وأنهم برآء مني،ثم قال: حدثني أبي عمر بن الخطاب قال: بينما نحن عند رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ذات يوم... وروى حديث جبريل، وفيه قال جبريل: فأخبرني عن الإيمان: قال (صلى الله عليه وسلم): «أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره»، قال: - أي جبريل عليه السلام- صدقت. إنه لا أبين من هذا دلالة على أن الإيمان بالقدر أساس من أسس العقيدة، وركن من أركانها، وقد أفرد "الإيمان بالقدر" بالذكر في حديث عمر، مع كونه داخلاً في الإيمان بالله لمزيد العناية بشأنه، والتنبيه على ضلال من يكذب به.

- قال ملا علي القاري: إعادة الفعل "يؤمن" تأكيدا لشرف قدره، وتعاظم أمره، ووقع فيه الاهتمام لأنه محار الأفهام، ومزال الأقدام، وقد أعلم (صلى الله عليه وسلم) أن الأمة سيخوضون فيه، وأن بعضهم ينفونه، فاهتم بشأنه، ثم قرره بالإبدال بقوله: «خيره وشره»، أي: نفعه وضره،أما مسألة تبرؤ ابن عمر رضي الله عنهما من القدرية فكناية ظاهرة عن إخراجهم عن دائرة الإسلام، إذ البراءة لم تعهد في القرآن الكريم إلا من الكافرين، قال تعالى: {وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ *} [يونس: 10/41]

** قال العلماء: إن ما كان من النصوص موهماً للإطلاق، وأن العبد حر في أفعاله، محمول على كسب الفعل وتحصيله، بتوجيه عزمه إليه وقصده إياه، ومنه قوله تعالى: {هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النمل: 27/90] ، وقوله: {فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ} [الأعراف: 7/39] ، وما كان من النصوص ظاهرها الإجبار تحمل على عقوبة أنزلت بهم، وضلال ألزموه لتعنتهم، وتنكرهم للحق، كما في قوله تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام: 6/110] ، وقوله: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف: 61/5] ، وقوله: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ} [البقرة: 2/26] .

** دليل القضاء والقدر سمعي، فترجع ضرورة الإيمان بهما إلى الحديث الصحيح الذي رواه مسلم، والأحاديث الأخرى التي سردنا منها ما تيسر.

وإنما عول على الدليل السمعي لأنه الأصل من جهة، وأسهل للعامة من جهة أخرى، وإلا فقد علم مما مر أن القضاء والقدر يرجعان إلى الصفات التي عول فيها على الدليل العقلي، وهي القدرة والإرادة والعلم. وعليه، فدليلهما دليل هذه الصفات، وثبوتهما فرع عن ثبوت هذه الصفات.

وقد جاء في مفتاح الجنة: «.. فكل شيء من الممكنات هو بقدرته سبحانه وتعالى وإرادته وعلمه، ودل عليه كلامه، فالقضاء والقدر عقيدة سمعية جزئية من الكلي الذي هو "الجائز الذاتي في حقه سبحانه وتعالى"، تندرج في معاني العلم والإرادة والقدرة والكلام، وبرهانها العقلي هو برهان هذه الصفات الثلاث، ودليلها النقلي هو دليل هذه الصفات الأربع، بزيادة "الكلام"؛ لأنها سمعية، قال تعالى: { إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49) وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ } [القمر: 54/49-50] ، فالخلق يدل -بداهة- على اتصاف الخالق بالقدرة والإرادة والعلم المحيط، إذ ارتباط الخلق بقدرته التامة يقتضي إحاطته به، وتقدمه عليه، وارتباطه بحكمته يقتضي وقوعه على أكمل الوجوه وأحسنها، قال تعالى بعدما ذكر خلق السموات والأرض وما بينهما: { يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ ذَلِكَ* عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ } [السجدة: 32/6-7] ، وقال: {فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ *} [الأنعام: 6/96] ، إن علم الله الأزلي المتعلق بكل من أهل الجنة وأهل النار قبل أن يعملوا بعمل يفضي إلى الجنة أو النار؛ حقٌّ، يجب الإيمان به، وقد نص الأئمة -كمالك والشافعي وأحمد- على أن من جحد هذا فقد كفر، فيجب الإيمان بأن الله علم ما سيكون كله قبل أن يكون. هذا، وقد دل حديث علي رضي الله عنه إذ قال: كنا مع رسول الله ببقيع الغرقد في جنازة، فقال: ما منكم أحد إلا قد كتب مقعده من النار، ومقعده من الجنة! فقالوا: يا رسول الله، أفلا نتكل على الكتاب، وندع العمل؟ قال: اعملوا، فكل ميسَّر لما خلق له، أما من كان من أهل السعادة فسييسر لعمل أهل السعادة، وأما من كان من أهل الشقاوة فسييسر لعمل أهل الشقاوة، ثم قرأ قوله تعالى: { إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4) فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى } [الليل: 92/5-6] .

 * سئل الإمام جعفر الصادق رضي الله عنه : هل العباد مجبرون؟ فقال: الله أعدل من أن يجبر عبده على معصية، ثم يعذبه عليها.

 وقد كتب الحسن البصري إلى الحسن بن علي رضي الله عنهما يسأله عن القضاء والقدر، فكتب إليه: «من لم يؤمن بقضاء الله وقدره، خيره وشره، فقد كفر، ومن حمل ذنبه على ربه فقد فجر، وإن الله سبحانه وتعالى لا يطاع استكراهاً، ولا يعصى بغلبة، فإن عملوا بالطاعة لم يحل بينهم وبين ما عملوا، وإن عملوا بالمعصية، فلو شاء لحال بينهم وبين ما عملوا، فإن لم يفعل فليس هو الذي أجبرهم على ذلك، ولو جبر الله الخلق على الطاعة لأسقط عنهم الثواب، ولو جبرهم على المعصية لأسقط عنهم العقاب».

 ** ويتضح مما سبق أن مذهب الجبرية هادم لأركان التكليف، مخرب لبنائه، مكابر بسوء الفهم للنقل الصحيح والحس الصريح. وقد علق ابن عبد البر على حديث «تحاج آدم وموسى عليهما السلام» بقوله: وليس فيه حجة للجبرية، وإن كان في بادئ الرأي يساعدهم. وقال الخطابي: «يحسب كثير من الناس أن معنى القضاء والقدر يستلزم الجبر وقهر العبد، ويتوهم أن غلبة آدم عليه السلام كانت من هذا الوجه، وليس كذلك، وإنما معناه الإخبار عن إثبات علم الله بما يكون من أفعال العباد، وصدورها عن تقدير سابق منه، فإن القدر اسم لما صدر عن فعل القادر».

 وقال أيضاً : «ليس الأمر كما يتوهمونه (أي من الجبر)، إنما معناه الإخبار عن تقدم علم الله بما يكون من أكساب العبد، وصدورها عن تقدير منه». وعليه؛ فلا علاقة -أصلاً- بين القضاء والقدر والجبر كما يتوهم، لرجوعهما -كما مر- إلى صفة "العلم".

 ويكفي في نفي شبهة الجبر ما أعطي الإنسان من اختيار بين البدائل المتاحة له، الاختيار القائم على الترجيح بالعقل الذي هو مناط التكليف، وما يشعر به الإنسان من قدرته على الفعل والترك، لأن مذهب الجبرية -كما قال الطيبي- هو إثبات القدرة لله ونفيها عن العبد أصلاً، والواقع يكذبهم، وإن القول بأن الإنسان مسلوب القدرة والإرادة رأساً إذا أخذ على ظاهره كان تشكيكاً في الضروريات، والتفرقة بين حركة النهوض وحركة السقوط من البداهة بحيث يعد إنكارها مكابرة. وعليه، فالقول بأن الإنسان مسير في أعماله الاختيارية كالنائم والساهي، وكالريشة في المهب، كلام لا يقوله إلا مكابر.

 وقد نقل ابن حجر عن ابن السمعاني قال: سبيل معرفة هذا الباب (أي القدر) التوقيف من الكتاب والسنة .

 مما سبق يتضح رجوع القضاء والقدر إلى صفات العلم والإرادة والقدرة، فالعلم يتعلق بالمقدور -أزلاً- على ما هو عليه تعلق انكشاف لا إجبار فيه، والإرادة تتعلق بالمقدور أيضاً - أزلاً- تعلق تخصيص على وفق العلم، فتخصص المقدور ببعض ما يجوز عليه، والقدرة تتعلق بالمقدور تعلق إيجاد وإمداد وإعدام، على وفق ما خصصته الإرادة، وتعلقها تعلق تنجيزي حادث، فالعلم ليس فيه معنى الإجبار، إذ هو صفة كاشفة، وتخصيص الشؤون أزلاً بالإرادة كائن طبق علم الله من غير سبق زمني بين تعلق الإرادة وتعلق العلم، إذ الترتيب بين التعلقين عقلي بالنسبة إلينا، وهذان التعلقان؛ تعلق العلم وتعلق الإرادة، هما معنى القدر الإلهي، أما القضاء فهو إبراز الله المقدرات الأزلية في مواعيدها المعينة في علمه سبحانه وتعالى، قال في التدارك المعتبر: هذا، «وقد فسر الماتريدية القضاء بإيجاده سبحانه وتعالى الأشياء على وفق ما قدر، والقدر معناه علم الله وإرادته الأشياء في الأزل على ما هي عليه فيما لا يزال»، فعلم الله بأن الفعل سيصدر عن الإنسان لا يقتضي أن يصدر هذا الفعل عنه على وجه الإكراه، فمن ظن أن مجرد علم الله بصدور الممكن يؤدي إلى جبر الفاعل عليه مطلقاً، فقد لزمه أن يكون الله مجبراً على فعله، لأنه لا يفعل إلا ما أراد، ولا يريد إلا ما علم، وذلك من البطلان بمكان، علاوة على أننا لا نفعل ما نفعل إلا باختيارنا، دون معرفة ما علمه الله أزلاً فينا، لأن علمه فينا غيب، فهذا أمير المؤمنين عمر الفاروق رضي الله عنه خرج إلى الشام، حتى إذا كان "بسرغ" لقيه أمراء الأجناد؛ أبو عبيدة بن الجراح وأصحابه، فأخبروه أن الوباء قد وقع بأرض الشام، قال ابن عباس: فقال عمر: ادع لي المهاجرين الأولين، فدعاهم فاستشارهم، وأخبرهم أن الوباء قد وقع في الشام، فاختلفوا، فقال بعضهم: قد خرجنا لأمر، ولا نرى أن نرجع عنه، وقال بعضهم: معك بقية الناس وأصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، ولا نرى أن تقدمهم على هذا الوباء، فقال: ارتفعوا عني، ثم قال: ادعوا لي الأنصار، فدعوتهم، فاستشارهم، فسلكوا سبيل المهاجرين، واختلفوا كاختلافهم، فقال: ارتفعوا عني، ثم قال: ادع لي من كان ههنا من مشيخة قريش من مهاجرة الفتح ، فدعوتهم، فلم يختلف منهم عليه رجلان، فقالوا: نرى أن ترجع بالناس، ولا تقدمهم على هذا الوباء، فنادى عمر في الناس: إني مصبح على ظهر، فأصبحوا عليه، فقال أبو عبيدة بن الجراح: أفراراً من قدر الله؟ فقال عمر: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة ! نعم، نفر من قدر الله إلى قدر الله، أرأيت إن كانت لك إبل هبطت وادياً له عدوتان ؛ إحداهما خصيبة، والأخرى جدبة، أليس إن رعيت الخصيبة رعيتها بقدر الله، وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله؟ قال: فجاء عبد الرحمن بن عوف -وكان متغيباً في بعض حاجته- فقال: إن عندي في هذا علماً، سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: «إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها، فلا تخرجوا فراراً منه»، قال: فحمد الله عمر، ثم انصرف.

 وفي رواية: «إن تقدمنا فبقدر الله، وإن تأخرنا فبقدر الله»، وأطلق عليه فراراً لشبهه في الصورة، وإن لم يكن فراراً شرعياً، والمراد أن هجوم المرء على ما يهلكه منهي عنه، ولو فعل لكان من قدر الله، وتجنبه ما يؤذيه مشروع، وقد يقدر الله وقوعه فيما فر منه، فلو فعله أو تركه كان من قدر الله، فهما مقامان؛ مقام التوكل، ومقام التمسك بالأسباب.

 قال ابن حجر: «ومحصل قول عمر: أنه لم يفر من قدر الله حقيقة، وذلك أن الذي فر منه أمر خاف على نفسه منه، فلم يهجم عليه، والذي فر إليه أمر لا يخاف على نفسه منه، إلا الأمر الذي لا بد من وقوعه سواء كان ظاعناً أو مقيماً».

 وعمر في قضية الطاعون لم يسأل عما علمه الله فيهم: هل هو الرجوع أو القدوم؟ بل بذل الجهد كله ليصل إلى قرار بشأن القدوم أو الرجوع، وحيث قرر بعد المشورة الرجوع، ورجع، دل على أن ما علمه الله فيهم إنما هو الرجوع عن أرض الطاعون، فطابق اختيارهم علم الله فيهم، وقد أشار الشافعي إلى هذا المعنى فقال: «إن أهل القدر لو أثبتوا العلم خصموا» أي غلبوا، وأفحموا. وقد علق الرازي على قول الشافعي بقوله: «ولو اجتمع العقلاء على أن يردوا على هذا الإلزام بحرف واحد لما استطاعوا إلا أن يأخذوا بقول غلاة القدرية؛ وهو "أنه سبحانه وتعالى لا يعلم الأشياء قبل وقوعها"، إذ

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين