وليتك ترضى والأنام غضابُ

 

عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " أَحِبُّوا اللَّهَ لِمَا يَغْذُوكُمْ بِهِ مِنْ نِعَمِهِ ، وَأَحِبُّونِي لِحُبِّ اللَّهِ ، وَأَحِبُّوا أَهْلَ بَيْتِي لِحُبِّي " [رواه الترمذي والحاكم والطبراني].

 

في هذا العالم المضطرب في توازنه، والمتلاطم في تعامله، في فضاءاتِ فَيافِيهِ المُقفِرَة، وميادين صَحَاريهِ الموحشة، وتَلَقِّي أخبارِهِ المؤسفة، وأنباء ضحاياهُ المفجعة.. يَحسُنُ بالمؤمنين الرّكونُ إلى دوحةٍ يَستَروِحُون فيها نسمات الحب، وسعادة القرب، وندَاوَةَ الوصل، وإشراقةَ النور.

 

وهاكُم نداءُ الحبيب المصطفى والرسول المجتبَى رحمة العالمين، يدعو فيه المؤمنين إلى المبادرة نحو هذا النوال، والمسارعة إلى تفيُّئ هاتيك الظلال، والارتشاف من ذاكم الشراب، شراب الوصل وسقيا الحب.

 

وما ذاك إلا لعمق الإيمان، ومَكِين اليقين، بأن الله تبارك وتعالى هو المنعم المنان، واهب العطايا، ومسبغ النعم، (وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ) [النحل: 53]، فحبه مرتبطٌ بإقامة شريعته، والاصطباغ بمنهجه، والاطلاع بالأمانة التي عرضها على المكونات فحملها الإنسان تشريفا من الله له، (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ) [الأحزاب: 72].

 

إذن..

محبة الله تعالى أنوار تفيض في القلب، وإشراقات تنساح في المشاعر، وخَلَجَاتٌ تضطرب في الأحاسيس، يحس بها الواصلون، ويدركها الواقفون في عتبات الحضرة الربانية، ويغردون مع إمامة الحب "رابعة العدوية" رحمها الله:

 

فليتُكَ تحلو والحياةُ مريرةٌ *** وليتكَ ترضى والأنامُ غِضابُ

وليتَ الذي بيني وبينكَ عامرٌ *** وبيني وبينَ العالمينَ خرابُ

إذا صحَّ منكَ الودُ فالكلُ هينٌ *** وكلَ الذي فوقَ الترابِ ترابُ

 

من خلال ذلك تنشأ محبة حبيب الله رحمة العالمين، سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، حيث هو الكمال الإنساني المطلق، صاحب الخَلْق الأتم، والخُلُق الأكمل، (وإنك لعلى خُلُقٍ عظيم) [القلم].

لذا فالقرآن الكريم يوجه محذرا:

 

(قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى? يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) [التوبة: 24].

 

ويأمر مُذَكرًا:

(قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [آل عمران:31].

 

ولمّا كان النبي صلى الله عليه وسلم أُسوَتَنَا في التطبيق، وإمامَنا في العمل، وصراطنا إلى الله تعالى، (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى? صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) [الشورى: 52] .. كانت محبته لِزامًا على كل مسلم، ويلزم من محبته محبة آل بيته الأطهار، أصحاب النسب المُؤَثَّل، والأصل المُطَهَّر.

 

فما أحوجنا إلى اللواذ بهذا الحصن المكين، والسعي تجاه هذه الدوحة، نقطف من ثمارها، ونرتشف من مائها، ونتنسم عبيرها، ثم ننطلق إلى المجتمع الإنساني المنهَك، دعاة هداية وحَمَلَةَ إصلاح، فرحين بفضل الله، (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) [يونس: 58].

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين