حدث في العاشر من ذي الحجة

 

في العاشر من ذي الحجة من عام 138 دخل قرطبة عبد الرحمن الداخل منهياً حكم الولاة في الأندلس ومؤسساً فيها لحكم الدولة الأموية الذي سيستمر قرابة 300 سنة إلى سنة 422، ولقب بالداخل لأنه دخل الأندلس، ولقَّبه منافسه العباسي أبو جعفر المنصور بصقر قريش إعجاباً منه بإقدامه وشجاعته.

 

ولد عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان في دير حَنيناء بالشام سنة 113، وكان والده معاوية أنبل أولاد هشام بن عبد الملك، جوادا غازيا ممدحا، ولي الغزو مرات، وتوفى في حياة أبيه سنة 119. أما أمه فهي بربرية من سبْي أفريقية واسمها راح، ولذا نشأ عبد الرحمن يتيماً في بيت الخلافة، ولما انهارت الدولة الأموية وقامت الدولة العباسية، أعطت بني أمية الأمان ثم ما لبثت أن تعقبتهم بالقتل فتشتتوا في البلاد خوفاً ، ومنهم عبد الرحمن الذي خرج بمن بقي حوله من أهله من دمشق إلى الرملة من أرض فلسطين، ولكن ذلك لم يمنعه من تعقب بني العباس الذين كانوا وراءه بالمرصاد، فهرب منهم إلى أن انتهى به المطاف لدى أخواله البربر قبيلة نفزة في المغرب الأوسط، وقد حكى عبد الرحمن قصة هربه فقال:

 

لما أُعطينا الأمان ثم نُكث بنا أتاني الخبر وكنت منتبذاً عن الناس، فرجعت إلى منزلي آيساً ونظرت فيما يصلحني وأهلي، وخرجت خائفاً حتى صرت إلى قرية على النهر ذات شجر وغياض، فبينا أنا ذات يوم فيها وولدي سليمان يلعب بين يدي، وهو يومئذ ابن أربع سنين، فخرج عني ثم دخل عليَّ باكياً فزعاً، فتعلق بي وجعلت أدفعه، وخرجت لأنظر فإذا بالخوف قد نزل بالقرية والرايات السود منحطة عليها، وأخٌ لي حَدَثٌ يقول لي: النجاة النجاة! فأخذت دنانير معي ونجوت بنفسي وأخي وأعلمت أخواتي بمقصدي وأمرتهن أن يُلحقنني مولاي بدراً.

 

وأحاطت الخيل بالقرية فلم يجدوا لي أثراً، فأتيت رجُلاً من معارفي وأمرته فاشترى لي دوابّ وما يصلحني فدلّ علينا عبدٌ له، فأقبلت خيل العامل تطلبني فخرجنا على أرجلنا والخيل تبصرنا، فدخلنا النهر فسبحنا فنجوت أنا، والخيل ينادون بالأمان وأنا لا أرجع، وأما أخي فإنه عجز عن السباحة في نصف النهر فرجع إليهم بالأمان، فقتلوه وأنا أنظر إليه وهو ابن ثلاث عشرة سنة فاحتملت ثُكله ومضيت وتواريت في غَيضة حتى انقطع الطلب عني.

 

وخرجت فقصدت المغرب فبلغت برقة في أفريقية، ثم ألحقتني أختي أم الأصبغ مولاي بدراً بنفقة وجوهر.

 

ولما بلغ أفريقية كان الوالي بها عبد الرحمن بن حبيب الفهري، وكان في الأصل عاملاً لآخر خلفاء بني أمية  مروان بن محمد، فظنّ عبد الرحمن الداخل أن ابن حبيب يرعاهم ويحوطهم ويحسن مجاورتهم، ولكن ابن حبيب طلب لنفسه السلامة، وأراد قتل عبد الرحمن ومن معه والتقرب بهم إلى أبي العباس السفاح، فهرب منه عبد الرحمن وتنقل في قبائل البربر، وأتى نفزة وهم أخواله فأحسنوا قبوله فيهم.

 

وكانت للأمويين ومواليهم شوكة لم تخضد في الأندلس، والنزاع بين المضرية واليمانية على أشده، قد فرق أهل الأندلس وجعل ريحهم شتى، فكاتب عبد الرحمن الأمويين من أهل الأندلس يعلمهم بمكانته من بني أمية قدومه ويدعوهم إلى نصرته، وأرسل بدراً مولاه إليهم، فأعلمهم حال عبد الرحمن ودعاهم إليه فأجابوه، واستمالوا اليمانية إليه، ووجّهوا إليه مركباً فيه بعض زعمائهم، فوصلوا إليه وأبلغوه طاعتهم، وأخذوه ورجعوا به إلى الأندلس فأرسى بالمركب بالجزيرة في شهر ربيع الأول سنة 138 في مكان يدعى المنقار شرقي مالقة Almuñécar، ويوجد فيه اليوم تمثال لعبد الرحمن الداخل ذكرى لدخوله للأندلس.

 

واستقبلت عبد الرحمن الداخل وفود أهل إشبيلية تبايعه، ثم انتقل إلى كورة ريّة فبايعه عاملها، ثم سار إلى إشبيلية فبايعه عاملها كذلك، وكان أمير الأندلس يومذاك يوسف بن عبد الرحمن الفِهْري المضري، ومقره قرطبة، وكان قد وليها قبل ذلك بنحو عشرة أعوام باتفاق الجماعة عقب معارك داخلية طاحنة، ولكن حكمه لم يتوج قط بالصبغة الشرعية، ولم تستكن الأندلس إلى حكمه، فتراسلا في الصلح، فخادعه عبد الرحمن وأظهر قبول الصلح، فبات الناس على ذلك ليلة العيد، وكان قد أسرَّ خلاف ما أظهر، واستعد للحرب، وعبر النهر في أصحابه، وهاجم قرطبة ليلة الأضحى، والتقيا في مكان يدعى المصارة، وصبر الفريقان حتى ارتفع النهار، وأسرع القتْل في أصحاب يوسف فانهزم، واستولى عبد الرحمن الداخل على قرطبة وكانت بداية الدولة الأموية.

 

وانهزم يوسف إلى مارِدة، وهي اليوم Merida شمالي غربي قرطبة،  تاركاً وراءه أهله وحشمه، وسلك معهم عبد الرحمن سلوك المنتصر النبيل، فقد أخرجهم من القصر على تؤدة ورفق، ودخله بعد ذلك، ومن حكمة عبد الرحمن الداخل أن أصحابه أنحوا على أصحاب الفهري بالقتل وهم مهزومين، فقال لهم: لا تستأصلوا شأفة أعداءٍ ترجون صداقتهم، واستبقوهم لأشد عداوةً منهم. يشير إلى استبقائهم ليستعان بهم على أعداء الدين.

 

وسار عبد الرحمن في طلب يوسف، فكرَّ يوسف راجعاً إلى قرطبة فدخلها وملك قصرها، وأخذ جميع أهله وماله، ولحق بمدينة إلْبيرة Elvira، وبلغت أخبار هذه الكرة إلى عبد الرحمن فعاد أدراجه إلى قرطبة فلم يجده، فسار إلى إلبيرة، وتراسلا في الصلح، فاصطلحا على أن ينزل يوسف هو ومن معه بأمانٍ وأن يسكن مع عبد الرحمن بقرطبة ويرهنه يوسف ابنه وسار يوسف مع عبد الرحمن إلى قرطبة فلما دخل يوسف قرطبة تمثل:

 

فبينا نسوس الناسَ والأمْر أمرُنا ... إذا نحن فيهم سُوقة تتنصّف

فتباً لدنيا لا يدوم نعيمها ... تقلَّب ساعات بنا وتصرف

 

ولم تصفُ الأمور لعبد الرحمن الداخل بل بقي يواجه تمرداً تلو الآخر، وفي سنة 141 تمرد أمير الأندلس السابق يوسف ين عبد الرحمن الفهري، وكان سبب ذلك أن عبد الرحمن ضايقه في أملاكه، ولم يحسن معاملته، فقصد يوسف مارِدة واجتمع عليه عشرون ألفاً فسار نحو بعض أمراء عبد الرحمن فهزموه، وبقيَ يوسف متردّداً في البلاد حتى قتله بعض أصحابه في شهر رجب سنة 142، وحُمل رأسه إلى عبد الرحمن الداخل فنصبه بقرطبة، وقتل ابنه عبد الرحمن بن يوسف الذي كان عنده رهينةً ونصب رأسه مع رأس أبيه، وأبقى على ابنه الأصغر أبي الأسود محمد بن يوسف الفهري سجيناً في حبسه.

 

وفي سنة 143 ثار رِزق بن النعمان الغَسَّاني وكان على الجزيرة الخضراء، معبر الأندلس من المغرب، فاجتمع إليه خلق كثير، ودخل مدينة إشبيلية، فعاجله عبد الرحمن بها وضيّق على مَنْ فيها، فتقربوا إليه بتسليمه له فقتله، وأمَّنهم ورجع عنهم.

 

وفي سنة 144 ثار هشام بن عذرة الفهري، وهو من بني عمِّ يوسف بن عبد الرحمن الفهري بطليطلة، فحاصره عبد الرحمن وشدّد عليه الحصار، فمال إلى الصلح، وأعطاه ابنه أفلحَ رهينةً فأخذه عبد الرحمن ورجع إلى قرطبة، ثم عاد هشام وخلع عبد الرحمن، فعاد إليه وحاصره ونصب المجانيق على طليطلة فلم تؤثر فيها لحصانتها فقَتَلَ ابنه أفلح ورمى برأسه إلى أبيه في المنجنيق، ورجع إلى قرطبة، ولم يظفر هذه السنة، ولكن عبد الرحمن عاود الكرة في سنة 147، فبعث مولاه برداً وتمام بن علقمة فحصرا طليطلة وضيّقا على هشام ثم أسراه هو وجماعة من كبار مناصريه، فأُتي بهم إلى عبد الرحمن بن معاوية فصلبهم بقرطبة!

 

ووصلت أخبار الدولة الفتية إلى أبي جعفر المنصور في بغداد، فأراد أن يحاول القضاء عليها فأرسل في سنة 146 العلاء بن مغيث اليحصُبي من أفريقية إلى مدينة باجة في الأندلس، فقام بالدعوة للدولة العباسية، وخطب لأبي جعفر المنصور، ولبس السواد ،واجتمع إليه خلْقٌ كثير، فخرج إليه عبد الرحمن الداخل فالتقيا بنواحي إشبيلية، فانهزم العلاء وأصحابه، وقُتل في المعركة سبعة آلاف فارس، وقُتل العلاء، فأمر عبد الرحمن بعض التجار بحمل رأسه ورؤوس أصحابه إلى القيروان وإلقائها بعضها في السوق سِراً ففعل ذلك، ثم حُمِلَ رأس العلاء إلى مكة ومعه كتاب كان المنصور قد كتبه إليه، فوصل والمنصور بمكة، فارتاع لذلك وقال: ما هذا إلا شيطان، والحمد لله الذي جعل بيننا وبينه البحر.

 

ولا بد هنا أن نشير إلى أن عبد الرحمن الداخل كان في أول أمره يخطب للمنصور، ثم قطع الخطبة له بعد عشرة أشهر بإصرار من ابن عمه عبد الملك بن عمر بن الوليد بن عبد الملك بن مروان، الذي ألزم عبد الرحمن بقطْع خطبة المنصور، وقال له: تقطعها وإلا قتلت نفسي!

 

وذُكِر أن أبا جعفر المنصور قال يوما لبعض جلسائه: أخبروني: من صقر قريش من الملوك؟ فقالوا مشيرين إليه: ذاك أمير المؤمنين الذي راض الملوك، وسكّن الزلازل، وأباد الأعداء، وحسم الأدواء! قال: ما قلتم شيئا! قالوا: فمعاوية؟ قال: لا! قالوا: فعبد الملك بن مروان؟ قال: ما قلتم شيئا! قالوا: يا أمير المؤمنين! فمن هو؟ قال: صقر قريش؛ عبد الرحمن بن معاوية، الذي عبر البحر، وقطع القفر، ودخل بلدا أعجميا، منفردا بنفسه؛ فمصَّر الأمصار، وجنّد الأجناد، ودون الدواوين، وأقام مُلكا عظيما بعد انقطاعه، بحسن تدبيره، وشدة شكيمته. إنّ معاوية نهض بمركب حمله عليه عمر وعثمان، وذللا له صعبه؛ وعبد الملك ببيعة أُبرِمَ عقدها؛ وأمير المؤمنين بطلب عشيرته، واجتماع شيعته، وعبد الرحمن منفرد بنفسه، مؤيد برأيه، مستصحب لعزمه، وطَّد الخلافة بالأندلس، وافتتح الثغور، وقتل المارقين، وأذل الجبابرة الثائرين! فقال الجميع: صدقت، والله، يا أمير المؤمنين!

 

وفي سنة 148 خرج سعيد اليحصبي بمدينة لبلة، فاجتمعت اليمانية إليه وقصد إشبيلية وتغلّب عليها وكثُر جمعه، فبادره عبد الرحمن في جموعه. فامتنع اليحصبي في إحدى القلاع، فحصره بها عبد الرحمن وضيق عليه، ومنع أنصاره من الوصول إليه، بأن سيّر إليهم بدْراً مولاه في جيشٍ فحال بينهم وبين إمداده، وطال الحصار وقلّت رجاله بالقتل، وفارقه بعضهم، فخرج يوماً من القلعة فقاتل فقُتل وحُمل رأسه إلى عبد الرحمن، فقدّم أهل القلعة عليهم خليفة بن مروان، فتابع عبد الرحمن حصارهم، حتى أرسلوا يطلبون الأمان على أن يسلموا إليه خليفة فأجابهم إلى ذلك، وتسلّم الحِصْن وخرّبه وقتل خليفة وخلْقاً كثيراً ممّن معه، ثم انتقل للقضاء على أنصار اليحصبي فقضى عليهم وشتت جموعهم.

 

وبعد هذه الانتصارات شعر عبد الرحمن أن الجبهة الداخلية قد استقامت أمورها استقامة تتيح له بسط نفوذه على المناطق غير المسلمة، فأرسل في سنة 149 مولاه بدراً على رأس جيش لغزو الأفرنج في بلادهم فعاد ظافراً وقد أخذ الجِزية منهم، وظن بعض الولاة والطامعين في الإمارة أن الفرصة قد سنحت لهم لغياب الجيش فخرج عليه منهما خارجان ولكن عبد الرحمن استطاع القضاء عليهما، وخشي عبد الرحمن إزاء تتابع المتمردين أن يضطر مرة للتقهقر والتحصن بقرطبة، ولم يكن لها سور يذكر، فأمر ببناء سور مدينة قرطبة.

 

وفي سنة 151 واجه عبد الرحمن الداخل تمرداً بربرياً، فقد خرج في شرق الأندلس بربري من بربر مكناسة اسمه شقنا بن عبد الواحد، وكان يعلّم الصبيان، وكانت أمّه تُدعى فاطمة فادّعى أنه من ولد فاطمة رضي الله تعالى عنها، وأنه من ولد الحسين، وتسمّى بعبد الله بن محمد، واجتمع عليه خلق كثير من البربر وعظُم أمرُهُ، فسار إليه عبد الرحمن فلم يقف له واتبع معه سياسة الكر والفر، فكان إذا أمن انبسط وإذا خاف صعد الجبال حيث يصعُب طلبه، وأرسل عبد الرحمن إليه أحد قواده فقتله شقنا، وغلب شقنا على ناحيته وأفسد في الأرض، فعاد عبد الرحمن وهاجمه بنفسه في سنة 152، فلم يثبت له شقنا، فأعياه أمره فعاد عنه، وسير إليه في سنة 153 بدراً مولاه، فهرب شقنا، ثم غزاه عبد الرحمن بنفسه في سنة 154 فلم يثبت له، فعاد عنه، ولم يزل شقنا كذلك وعبد الرحمن يغزوه تارة بنفسه وتارة بجيوشه إلى سنة 160، حين اغتاله اثنان من أصحابه، وأخذا رأسه ولحقا بعبد الرحمن الداخل.

 

وفي أثناء هذه الأحداث استغل أهل إشبيلية انشغال عبد الرحمن بحرب شقنا، فخرجوا عن الطاعة في سنة 155، وكان عبد الرحمن قد خرج من قرطبة واستخلف عليها ابنه سليمان فأتاه كتابه بخروجهم عن طاعته وعصيانهم عليه واتّفاق من بها من اليمانية على ذلك، فرجع عبد الرحمن إليها ولم يدخل قرطبة، وهاله ما سمع من اجتماعهم وكثرتهم، فقدّم ابن عمه عبد الملك بن عمر بن الوليد بن عبد الملك بن مروان، فلما قارب عبد الملك إشبيلية قدّم ابنه أُمية ليُعلِمه حالهم، فرآهم متيقظين فرجع إلى أبيه فلامه أبوه على رجوعه وإظهار الوهن، فضرب عنقه وجمع بنيه وخاصّته وقال: طُرِدنا من المشرق إلى الأقصى هذا الصُّقْع ونُحسد على لقمة تبْقِي الرمق، اكسروا جُفون سيوفكم فالموت أولى أو الظفر! ففعلوا، وحمل أمامهم فهزم اليمانية وأهل إشبيلية، ولم تَقُم بعدها لليمانية قائمةٌ.

 

وجُرح عبد الملك وبلغ الخبر عبد الرحمن فأتاه وجُرحه يجري دماً وسيفُه يقطر وقد لصقت يده بقائم سيفه، فقبَّل بين عينيه وجزّاه خيراً وقال له: يا ابن عم قد أنكحتُ ابني وليَّ عهدي هشاماً ابنتك فلانة وأعطيتها كذا وكذا، وأعطيتك كذا وكذا، وأولادك كذا وكذا، وأقطعتُك وإياهم كذا وكذا، ووليتك الوزارة!

 

وكان أغلب العرب في الأندلس من اليمانية، الذين استمالهم عبد الرحمن في البداية، ثم توالى تمردهم عليه، فأدرك أن من العسير الثقة بولائهم له، واستوحش من العرب قاطبة، فاستعان بالبربر، ومال إلى اقتناء العبيد، حتى كوّن جيشاً كبيراً قدّروه بمئة ألف جندي. وقيل إن من أشار عليه بذلك هو بشر بن عبد الملك بن بشر بن مروان، وكان من فتيان قريش وأدبائهم الذين لحقوا بالداخل في الأندلس، وكان عبد الرحمن يحبه ويشاوره.

 

وأصبح المسلمون في حالة ضعف واضحة لانشغالهم بخلافاتهم الداخلية وحروبهم في المرحلة التي أسس فيها عبد الرحمن الداخل مملكنه،  فانتهز ملك الجلالقة Galicia فرويلة Fruela الفرصة لتوسيع مملكته فاستولى على المدن الشمالية مثل بورتو وزمورة وسلمنقة وقشتالة، وصارت للجلالقة حتى افتتحها المنصور بن أبي عامر المتوفى سنة 392.

 

وتوفي أبو جعفر المنصور سنة 158، وتلاه ابنه المهدي الذي أراد أن يحاول كذلك إخضاع الأندلس فأرسل عبد الرحمن ابن حبيب الفهري، وكان يعرف بالصقلبي لطوله ورِّقته وشُقرته، فعبر في سنة 161 من أفريقية إلى الأندلس ليحارب عبد الرحمن ويدعوه إلى طاعة المهدي، فجاءه عبد الرحمن وأحرق السفن ليمنعه من الهرب، فقصد الصقلبي جبلاً منيعاً بناحية بَلَنْسِية، فبذل عبد الرحمن ألف دينار لمن يأتيه برأسه، فاغتاله رجل من البربر وحمل رأسه إلى عبد الرحمن، فأعطاه ألف دينار، وكان قتله في سنة 162.

 

وإزاء هذا الهجوم، والجزاء من جنس العمل، عزم عبد الرحمن الداخل في سنة 163على أن يستخلف ابنه سليمان بالأندلس ويذهب على رأس جيش إلى الشام لانتزاعها من بني العباس وإعادة الدولة الأموية، فعصى عليه بسَرَقُسْطة سليمان بن يقظان والحسين بن عاصي، واستعان سليمان بالإمبراطور شارلمان الذي أرسل قواته لمساندته، ولكن سليمان أدرك أن شارلمان وقواته ليسوا من المرتزقة وأن استعانته بهم ستؤدي إلى استيلائهم على البلد، فلم يفتح لهم أبواب سرقسطة، فعادت قوات شارلمان أدراجها ليلقى جزء منها نهايته على يد مقاتلي الباسك وجاسكوني، وخلا المجال لعبد الرحمن لينهي هذا التمرد الخطبر فأرسل جيشاً كثيفاً  إلى سرقسطة فحاصرها، ثم سار بنفسه إليها في سنة 166 ونصب عليها 36 منجنيقاً، فملكها عَنوةً، وقتل الأمير المتمرد أقبح قتلة، ونفى أهلها منها ليمينٍ كانت تقدّمت منه، ثم ردّهم إليها.

 

وأرجح أن تكون هذه السنوات الفترة التي جرت فيها مراسلات بين عبد الرحمن الداخل وبين شارلمان ملك الإفرنج، ذكرتها المراجع العربية فقالت: كان شارلمان من طغاة الإفرنج، تمرس به عبد الرحمن مدة فأصابه صلبَ المكسر، تام الرجولية، فمال معه إلى المداراة، ودعاه إلى المصاهرة والسلم، فأجابه للسلم، ولم تتم المصاهرة.

 

وفي سنة 166 اكتشف عبد الرحمن مؤامرة لخلعه اشترك فيها ابن أخيه المغيرة بن الوليد بن معاوية، فقتله مع بقية المتآمرين، وخشي من أخيه فنفاه إلى العدوة بماله وولده وأهله، وقال: كيف تطيب لي نفسٌ بمجاورته بعد قتل ولده وقطع رحمه؟! أم كيف يجتمع بصري مع بصره؟!

 

وفي سنة 168، وبعد 27 سنة من مقتل أبيه، ثار أبو الأسود محمد بن يوسف بن عبد الرحمن الفهري، بعد أن هرب من السجن بعد أظهر أنه عَميَ، ولحق بطليطلة فاجتمع إليه خلق كثير فرجع بهم إلى قتال عبد الرحمن، فالتقيا وانهزم ابن الفهري، وقتل من أصحابه أربعة آلاف سوى من تردّى في النهر، ثم جمع أبو الأسود الرجال وعاد إلى قتال عبد الرحمن سنة 169، فمات بقرية من أعمال طليطلة، وقام بعده أخوه قاسم وجمع جمعاً فهاجمه عبد الرحمن فاستسلم إليه بغير أمان فقتله.

 

وفي أول جمادى الأولى من سنة 172 توفي عبد الرحمن الداخل بقرطبة، عن 59 عاماً، وصلى عليه ابنه عبد الله، وكان قد عهد إلى ابنه هشام بمدينة مارِدة والياً عليها، وابنه سليمان بطليطلة والياً عليها، فلم يحضرا موت أبيهما.

 

كانت مدة ولاية عبد الرحمن الداخل على الأندلس  أكثر من 33 سنة، لم يهنأ فيها بالولاية، مع توالي التمرد، وكان سريع النهوض في طلب الخارجين عليه، لا يخلد إلى راحة، ولا يسكن إلى دعة، ولا يكل أموره إلى غيره، ولا ينفرد في إبرامها برأيه، حليماً عالماً حازماً، ولما خرج من البحر أول قدومه على الأندلس أتوه بخمر، فقال: إني محتاج لما يزيد في عقلي، لا لما ينقصه! فعرفوا بذلك قدره؛ ثم أهديت إليه جارية جميلة فنظر إليها وقال: إن هذه من القلب والعين بمكان، وإن أنا اشتغلت عنها بهمتي فيما أطلبه ظلمتها، وإن اشتغلت بها عما أطلبه ظلمتُ همتي، ولا حاجة لي بها الآن. وردَّها على صاحبها. وكان يُشبَّه بأبي جعفر المنصور في حزمه وشدّته وضبطه لملكه، وكان نقش خاتمه: بالله يثق عبد الرحمن ويعتصم.

 

وكان عبد الرحمن الداخل يحضر الجنائز، ويصلي عليها، ويصلي بالناس إذا كان حاضراً الجمع والأعياد، ويخطب على المنبر، ويعود المرضى، وكان يقعد للعامة، ويسمع منهم، وينظر بنفسه فيما بينهم، ويتوصل إليه من أراده من الناس، فيصل الضعيف منهم إلى رفع ظلامته إليه دون مشقة، وكان من عادته أن يأكل معه من أصحابه من أدرك وقت طعامه، ومن وافق ذلك من طلاب الحوائج أكل معه.

 

وحضر في يوم جنازة فتصدى له في منصرَفه عنها رجل متظلم عامي وَقاح ذو عارضة فقال له: أصلح الله الأمير، إن قاضيك ظلمني وأنا أستجيرك من الظلم، فقال له: تُنصَفْ إن صدقت، فمد الرجل يده إلى عنانه وقال: أيها الأمير أسالك بالله لما برحت من مكانك حتى تأمر قاضيك بإنصافي فإنه معك، فوجم والتفت إلى من حوله من حشمه، فرآهم قليلاً، ودعا بالقاضي وأمر بإنصافه، فلما عاد إلى قصره كلمه بعض رجاله ممن كان يكره خروجه وابتذاله فيما جرى، فقال له: إن هذا الخروج الكثير - أبقى الله تعالى الأمير - لا يجمل بالسلطان العزيز، وإن عيون العامة تُخْلِق تجِلَّته، ولا تؤمن بوادرهم عليه، فليس الناس كما عُهِدوا. فترك من يومئذ شهود الجنائز وحضور المحافل، ووكل بذلك ولده هشاماً.

 

واستعان عبد الرحمن الداخل في إدارة أمور البلاد بعدد من أهل المشرق من بني أمية ومواليهم وغيرهم، ومن هؤلاء وزيره حسان بن مالك، المتوفى نحو 150، وكان جده عبد الله مملوكا لمروان بن الحكم، وأعتقه مروان، ودخل حسان الأندلس سنة 113، ولما توطد الملك لعبد الرحمن، استوزره، وجعل له القيادة، ثم ولاه إشبيلية، فأقام خمس سنوات انتهت بوفاته فيها. ومنهم كذلك قاضيه معاوية بن صالح الحضرمي الحمصى المتوفى سنة 158، والذي نشأ بحمص، وخرج منها سنة 125، فمر بمصر، وانتهى إلى الأندلس، وذهب معاوية إلى الحج فأرسله عبد الرحمن الداخل إلى الشام ليأتي بأختين وعمة له فيها، فلم يطاوعنه، ورجع فولاه قضاء الجماعة بالأندلس، وكان يحضر معه غزواته، وعزل في أواخر أيامه.

 

وغضب عبد الرحمن الداخل على مولاه بدر، لأنه مال إلى الدعة وأبدى تذمراً من استمرار عبد الرحمن في قتال الخارجين وشن الحملات، وقال وقد أمره بالخروج إلى غزاة: إنما تعبنا أولاً لنستريح آخراً، وما أرانا إلا في أشدّ مما كنا! فسلب نعمته، وانتزع دوره وأملاكه ، ونفاه إلى الثغر،وصير خبره مثلا في الناس بعده.

 

وكان عبد الرحمن الداخل قد عهد بولاية العهد إلى ابنه هشام وقدّمه على سليمان وهو أكبر منه لأنه كان يتوسّم فيه الشهامة، وعينه أميراً على ماردة، فلما توفي عبد الرحمن كان ابنه عبد الله في قرطبة، فبايع لأخيه وكتب إليه بنعي أبيه ويعزيه به ويعرفه أنه بايع الناس له فلما وصل إليه الكتاب سار من ساعته إلى قرطبة، ولم تصف الأيام لهشام فقد خرج عليه أخواه سليمان وعبد الله في سنة 173، وكان سليمان أميراً على طليطلة، فجمع هشام عساكره وسار إلى طليطلة فحاصرها، وجرت بينهما حروب انتهت في سنة 174 بأن تصالحا على أن يأخذ سليمان أهله وأمواله ويفارق الأندلس إلى بلاد البربر، وتوفي هشام سنة 180 عن 37 عاماً، وكان صالحاً شبَّهه أهل الأندلس بعمر بن عبد العزيز.

 

كان عبد الرحمن الداخل أصهب خفيف العارضين طويل القامة نحيف الجسم، أعور، وكان فصيحاً لَسِناً شاعراً من ذوي الآداب، وله شعر حسن، ومن شعره يفتخر بتأسيسه هذه الدولة وينفي عنها منة لممتن:

 

لا يُلفَ ممتنٌ علينا قائلُ: ... لولاي ما ملك الأنامَ الداخلُ

سعدي وحزمي والمهند والقَنا ... ومقادرٌ بلغت وحالٌ حائل

إن الملوك مع الزمان كواكبٌ ... نجمٌ يطالعنا ونجم آفل

والحزم كل الحزم أن لا يغفلوا ... أيروم تدبير البرية غافل؟!

ويقول قوم سعدُه لا عقله ... خيرُ السعادة ما حماها العاقل

أبني أمية قد جبرنا كسركم ... بالغرب رُغماً والسعود قبائل

ما دام من نسلي إمام قائم ... فالملك فيكم ثابت متواصل

 

وعمَّر عبدُ الرحمن الداخل جنة قرب قرطبة وسماها الرُصافة على اسم رصافة جده عبد الملك بن مروان، وزرع فيها نخلة مفردة هي أصل كل النخل الذي بالأندلس، ولما رأى هذه النخلة الوحيدة في أرض غريبة لا تعرف النخل، أثارت شجونه فقال هذه الأبيات التي نحت الإسبان البيت الثاني منها على تمثاله في المنقار:

 

تَبدّت لنا بين الرَّصافة نخلةٌ ... تناءت بأرض الغرب عن بلد النخل

فقلت شبيهي في التغرُّب مثلها ... وطول اكتئابي عن بنيَّ وعن أهلي

نشأت بأرضٍ أنت فيها غريبةٌ ... فمثلك في الإقصاء والمنتأى مثلي

 

وكانت الأندلس قبله غُفْلاً من سمة الملك، فأقام عبد الرحمن الداخل للملكة أبهة وشعاراً، ودوّن الدواوين وجنَّد الأجناد وفرض الأعطيات، وخلف آثاراً عمرانية هامة بدأ فيها في آخر أيامه لما شعر بالاستقرار في ملكه، منها تحسين قرطبة وتجديد مغانيها، وتحصّينها بالسور، وبنى فيها قصر الإمارة والمسجد الجامع، وأصلح مساجد أحيائها التي بلغت 490 مسجداً، وبنى الرُصافة متنزهاً له قرب قرطبة، واتخذ بها قصراً حسناً، وجناناً واسعة، نقل إليها غرائب الغِراس وكرائم الشجر من بلاد الشام وغيرها من الأقطار، وكانت أخته أم الأصبغ ترسل إليه من الشام بالغرائب، مثل الرّمان العجيب الذي أرسلته إليه من دمشق الشام، وهو الذي أسس مدينة إلبيرة Elvira قرب غرناطة وأسكنها مواليه، وهي اليوم جزء من غرناطة وفيها بوابة تحمل اسمها.

 

ومن أهم آثار عبد الرحمن الداخل المعمارية مسجد قرطبة الأعظم، وكان المسلمون لما فتحوا الأندلس شاطروا أعاجم قرطبة في كنيستها العظمى، كنيسة القديس فنسنت، وابتنى المسلمون في ذلك الشطر مسجدا جامعا، وبقى الشطر الثاني بأيدي الروم، فلما كثر المسلمون بالأندلس، وعمرت قرطبة ونزلها أمراء العرب بجيوشهم، ضاق عنهم ذلك المسجد، وجعلوا يعلقون منه سقائف؛ فنال الناس من الضيق مشقة عظيمة، فلما سكن عبد الرحمن الداخل قرطبة، نظر في أمر الجامع، وتوسيعه، وإتقان بنائه؛ فأحضر أعاجم قرطبة، وسألهم بيع ما بقي بأيديهم من الكنيسة المذكورة، وأوسع لهم البذل فيه، وأباح لهم بناء كنائسهم التي كانت هدمت عليهم في وقت الفتح بخارج قرطبة، فخرجوا عن الشطر، فاتخذه وأدخله في الجامع الأعظم، وكان شروع عبد الرحمن الداخل في بناء الجامع سنة 169؛ وتم بناؤه، وكملت بلاطاته في سنة 170، وكان طوله 135 متراً في عرض 63 متراً، وفيه غابة من 1300 عمود من المرمر والجرانيت، وقيل إنه أنفق على ذلك 80000 دينار.

 

ولم يكمل المسجد في أيام عبد الرحمن الداخل، وكمله ابنه هشام، ثم توالى الخلفاء من بني أمية على الزيادة في منارته ومساحته ومرافقه وتزيينه إلى أن كمل بعد ثمانية خلفاء، وتضاعفت مساحته ثلاثة مرات، وصار يضرب به المثل في عظمه وإتقان صنعته وأعمدته وتذهيبه، وتعتبره أسبانيا اليوم رسمياً أثمن معالمها الأثرية، كما أدرجته منظمة اليونسكو ضمن معالم التراث الإنساني. 

 

وبقي عبد الرحمن الداخل رغم هذا الملك والعظمة والانتصارات الباهرة، يحن إلى مسقظ رأسه ويتحسر على فراق وطنه واغترابه، وهذه أبيات رقيقة له تفيض حنيناً واشتياقا إلى الشام وأهله فيها:

 

أيها الراكب المُيَمَّم أرضي ... أقْرِ من بعضي السلام لبعضي

إن جسمي كما علمْتَ بأرض ... وفؤادي ومالكيه بأرض

قُدِّر البيْن بيننا فافترقنا ... وطوى البين عن جفوني غُمضي

قد قضى الله بالفراق علينا ... فعسى باجتماعنا سوف يقضي

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين