هو الأول

خلاصة: 

من خلق الخالق؟ هذا سؤال يطرحه بعض الناس استیضاحاً، كما يطرحه من يظنون أنهم يحرجون به المؤمنين بالله تعالى.

والجواب لهؤلاء وأولئك ينطلق من اسم (الأوّل) من أسماء الله الحسنى. 

وحتى نتفق في هذا الأمر، نبدأ في البند (1) بنقطة منطقية، ثم نذكر في (2) حقائق علمية، ثم ننظر في البند (3) في أحاديث شريفة وردت في هذه المسألة، ونخلص في البند (4) إلى نتيجة عملية.

1. هو الأول، وليس غيره أولاً:

(الأول) اسم من أسماء الله الحسنى نصّ عليه القرآن العظيم في سورة الحديد ﴿هُوَ ٱلۡأَوَّلُ وَٱلۡأٓخِرُ وَٱلظَّٰهِرُ وَٱلۡبَاطِنُۖ﴾ [الحديد: 3].

الأول ليس قبله شيء، فليس من المنطق أن نسأل عمَّن خلقه، بعد أن عرفنا أنه سبحانه الأول. فلو قلت لك: هذا أحسن طالب في الصف، لم يعد منطقياً أن تسألني فمن أحسن منه؟

لننظر إلى الأمر من زاوية أخرى: 

هناك من يظن أن الاعتقاد بوجود (أول ليس قبله شيء) هو أمر يخص المؤمنين دون الملحدين الذين لا يعتقدون ذلك. لكن هذا الظن خطأ كبير. ذلك أن وجود (أول ليس قبله شيء) هو حقيقة لابدَّ أن يسلِّم بها كل إنسان عاقل مفكر، مؤمناً كان أو ملحداً! والخلاف بين المؤمنين والملحدين هو في الشيئ الذي يعتقدون أنه (الأول) وليس أبداً في أنه لابدَّ من أول.

ولتقريب الفكرة دعنا نتساءل عن المنضدة التي أكتب عليها هذه السطور. على ماذا تستند؟ الجواب المباشر: تستند على أرض الغرفة. فإن سألنا على أي شيء تستند أرضية الغرفة، قالوا إنها تستند على أساس البناء، فإن سألنا على أي شيء يستند ذلك الأساس؟ قالوا على الأرض، فعلى أي شيء تستند الأرض، ربما قالوا: على جاذبية الشمس التي تمسك الأرض والتوابع الأخرى حول الشمس. ولنا أن نسأل من جديد: فعلى أي شيء تستند الشمس وما يتبعها من توابع؟ 

قد يقال: إنها الأساس ولا تحتاج لما تستند عليه. 

أولعل مجيباً يقول: إنها جزء من مجرة (درب التبانة) التي شمسنا جزء منها. ولنا أن نسأل كرة أخرى: على أي شيء تستند تلك المجرة؟ فحيثما وقف في الجواب فقد وقف عند الأساس التي يستند غيره عليه ولا يستند هو على شيء. 

لابدَّ في هذا الكون من أول:

لنأكد ثانية أن هذه حقيقة حتمية يقر بها كل إنسان مفكر ولو كان ملحداً. سوى أن المؤمن يعتقد أن الله سبحانه هو الأول، والملحد لابدَّ أن يعتقد بوجود (أول) غير الله. لماذا؟ لأنَّ هذه الكرة الأرضية وما عليها من مخلوقات، والكون الفسيح المحيط بها أمر مشاهد محسوس للمؤمن والملحد. فغير المؤمن لابدَّ أن يكون عنده (مرشح) لمنصب (الأول) صراحة أو ضمنا. 

وكان أبرز (المرشحين) عند الملحدين القدامى هو: الأرض وما عليها والكون المحيط بها: هذا كله هو الأول عندهم. هذه الجبال والأشجار والبحار والأسماك والحيوانات والنجوم... إلخ، هكذا كانت منذ القدم. فهي في زعمهم (الأول).

وقد رد هذا الزعم المؤمنون القدامى بحجج منطقية قوية تُبيِّن أنَِّ هذا الكون المشاهد لايمكن أن يكون أولاً. وإجاباتهم تدعمها اليوم الحقائق العلمية.

2- حقائق علمية

إنَّ الحقائق العلمية التي وصل إليها علم الكونيات cosmology قدَّمت أدلة جديدة حاسمة تؤكد: أن الأرض التي نعيش عليها مع سائر الجمادات والمخلوقات، وكذلك الكواكب والكون الفسيح حولنا، لم تكن هكذا من قديم، بل هي (مولودة) من حالات ومراحل سابقة، يدرسها علم الكونيات. وأول تلك المراحل لم يكن فيه إلا ثلاث مواد فقط هي الهيدروجين والهليوم والليثيوم. ومنها صُنع في مراحل تالية من عمر الكون كل ما نرى من مواد أخرى ومخلوقات في الكون و على الأرض.

المحصلة: إنَّ مرشح الملحدين لمنصب (الأول) كشف العلم اللثام عنه، فإذا به الهيدروجين والهليوم و الليثيوم: مواد معروفة لا تسمع ولا تَرى ولا تنطق. وهي توجد حتى في مختبرات المدارس، ويستطيع الطلاب أن يتحكموا فيها ويجروا عليها التجارب.

يقول موقع وكالة الفضاء الأمريكية (ناسا): "إن العناصر الكيميائية المخلوقة عند بداية الكون كانت ثلاثة فقط: هي الهيدروجين والهيليوم والليثيوم، وهي أخف الذرات في الجدول الدوري " [تاريخ الدخول للموقع 3-8-2018]. ملاحظة: الهيدروجين والهيليوم هما أخف الغازات، والليثيوم معدن قلوي لين أخف من الماء.

“The only chemical elements created at the beginning of our universe were hydrogen, helium and lithium, the three lightest atoms in the periodic table." 

https://wmap.gsfc.nasa.gov/universe/uni life.html

هل هذا مرشح معقول أن يكون أولاً، مؤهل أن يصنع هذا الكون العجيب المتقن، وهذه المخلوقات الجميلة والمدهشة التي نراها، ومن أعجبها الإنسان نفسه؟

أم المعقول هو مرشح المؤمنين: الله الخالق العليم القدير، خلق هذه المواد ثم صنع منها، بسنن قدّرها، سائر مواد ومخلوقات هذا الكون العجيب. 

من له الأسماء الحسنی، الذي أحسن كل شيئ خلقه. هو الأول... ﴿لَمۡ يَلِدۡ وَلَمۡ يُولَدۡ٣ وَلَمۡ يَكُن لَّهُۥ كُفُوًا أَحَدُۢ﴾.

3- هذه المسألة قديمة، وفيها أحاديث نبوية:

روى البخاري عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لن يَبْرَح الناس يتساءلون: هذا الله خالق كل شيء فمن خلق الله؟) وروى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه المعنى نفسه بكلمات أخرى آخرها (..... فمن وجد من ذلك شيئا فليقل: آمنت بالله ورسوله) وفي رواية (...فليستعذ بالله ولْينْته)

ويبدو أنَّ هذه المسألة تكررت في أكثر من مناسبة، حيث وردت في شأنها أحاديث صحيحة أخرى تؤكد المعنى العام نفسه، وهو أن سؤال (من خلق الخالق) قد يخطر على بال الإنسان المؤمن، وترشدنا الأحاديث إلى الإعراض عن هذا الخاطر، ودفعه بالاستعاذة بالله والنطق بعبارات الإيمان.

الاتجاه الأول: في هذه المسألة هو الاقتصار على ظاهر هذه الأحاديث الشريفة، وهو ما ذهب إليه عدد من الفقهاء من أنَّه لا ينبغي للمؤمن مناقشة الموضوع فكرياً، بل عليه الاقتصار على الاستعاذة وتأكيد الإيمان. إذ النص الشرعي واضح في المسألة ويقتضي بحسب اجتهادهم ترك البحث والنقاش. 

ولا أكتم القارئ أن نفسي لم تطمئن لهذا الاستنتاج، لكن لم يظهر لي بديل عنه، فحبس في الدرج السنوات طويلة مسودة أولى كنت كتبتها للبندین 1 و 2 السابقين. 

كم كانت فرحتي عظيمة حين اطلعت على الاتجاه الثاني لفقيهين كبيرين، أولهما الإمام محمد المازَرِيّ، الفقيه المحدث إمام المالكية في عصره، (سكن المهدية، في تونس الآن، وتوفي 536 هـ ). ثم بعده بنحو قرن ونصف، محي الدين النووي ( توفي 676هـ) الفقيه الشافعي العَلَم، نزيل قرية نوى في حوران من بلاد الشام، المشهور بين عامة المسلمين بكتابيه (ریاض الصالحين) و (الأربعين النووية). 

خلاصة ما قال المازَري، ثم نقله عنه النووي وأحال عليه بالإسم (في شرح النووي لصحيح مسلم): هو أنَّ الأحاديث الشريفة الآنفة تتعلق بالخواطر العارضة، أما الخواطر المستقرة والشبهات المتكررة فإنه يجب دفعها "..بالاستدلال والنظر في إبطالها" أي بالحجج والنقاش العقلي. وما تضمنه البندان 1 و 2 هو من هذا القبيل.

4- نتيجة عامة 

ظاهر مما سبق وجود اتجاهين فقهيين أصيلين حول التصرف المناسب تجاه السؤال المطروح، فهل يمكن الجمع بين الاتجاهين؟ 

جوابي هو: نعم! إذا انتبهنا إلى حقيقة أن لا تناقض بين الاتجاهين، لأنَّ كل منهما يختص بحالة مختلفة، ولكل مقام مقال. 

فإن كان المقام فردياً، أي أن السؤال هو حديثُ نفسٍ ووسوسهُ شيطان (ونصوص الأحاديث كلها تشير لذلك) فالاتجاه الأول هو المفضل والكافي، أي الاستعاذة بالله تعالى من الشيطان وترديد عبارات الإيمان. 

أما إن كان المقام اجتماعياً يعلن فيه السؤال على سبيل الجدال والتحدي لتشكيك المؤمنين والطعن في الدين، فالإتجاه الثاني أي المناقشة والتفنيد، ليس مفضلاً فقط بل أراه حينئذ فرض كفاية. وتطبيق الإتجاه الأول عند ذلك هو وضع له في غير موضعه، بل قد يفسره الغافلون بأنه عجز عن الجواب أو دليل على صحة الشبهة. ولاننس أنَّ القرآن العظيم صرَّح ببعض حجج المشركين وفنّدها، فهذا الإتجاه الثاني هو من صميم الدين. 

ثمَّ إن كان الخطاب لعموم الناس، فإنَّ الأمر القرآني ﴿...وَقُولُواْ قَوۡلٗا سَدِيدٗا﴾ [الأحزاب: 70].. يتطلب هنا التماس الحجج السهلة الفهم للعامَّة، وترك الحجج الدقيقة أو المطولة لمواطنها وأهلها.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين