واجبنا في خدمة القرآن

 

القرآن الكريم هو دستور المسلمين، وقانونهم الأساسي الذي يجبُ أن ترجع إليه حكوماتهم وأفرادهم في العقائد، والمعاملات، والأخلاق، والتشريع، والسياسة، وكل شأن من شؤون الدين والدنيا.

ومن أجلِّ نعم الله تعالى على المسلمين أنَّه أَنزل هذا القرآن آياتٍ بينات، ويسَّره للذكر، وضمَّنه ما فيه هدى للناس ورحمة، وذكرى ومَوعظة، وما يَشفي الصدور ويخرج من الظلمات إلى النور، ووعد بحفظه من أي تضييع أو تحريف أو تبديل.

وقد شعر المسلمون منذ فجر الإسلام بمكانة القرآن وبما يجب عليهم في خدمته ليهتدوا بهديه وليظلَّ نورَهم وإمامَهم، فبذلوا في هذا السبيل جهوداً مُوفَّقة، وخدموا القرآن خدماتٍ جليلة من شتى نواحي الخدمة.

فللمحافظة عليه من أن تضيع منه آية أو كلمة أو يندثر شيء مما بلَّغه رسول الله صلى الله عليه وسلم للمسلمين من آياته، قام أبو بكر رضي الله عنه في أول خلافته بمشورة عمر ومعونة كبار الصحابة رضي الله عنهم من المهاجرين والأنصار بجمع كلِّ ما كان قد دُوِّن فيه آية من القرآن أو آيات في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، سواء ما كان عند كتبة الوحي، وما كان عند من دَوَّن لنفسه من الصحابة رضي الله عنهم، وبعد أن قابل ما دوَّنه المدونون بما يحفظه الحافظون، وبما كان يُتْلى على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلوات وفي غيرها، ربط هذه المجموعة بأوثق رباط، وحرص على حفظها عنده، ثم خلفه في حفظها عمر رضي الله عنه، ثم خلفتهما في حفظها حفظة ابن عمر أم المؤمنين رضي الله عنها.

ولنشر هذه المجموعة بين المسلمين في مختلف البُلدان وجمع المسلمين على كلمة واحدة في القرآن، أخذ عثمان بن عفان رضي الله عنه في خلافته هذه المجموعة من حفظه، وعهد إلى نفر من المهاجرين والأنصار أن يكتبوا منها ست نسخ، فكتبوها بأتمِّ ضبط وأدقِّ تحرٍّ، وبعث إلى أمصار المسلمين بخمس نُسخ منها لتكون في المساجد العامَّة مرجع المسلمين، واحتفظ عنده في المدينة المنورة بواحدة منها، وعن هذه المصاحف العثمانية الستة تناقل المسلمون القرآن وتوارثوه أفراداً عن أفراد، وجماعات عن جماعات، بالمشافهة، وبالكتابة، حتى وصل القرآن إلى مختلف البلدان على تعاقب الأزمان، لا اختلاف في آية من آياته، ولا في ترتيب آيات سورة منه.

والمسلمون وعددهم ثلاثمائة مليون على ما بينهم من اختلاف في المذاهب، ومن تفرُّق في الأصقاع، مجمعون على قرآنٍ واحد، لا يختلف في آية منه سُني وشيعي، ولا جاوي ومراكشي، ولا سوداني وبولوني، إلههم واحد، وقبلتهم واحدة، وقرآنهم واحد.

ولصون اللسان عن الخطأ في النطق بحرف منه وعن تسرُّب أي تحريف له، عُني الأجلاء من التابعين وتابعيهم بالضبط الكامل لكلماته، ونقط ما ينقط من حروفه، ومدِّ ما يمد منها، ووضع العلامات التي تمنع اللبس والاشتباه في القراءة، وعلى رأس الذين قاموا بهذا العمل الجليل في أوائل الدولة الأموية أبو الأسود الدؤلي، ونصر بن عاصم، والخليل بن أحمد.

ولكفالة تجويد قراءته، وحسن ترتيله وإخراج حروفه من مخارجها، والوقف حيث يحمد الوقف، والوصل حيث يحسن الوصل، تخصَّص في فنِّ قراءته جمعٌ من العلماء، وعلى رأسهم القراء السبعة، وأخذوا يقرءون بالترتيل والتجويد، ويتلقى الناس عنهم القراءة بالتجويد والترتيل، واتصلت حلقات رواة القرآن قارئ عن قارئ، كما اتصلت حلقات كتابته ناسخ عن ناسخ، وبهذه الجهود الموفَّقة في حفظ القرآن من التضييع والتحريف، وفي نشره وجمع المسلمين على كلمة واحدة فيه، وفي ضبطه ونقطه، وفي تجويده وتلقينه، حقَّق الله تعالى ما وعد به سبحانه في قوله، وهو أصدق القائلين: [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ] {الحجر:9}.

وأما من ناحية تفسيره وتبيين معاني مُفرداته والمراد من كلِّ آية من آياته، فقد أبلى علماء المسلمين في هذا أحسن البلاء، ووضعوا عدداً كثيراً من التفاسير النافعة الجامعة، وكل منهم ولي في تفسيره الوجهة التي رأى فيها خدمة للقرآن والمسلمين.

فمنهم من عُني بتفسير القرآن بالمأثور، أي: أنه يفسر الآية بما رُوي عن الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة رضي الله عنهم، والتابعين وتابعيهم من آثار وأقوال في تفسيرها. 

ومن أشهر هؤلاء محمد بن جرير الطبري، فهو يذكر في الآية ما ورد في تأويلها عن ابن عباس أو عكرمة أو مجاهد أو الشعبي، أو غيرهم من الصحابة وتابعيهم، ثم يعقب بقوله وأولى الأقوال بالصواب.... وهو تفسير جليل نافع، غير أنَّ العمر لم يعد يتسع لقراءة سند كل قول، وللموازنة بين عدة أقوال.

ومنهم من عُني في تفسيره بالناحية البلاغيَّة للقرآن، وإبراز جمال التشبيهات والاستعارات ووجوه الإعجاز، ومن أشهرِ هؤلاء: الزمخشري في تفسيره الكشَّاف، وهو من أجلِّ التفاسير وأدقها وأحسنها عبارةً، غير أنَّ نزعة الاعتزال تغلب عليه في بعض الأحيان، فيحمِّل الآية ما لا تحتمله إلا بتكلف.

ومنهم من عُني بوجوه الإعراب، والتوفيق بين الآية ومذاهب النحاة، وتوجيه العطف والتقديم والتأخير، وغير هذا من البحوث النحويَّة، ومن أشهر هؤلاء أبو حيَّان في تفسيره البحر المحيط، وهو تفسير جليل، غير أنَّ القارئ يشعر في تفسير بعض الآيات أنَّه في مُعْترك دراسة نحويَّة، لا في تبيين المراد من آية قرآنية.

ومنهم من عُني بالجمع بين هذه النواحي كلها، مثل الألوسي في تفسيره: (روح المعاني).

ومنهم من أفرد بعض سور القرآن بالتفسير مثل تفسير سورة النور، وتفسير سورة الفتح.

ومنهم من أفرد بعض الأجزاء بالتفسير، مثل تفسير جزء عم يتساءلون، وتفسير جزء تبارك.

ومنهم من أفرد آيات الأحكام بالتفسير، مثل تفسير أبي بكر الرازي المشهور بالجصَّاص، غير أنَّ من فسَّروا آياتِ الأحكام غلبت عليهم النزعة التقليديَّة لأئمتهم، فجعل كل واحد منهم وجهته أن تتَّفق الآية ومذهب إمامه، فحمله هذا على التكلُّف في بعض الآيات.

وهذه الجهود الموفَّقة في تفسير القرآن أدَّت للقرآنِ خدماتٍ جليلة، ويسَّرت السبيل للانتفاع به والاستضاءة بنوره، غير أنَّ كل زمان له مُقتضيات، وكل بيئة لها حاجات، وزماننا وبيئتنا ونوع ثقافتنا تَقتضي أن يؤدي العلماء للقرآن خدماتٍ إلى تلك الخدمات، وأن يقوموا له بواجبات إلى تلك الواجبات ليتاح للمسلمين في هذا العصر أن يفهموا آياته، وأن يجمعوا بين التعبد بتلاوته والتدبُّر في معانيه.

فأول واجب علينا في خدمة القرآن وضع تفسير سهل العبارة، حسن الأسلوب، يلائم أساليب عصرنا وثقافتنا، يستبين منه المسلم مَعَاني المفردات والمراد من الآيات، ويسترشد به إلى ما في الآية من هدى ورحمة، ومن دروس وعبرة، ليس فيه طول ممل ولا إيجاز مخل، ولا نحو ولا إعراب، ولا إسرائيليات ولا اختلافات، وجملة وصف هذا التفسير أنَّه تفسير يبين هداية القرآن، ويجعل القارئ والسامع مُتَّصلاً بمعانيه والمراد منه.

لا مجرد مُردِّد للصوت بألفاظه، وهذا التفسير موجود ولكنه مُفرَّق ومبثوث في التفاسير، والواجب أن نستخلصه منها، ونحسن الصياغة والترتيب. 

ولقد سئلَ بعض العلماء: ما خير التفاسير؟ فقال: خير التفاسير مبثوث في التفاسير. 

وكثيراً ما سئل الواحد منا عن خير تفسير تفهم منه الآيات بسهولة وبدون احتمال عناء في الإعراب والخلافات والإسرائيليات فلا نستطيع الجواب عن هذا السؤال.

إنَّ التفاسير التي بين أيدينا قيِّمة ونافعة، ولكن لا يَنتفع بها إلا خاصَّة الخاصَّة، ولهذا تعذَّر على أكثريَّة المتعلمين من المسلمين أن يتصلوا بمعاني القرآن الكريم، وأن يتعرَّفوا ما اشتمل عليه، والمقصود الأول من القرآن هداه ونوره وما جاء به.

ووضع هذا التفسير السهل الوافي بحاجات المسلم من هداية القرآن لا يتم عن طريق تشكيل اللجان واتخاذ الإجراءات الرسميَّة، لأنَّ أكثر ما يُعْهد إلى اللجان وتتخذ له الرسميَّات يموت في مَهْدِه ولا يظفر بالحياة، وإنما يتمُّ عن طريق تطوع خمسة عشر من خيرة العلماء ذوي الأفق العقلي الواسع، وذوي البصيرة بالدين والدنيا، يتبرَّع كلُّ واحد منهم ابتغاء مَرْضاة الله سبحانه وخدمة للقرآن والمسلمين بتفسير جزءين من القرآن تفسيراً يجعل مَعَاني القرآن وهداه في مُتناول العقول والبصائر.

وثاني ما يجب علينا في خدمة القرآن: أن تجمع الآيات كل موضوع واحد بعضها مع بعض، فنجمع آيات الأحكام المدنيَّة بعضها مع بعض، وكذا آيات الأحكام الجنائيَّة، وآيات الإرث، وآيات الطلاق، وآيات الأحكام الدوليَّة، وآيات التوحيد، وآيات القدرة، وآيات الأخلاق، وآيات القصص، وذلك لأنَّ آيات القرآن مُرتَّبة في سورها ترتيباً توقيفياً لم نصلْ حتى الآن إلى معرفة حكمته، وآيات الموضوع الواحد مُفرَّقة في عِدَّة سور، ومن العسير على المسلم أن يقف على ما جاء به القرآن في موضوع واحد ليعرف ما قرَّره القانون الأساسي في هذا الموضوع.

فالواجب أن نجمع آيات كل فرع من فروع القانون بعضها مع بعض، ونقدم للمسلمين القانون المدني في القرآن، والقانوني الجنائي في القرآن، والقانون الدولي في القرآن... وهكذا.

إننا إذا وُفِّقنا إلى هذا العمل الجليل، وفسَّرنا آيات الموضوع الواحد بعضها مع بعض، استطعنا أن نفهم الروح القرآنيَّة في كل موضوع، واستطعنا أن ندرك الحكمة في تفصيل القرآن بعض الأحكام، وإجماله بعضها، واستطعنا أن نعرف المبادئ القرآنيَّة الكليَّة في كل موضوع، واستطعنا أن ندرك سبيل القرآن في إثبات العقيدة ومحاجَّة المنكرين.

إنَّ كثيراً من أساتذة الجامعات في مصر الذين يدرسون المدني والجنائي والاقتصاد والدولي العام، يهمهم أن يعرفوا ما جاء بالقرآن في موضوع دراستهم، ليوازنوا ويُقارنوا، ولكنهم لا يتاح لهم هذا، حتى أصبح كثير منهم لا يظن أنَّ في القرآن أحكاماً دوليَّة أو اقتصادية.

فمن الواجب أن نؤدِّي هذه الخدمة، وأن نكوِّن من آيات الموضوع الواحد مجموعة واحدة، وأن نفسِّر آياتِ كلِّ مجموعة ونستخلص روحها ومعقولها، ونظهر نورها ليهتدي به المسلمون، ولنعرف الأحكام الوضعيَّة الخارجة عن حدود القرآن، والتي لا تخرج عن حدوده.

وهذا العمل الجليل مَيْسور، وزاده يسراً المعجم المفهرس للقرآن، فبواسطة هذا المعجم نستطيع أن نعرف كلَّ آيات القرآن التي ورد فيها البيع أو الرهن أو الدين أو الإجارة أو الطلاق أو الإرث أو غير هذا، وبهذا نستطيع أن نجمع آيات كل موضوع بعضها مع بعض، ونرتبها ونفسرها، ونستخلص منها هدى القرآن، ولقد جربت هذا عملاً، وجمعت آيات الأحكام المدنية، ونكون منها القانون المدني في القرآن.

وثالث ما يجب علينا: أن نجمع محرَّمات القرآن ونبيِّن حكمة تحريم كلِّ محرم منها تبييناً تتقبَّله العقول، ويحمل على الإذعان والامتثال أنَّ الله سبحانه خلق للناس ما في الأرض جميعاً، وسخَّر لهم ما في السموات وما في الأرض، والله سبحانه لا يخلق للناس ما في الأرض جميعه ثم يحرم عليهم بعضه إلا لحكمة، ولهذا قرَّر الأصوليون أنَّ الأصل في الأشياء الإباحة، فالأصل أنَّه يباح للإنسان كل حيوان أو نبات أو جماد، وكل عقد أو تصرف أو مُعاملة، فما ورد في القرآن من تحريم أكل بعض المأكولات، أو تحريم بعض التصرُّفات، أو تحريم زواج بعض النساء، فلابدَّ أن يكون لحكمة.

ومن الواجب أن نجمع للمسلمين محرَّمات القرآن، ونبيِّن الحكمة في تحريم كلِّ محرَّم منها ليتبيَّن للمسلم أنَّ الله تعالى أراد به الخير لا الشر، واليسر لا العسر.

إنَّ كلَّ ما حرَّم الله تعالى أكله مرجعه إلى دفع الضرر عن بدن المسلم أو دينه أو عقله.

وإنَّ كل تصرف مالي حرَّمه الله تعالى لابدَّ أن يكون فيه دفع الضرر والظلم وأكل مال الناس بالباطل، وكل مُعاملة ماليَّة ليس فيها إضرار بأحد المتعاملين ولا بغيرهما، وليس فيها ظلم ولا أكل مال بالباطل فالله سبحانه أعدل وأحكم من أن يحرِّمها على المسلمين.

فالواجب علينا أن نجمع محرَّمات القرآن ، ونبيِّن المراد من كل محرَّم منها، ونبيِّن حكمة الله تعالى في تحريمه، وبهذا ندفع عن الإسلام شبهات المبطلين، ويزداد المؤمنون إيماناً بحكمة دينهم، ونعمة الله عليهم.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 

المصدر: (مجلة لواء الإسلام، العدد الرابع، المجلد الخامس، ذو الحجة 1370 سبتمبر 1951).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين