الشباب في عصر النبوة

 

كلُّ النهضات على اختلاف أنواعها من سياسيَّة إلى علميَّة إلى اجتماعيَّة، تحتاج إلى شجاعة وإقدام وتضحية واندفاع وصبر وعزم ومجالدة وحزم، وهذه الخلال قلَّما توجد في غير الشباب.

 لأنَّ الإقدام وما إليه لا يكون إلا حيث الفكر السريع، والرأي اللمَّاح والذهن الوثَّاب، والعزم الماضي، وهذه إنما هي خصائص الشباب.

قال علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، من أطال الفكرة في العواقب لم يَشجُع.

ومَن غير الشباب يستهين بالعذاب، ويستسهل الصعاب، وتحلو له المغامرات، ويندفع في الملِمَّات، غير مرتقب لجزاء ولا منتظر لأجر. فالشباب متى صمَّم على نيل مأرب اقتحم كل عقبة، وضحَّى بأعز ما يملك.

أما الشيخ فيحسُب لكل شيء حساباً فلا يضحِّي بماله خشية الفقر يَنتظر أولاده، ولا يتحمَّل شظف العيش والتشريد والتطويح؛ لأنَّ جسمه لا يقوى على التحمل، ولا يخاطر بالحياة لأنَّ الشيخوخة تجعله أحرصَ الناس عليها، ولا يَميل إلى التطور والتحول والانقلاب والتجديد لأنَّه إنما يعيش في ذكريات الماضي، قلَّ أن ينعم بالأماني، أو يطرب بنغمات الآمال أو يهشَّ ببريق المستقبل الحلو والحياة الباسمة.

لذلك كنا نرى الشباب في النهضات هم حملة مشاعلها الوهَّاجة، ومن أفئدتهم جذوتها الوقادة، يغذونها بأجسامهم الغضَّة، وينفخون فيها بأرواحهم الطاهرة، ويذكونها بآمالهم الواسعة، فهم الجنود البواسل لقيادة توضع في يد الكهول، وهم الأسلحة الماضية للرأي يصدر على حكمة الشيوخ.

فالشبان جنود النهضات والكهول قادتها ومدبري أمرها.

أما عصر النبوَّة فقد كان خَصْباً بالشباب يموج بالفتوَّة، ويذخر بالشبيبة، كيف لا وزعيمهم صلى الله عليه وسلم بطل في صورة رسول، وشاب في ثياب كهل. بطل لا كالأبطال، بطل خلق شعباً، وكوَّن أمة، ونشر ديناً وأقام دولة، وبنى حضارة، وقاد جيوشاً، وخاض غمرات، ودبَّر غزوات، وأنشأ جيلاً، وربى رجالاً.

على رأس الأربعين ذروة الشباب، حين تكتمل المواهب، وتنضج المدارك وتستوي القوى، بُعث محمد صلى الله عليه وسلم رسولاً، وما جعله الله رسولاً بشراً يأكل الطعام ويمشي في الأسواق إلا لينفذ في ذلك إرادته في انبعاث الإنسان الكامل الذي يكون مثلاً واقعياً أعلى للإنسانية في أشرف منازعها وأخلص سرائرها.

نشأ صلى الله عليه وسلم يتيماً مرزَّأً وشبَّ راعياً صغيراً ثم تاجراً أجيراً، لكنه لم يقس نفسه بغناه ولم يحدد أمله بثروته، ولم يزن طموحه بما في خزائنه، أو بما خلَّف أبوه، أو بما ملكت عشيرته، بل كانت نفسه التي بين جنبيه لا تسعها الدنيا بحذافيرها ولا تشغلها الحياة بزينتها وزخرفها إنما كانت نفسه مُستغرقة بما هي فيه من فيوضات، مُتهيئة للقيام بما من أجله خُلقت من عبادات، وأداء ما فرض عليها من أمانات، في اطمئنان وعزم، وثبات وحزم، وشجاعة وجَلَد، وجهاد وكبَد، وهو صلى الله عليه وسلم في ذلك يختط للشباب خير سنن في الحياة، ويضرب لهم أعلى المثل في الرجولة.

فقد رَبَّى صلى الله عليه وسلم جيلين فمن الطفولة إلى الشباب، ومن الشباب إلى الشيخوخة، وأبدى صلى الله عليه وسلم في تربيته هذه قُدرة خارقة، فقد ساير الطبيعة الإنسانية مُسايرة حكيمة، وزاوج بين الميول والأحاسيس مراعياً في ذلك نظام الطبائع، متخذاً سبيل الوسط في طريق سائغة لا تصادم الأمزجة ولا تعاكس الفطر.

ولكن متى يبدأ سن الشباب ومتى ينتهي؟ فلنستفْتِ اللغة وعلم الحياة أولاً ثم نهتدي بهدي الرسول صلوات الله عليه ثانياً.

فإذا استفتينا اللغة وسألناها عن الشباب وأصله، أجابتنا أنَّ أصل مادة الشباب: (الارتفاع من كل شيء)، يقال شبَّ النار: رفعها وأوقدها فتلألأت ضياءً ونوراً، وشبَّ الفرس يشب: رفع يديه جميعاً كأنه ينزو ويلعب، وأشببته أنا: إذا هيَّجته، ومن صفة الارتفاع قبل شبَّ الصبي يشبُّ شباباً، وشببته فهو شاب.

وأما سرُّ ذلك ومنبعه فهو الغُدد الصمَّاء، والغدد الصمَّاء في الجسم الإنساني عشر تتفق في الذكر والأنثى في الأغلبية، فما دامت هذه الغدد تقوم في وظيفتها على الوجه الأكمل فالشباب شباب، وكلما اختلَّت وظيفتها بتقدُّم في السن أو خلل في الجسم نقص الشباب شيئاً فشيئاً حتى تغيب شمسه وتغرب نجمه.

وللوراثة دخل كبير في تكوين هذه الغُدد وتأثيرها.

وشباب الإناث يبتدئ مبكراً قليلاً عن شباب الذكور، وينتهي كذلك مبكراً لأن غددهم الصم تنتبه مبكرة في سن الرابعة عشر، في المتوسط، ثم يبتدئ شبابهن في الهبوط حوالي الثلاثين.

 ولذلك قال أبو حنيفة بإدراك الشباب سنَّ المسؤولية والتكاليف إذا أتمَّ ثماني عشر سنة، وتبلغ الفتاة ذلك إذا أتمَّت سبعة عشرة.

أما الذكور فيبتدئ شبابهم حوالي الخامسة عشرة، ثم يبتدئ في الرجولة حوالي الخامسة والثلاثين، وقد يستمرُّ شبابهم طويلاً بعد ذلك إلى الخامسة والأربعين.

أما هديه صلوات الله عليه في ذلك، فما كان يَسمح للشباب في اقتحام الأهوال وركوب الأخطار قبل بلوغهم الخامسة عشرة من عمرهم.

فقد ثبت في صحيح البخاري عن البراء رضي الله عنه قال: استصغرتُ أنا وابن عمر رضي الله عنهما يوم بدر، ثم استصغر ابن عمر رضي الله عنهما أيضاً يوم أحد؛ لأنَّ سِنَّه ما زالت أقل من خمسة عشر سنة، وحيث كان في بدر ثلاثة عشر.

فقد ورد في البخاري عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم عرضه يوم أحد وهو ابن أربعة عشر سنة، فلم يجزه وعرضه يوم الخندق وهو ابن خمسة عشر سنة فأجازه.

قال ابن العربي في كتاب الأحكام: وقضى بذلك عمر بن عبد العزيز واختاره الشافعي وغيره دليلاً على بلوغ الفتى مبلغ الرجولة والمسؤولية. 

وكذلك ردَّ صلى الله عليه وسلم نفراً غيرهما من الصحابة في مواقف مختلفة، ردهم لأنهم لم يبلغوا الخامسة عشرة، إلا فئة قليلة كان لها من الإقدام والصبر على المكاره وقوة الاحتمال ما جعل النبي صلى الله عليه وسلم يتجاوز معها عن هذه السن.

ولقد صرف الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الشباب وجهه، يتخذ منهم عماده في نشر دعوته، وحماية رسالته، من جهاد وعلم وقضاء، وكان لهم في نفسه صلى الله عليه وسلم من المكانة ما رفع من أقدارهم، وبوَّأهم أشرف ما يَصْبون إليه من الكرامة والسؤدد، والجاه العريض، فكان يستشيرهم في كل أمر، ويحترم آراءهم في كل مُلِمَّة، وكان يقبل أعذارهم ويغفر لهم نزواتهم، ويخفِّض من حِدَّتِهم، وينظِّم من حماستهم، ويسوي بينه وبينهم، بل ربما آثرهم بما لم يؤثر به نفسه ليكون لهم منه قدوة حسنة، ولصفوفهم منه إمام وزعيم.

كان الرعيل الأول من أتباعه صلى الله عليه وسلم عندما صدع بأمر ربه وجهر بالدعوة إلى دينه هم المستضعفين والفقراء المعوزين، إلا قليلاً من ذوي الجاه والثروة، وتلك سنة جميع المصلحين والدعاة والمرشدين، فلاقى صلوات الله عليه من الأذى ما لاقى، ولم يكن أصحابه بمنجاة من ذلك الاضطهاد، ولا بنجوة عن ذلك الابتلاء، وكان أكبر نصيب من ذلك نصيب الشباب، وأفر حظاً حظ الأحداث والفتيان، والقرآن من ورائهم يصرخ فيهم بمثُله العليا ويضرب لهم الأمثال بسنَّتِه السامية، ويرشدهم إلى العِزَّة الباقية، ويدعوهم إلى احتقار اللحظات الفانية والعمل للحياة الباقية، فيستعْذِبُون الألمَ في الكفاح عن كلمة الله تعالى، ويستمرئون العذاب في سبيل حماية دين الله سبحانه، قال تعالى: [وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ القَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ] {آل عمران:139-140}.

روى البخاري عن خبَّاب ابن الأرتِّ رضي الله عنه قال: (شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مُتوسِّدٌ بردة له في ظل الكعبة، قلنا: يا رسول الله، ألا تستنصر لنا من الله عز وجل، ألا تدعو الله لنا؟ قال عليه الصلاة والسلام: كان الرجل فيمن قبلكم، يحفر له في الأرض، فيجعل فيه، فيُجَاء بالمنشار فيوضع على رأسه، فيشقُّ باثنتين، وما يصده ذلك عن دينه، ويمشَّط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب وما يصده ذلك عن دينه. والله ليَتِمَّنَّ هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضر موت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه).

من صور إيذاء الشباب من أصحابه ما وقع لعبد الله بن مسعود رضي الله عنه وقد كان شاباً عمره أقل من عشرين سنة، حين ذاك. اجتمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فقالوا: والله ما سَمِعَت قريش القرآن جهراً من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن منكم يُسمعهم القرآن جهراً؟ فقال عبد الله بن مسعود: أنا. فقالوا: يُخشى عليك منهم، إنما نريد رجلاً له عشيرة يَمْنعونه من القوم، فقال: دعوني فإنَّ الله سيمنعني منهم ثم إنه قام عند المقام عند طلوع الشمس وقريش في أنديتهم فقال: بسم الله الرحمن الرحيم رافعاً صوته [الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ القُرْآَنَ] {الرَّحمن:1 - 2} واستمرَّ فيها. فقال المشركون: ما بال ابن أم عبد؟ فقال بعضهم: يتلو ما جاء به محمد. ثم قاموا إليه يضربون وجهه وهو مستمر في قراءتها حتى قرأ غالب السورة، ثم انصرف إلى أصحابه وقد أدمت قريش وجهه، فقال له أصحابه: هذا الذي خَشينا عليك منه، فقال: والله ما رأيت أعداء الله أهون عليَّ مثل اليوم! ولو شئتم لأتيتهم بمثلها غداً قالوا: لا، قد أسمعتَهم ما يَكْرهون.

وقد كان يُعرض على الشباب من هؤلاء المعَذَّبين وسائل الأمن، وتتاح له سبل السلامة، فتأنفها نفسه ما دام صحبه غير سالمين، ويأبى إلا العذاب، والألم مُشاركة لأصحابه ومساواة بهم ومواساة لهم.

 من ذلك أنَّه لما رجع المهاجرون إلى مكة من الهجرة الثانية إلى الحبشة لقوا من المشركين أشدَّ ما عهدوا، ولم يستطع بعضهم أن يدخلها إلا بجوار مجير فكان ممن دخل مكة بجوارٍ، عثمان بن مظعون رضي الله عنه، دخل في دار الوليد بن المغيرة، ولما رأى ما يُفعل بالمسلمين من الأذى، قال: والله إن غدوِّي ورواحي آمناً بجوار رجلاً من أهل الشرك، وأصحابي وأهل ديني يلقون من الأذى في الله ما لا يصيبني لنقص كبير!، فردَّ إلى الوليد جواره.

قال عمر رضي الله عنه حين أسلم إلى النبي صلى الله عليه وسلم: والذي بعثك بالحق نبياً لا يبقى مجلس جلست فيه بالكفر إلا جلست فيه بالإيمان!، وكان عمر أراد أن يُظهر إسلامه، وأن يصيبه ما أصاب من أسلم من الضرر والإهانة، فاجتمع الناسُ عليه وما زالوا يضربونه ويضربهم حتى أجاره خاله أبو جهل وحماه من أذى قريش: قال عمر: فصرت بعد ذلك أرى الواحد من المسلمين يُضرب وأنا لا أضرب، فقلت: ما هذا بشيء حتى يصيبني ما يصيب المسلمين، فأمهلت حتى جلس الناس في الحِجَر وصلت إلى خالي وقلت له: جوارك عليك رد فقال: لا تفعل يا ابن أختي. فقلت: بل هو ذاك، فما زلت أُضرب وأَضرب حتى أعزَّ الله الإسلام.

لم يكن ما لاقاه الشباب من العذاب مقصوراً على الألم المادي، بل هناك ألم نفسي ومحاربة وجدانيَّة، لولا قوة اليقين وحَرارة الإيمان لضعفت نفوسهم وارتدوا عن دينهم الجديد إلى شركهم.

أسلم سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وكان عمره تسع عشرة سنة، فكرهت أمُّه إسلامَه، وكان باراً بها، فقالت له: ألستَ تزعم أنَّ الله يأمرك بصلة الرحم وبرِّ الوالدين؟ قال: نعم. فقالت: والله لا أكلتُ طعاماً ولا شربت شراباً حتى تكفر بما جاء به محمد!. فكانوا يفتحون فاها ثم يلقون فيه الطعام والشراب، فأنزل الله تعالى: [وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا] {العنكبوت:8}. فقال لها سعد: تعلمين يا أمه لو كان لك مئة نفس تخرج نفساً نفساً ما تركت دين هذا النبي، فكلي إن شئت أو لا تأكلي! فلما رأت ذلك أكلت.

والقرآن الكريم يضع المثل الأعلى للتضحية ويبين الحدود الواضحة للحب فقال تعالى: [قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لَا يَهْدِي القَوْمَ الفَاسِقِينَ] {التوبة:24}.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 

المصدر: (مجلة لواء الإسلام العدد السادس من السنة الأولى 1367 – 1947).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين