وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين

ألقيت هذه الخطبة في شهر صفر من عام 1393 في جامع أبي ذر في حلب

{الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِم يَعْدِلُون (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُون (2) وَهُوَ اللّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُون(3)}[الأنعام]

وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ، وأشهدُ أنَّ سيدَنا محمداً عبدُهُ ورسولُهُ، اللهمَّ صلِّ وسلمْ وباركْ على سيدِنا محمدٍ، خيرِ منْ خطبَ ووعظَ وذكرَ، وعلى آلِه وأصحابِه والتابعينَ، أفضلِ منْ استجابَ واهتدى، وارعوى وتذكرَ.

وبعدُ أيُّها المسلمونَ: قالَ اللهُ تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِين}[الذاريات:55]

اعلموا أيُّها المسلمون:

إنَّ الإيمانَ باللهِ تعالى طبيعةُ الناسِ وفطرتُهم؛ لأنَّه تستدعيهِ قضيةُ خلقِهم ووجودِهم، وتقتضيهِ ظواهرُ رزقِهم وحياتِهم، ومماتِهم: {قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُون}[يونس:31]

ولا يحولُ بينَ الناسِ وبينَ هدى اللهِ سوى عواملُ التأثرِ بالبيئةِ والوسطِ، وتقليدُ أهلِ الضلالِ، والزيغِ والشططِ، وإنَّما تعالجُ هذهِ العواملُ بالوعظِ والتذكيرِ، منْ أجلِ ذلكَ بعثَ اللهُ تعالى النبيينَ مبشرينَ ومنذرينَ، وأوصى المصلحينَ والمرشدينَ بما أوصى بهِ النبيينَ، ولقدْ بعثَ اللهُ تعالى نبيَّنا صلى الله عليه وسلم على فترةٍ منْ الرسلِ، وجعلَ دينَه خاتمَ الأديانِ، وأمرَه أنْ يدأبَ على تذكيرِ قومِه بمولاهم، وألا يعبأَ بإعراضِهم وأذاهم، فإنَّما عليهِ البلاغُ، وعلى اللهِ هداهم، فربَّ مكذبٍ كررَ عليهِ النصحُ فغدا مصدقاً، وربَّ مرتابٍ ذُكرَ فانزاحَت عنْه الشكوكُ، وصارَ مؤمناً، وربَّ مطمئنٍ ازدادَ بالوعظِ اطمئناناً، وكمْ منْ مؤمنٍ تليَت عليهِ آياتُ اللهِ فزادَتْه إيماناً!

على هذا النهجِ الرشيدِ سارَ المصطفى صلى الله عليه وسلم فنجحَت دعوتُه، وكثرَ أتباعُه وشيعتُه، فإذا الذي كانَ بالأمسِ عدواً لهذا الدينِ، وخصماً لرسولِه الكريمِ صلى الله عليه وسلم، قدْ أصبحَ ظهيراً ومعيناً، وغدا له ولياً حميماً، يحدثُنا التاريخُ، أنَّ عمرَ بنَ الخطابِ رضي الله عنه كانَ مستعصياً على الإسلامِ، فما زالَ المصطفى صلى الله عليه وسلم يدعوهُ ويدعو له حتى هداهُ اللهُ فأسلمَ، وأعزَّ اللهُ بهِ الدينَ، وأيدَ بإسلامِه المسلمينَ.

قالَ عبدُ اللهِ بنُ مسعودٍ رضي الله عنه: كانَ إسلامُ عمرَ رضي الله عنه عزاً، وهجرتُه نصراً، وإمارتُه رحمةً، واللهِ ما استطعْنا أنْ نصليَ حولَ البيتِ ظاهرينَ، حتى أسلمَ عمرُ رضي الله عنه.

وهذا خالدُ بنِ الوليدِ رضي الله عنه بطلُ الإسلامِ وسيفُ اللهِ، ويتذكرُ فتنفعُه الذكرى، ويقولُ في جمعٍ منْ قريشٍ: لقدْ استبانَ لكلِّ ذي عقلٍ أنَّ محمداً صلى الله عليه وسلم ليسَ بساحرٍ ولا شاعرٍ، وأنَّ كلامَه منْ كلامِ ربِّ العالمينَ، فحقَّ على كلِّ ذي لبٍّ أنْ يتبعَه.

ثمَّ هوَ بعدُ يرى في مقدمةِ صفوفِ المسلمينَ، يناضلُ عنْ الإسلامِ وينافحُ، ويقاتلُ ويكافحُ.

يحدثنا عمرو بنُ العاصِ رضي الله عنه عنْ حالِهِ قبلَ الإسلامِ وحالِه بعدَه، فيقولُ: (لَقَدْ رَأَيْتُنِي وَمَا أَحَدٌ أَشَدَّ بُغْضًا لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنِّي، وَلا أَحَبَّ إِلَيَّ أَنْ أَكُونَ قَدِ اسْتَمْكَنْتُ مِنْهُ فَقَتَلْتُهُ، فَلَوْ مُتُّ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ لَكُنْتُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَلَمَّا جَعَلَ اللَّهُ الإِسْلامَ فِي قَلْبِي.. مَا كَانَ أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَلا أَجَلَّ فِي عَيْنِي مِنْهُ، وَمَا كُنْتُ أُطِيقُ أَنْ أَمْلأَ عَيْنَيَّ مِنْهُ إِجْلالاً لَهُ، وَلَوْ سُئِلْتُ أَنْ أَصِفَهُ مَا أَطَقْتُ؛ لأَنِّي لَمْ أَكُنْ أَمْلأُ عَيْنَيَّ مِنْهُ) رواه مسلم في كتاب الإيمان 173.

أيُّها المسلمون! لولا التذكيرُ ما رأينا هؤلاءِ الأبطالَ وغيرَهم، يرفعونَ رايةَ الإسلامِ، وما أسلمَ هؤلاءِ كرهاً، وإنَّما أسلموا حينَما تذوّقوا لذةَ الإيمانِ، وتنسموا عرفَ الدعوةِ إلى الحقِّ، واستلَّ التذكيرُ منْ نفوسِهم غرورَ التعبِ للباطلِ.

ولقدْ قامَ سلفُنا الصالحُ بواجبِ التذكيرِ والإرشادِ، محاربةً لما يستحدثُ منْ صنوفِ المعاصي والسيئاتِ، وما يبتدعُ منْ دواعي المنْكراتِ، وذلكَ حقُّ الدينِ في عنقِ أبنائِه، وواجبُ الحقِّ على أوليائِه، فليذكروا بهِ العالمينَ، وليدعوا إلى رحابِه المعرضينَ.

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنَ الأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ لا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا) رواه مسلم في كتاب العلم 4831، عن أبي هريرة رضي الله عنه.

فاتقوا اللهَ أيُّها المسلمون! واذكروا قولَ ربِّكم عزَّ وجلَّ: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون}[آل عمران:104].

الخطبةُ الثانيةُ

الحمدُ للهِ الغنيِّ عنْ عبادِه، الحفيِّ بأهلِ طاعتِه وودادِه، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ، وأشهدُ أنَّ سيدَنا محمداً عبدُهُ ورسولُهُ، اللهمَّ صلِّ وسلمْ وباركْ على سيدِنا محمدٍ، الحريصِ على هدى أمتِه، وعلى آلِه وأصحابِه والتابعينَ، العاملينَ بشرعِه، المستجيبينَ لدعوتِه.

أما بعدُ عبادَ الله: أنتم اليومَ في زمانٍ فشَت فيهِ المنْكراتُ، وعمَّت الجهالاتُ، وقلَّ في الناسِ، منْ يستبينُ الرشدَ، ويفرقُ بينَ الحقِّ والباطلِ، ولا بينَ الحلالِ والحرامِ.

بلْ خرجَ كثيرٌ منْهم منْ حظيرةِ الإيمانِ، ووقعوا في هوةِ الشكِّ والكفرِ، والزيغِ والإلحادِ.

فمنْ أنكرَ فرضيةَ ركنٍ منْ أركانِ الدينِ، أو استحلَّ محرماً حرمةَ الدينِ، أو استهزأَ بسنةٍ منْ سننِ الإسلامِ، أو أدبٍ منْ أدبَنا بهِ النبيُّ عليهِ الصلاةُ والسلامُ، فقدْ كفرَ والعياذُ باللهِ.

فاحفظوا أنفسَكم منْ ذلكَ أولاً، ثمَّ احفظوا منْه رعيتَكم منْ أهلٍ وأولادٍ، ثمَّ كونوا دعاةً للناسِ إلى الحقِّ، أنقذوهم منْ هذهِ الهوةِ السحيقةِ التي وقعوا فيها، ذكروهم باللهِ تعالى مرةً بعدَ مرةٍ، ذكروهم باليومِ الآخرِ، وبالجنةِ والنارِ.

إنَّ المؤمنَ الحقَّ، إذا رأى على أخيهِ المؤمنِ، قذاةً أو غباراً أزاحَه عنْه، ولمْ يتأتِ منْ مروءتِه أنْ يدعَه عليهِ، أو يتعامى عنْه، فكيفَ بهِ إذا رآهُ على معصيةِ اللهِ، متعرضاً لسخطِ اللهِ وعذابِ اللهِ؟!

فاتقوا اللهَ عبادَ اللهِ! وأحيوا واجبَ الأمرِ بالمعروفِ والنهيِّ عنْ المنْكرِ، واحملوا لواءَ النصيحةِ، ولا تقصروا فتأثموا، واستعينوا على أنفسِكم بذكرِ ربِّكم عزَّ وجلَّ، والصلاةِ على نبيِّكم صلى الله عليه وسلم.

اللهمَّ صلِّ وسلمْ وباركْ على سيدِنا محمدٍ، النبيِّ الناصحِ الرؤوفِ بأمتِه الرحيمِ بها.

وارضَ اللهمَّ عنْ ساداتِنا الخلفاءِ الراشدينَ، الهادينَ المهديينَ، ذوي النهج السويِّ السنيِّ، والقدرِ العليِّ: سيدِنا أبي بكرٍ، وسيدِنا عمرَ، وسيدِنا عثمانَ، وسيدِنا عليٍ. وعلى آلِه الطاهرينَ، وسائرِ الصحابةِ والتابعينَ، والأئمةِ الأعلامِ دعاةِ الحقِ وحماةِ الإسلامِ وألحقْنا بهم، واجعلنا منْ حزبِهم، يا ربَّ العالمينَ.. اللهمَّ أيدْ الإسلامَ والمسلمينَ.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين