شيخ الإسلام العلامة أحمد عارف حكمت

حدث في الخامس والعشرين من المحرم1201

 

 

في الخامس والعشرين من المحرم من عام 1201=1785 ولد شيخ الإسلام العلامة أحمد عارف حكمت، القاضي الفقيه العلامة، وصاحب المكتبة الوقفية العظيمة في المدينة المنورة؛ مكتبة عارف حكمت.

 

ولد شهاب الدين أحمد عارف حكمت بن إبراهيم عصمت بن إسماعيل رائف بن إبراهيم باشا زاده الحنفي، في أسرة ينتهي نسبها إلى بيت النبوة الحسيني، ونشأ في بيت والده الذي كان من رجالات الدولة العثمانية المعروفين بالفضل والكرم، وفي تسمية والده له بعارف قال عارف حكمت:

 

ألم تعلم بأنَّ سماءَ فكري ... تجولُ بأُفقِها شمسُ المعارفْ

تفرَّسَ والدي فيَّ المعالي ... فيومَ ولدتُ سمّاني بعارف

وحفظ عارف القرآن في صغره واتَّجه لطلب العلم، وحفظ كثيراً من المتون قيل إنها بلغت نحو 50 متناً، وحفظ جانباً غير قليل من القاموس المحيط، وألقى أول درس وهو في العاشرة من عمره في سنة 1211، ولم يرد صراحة ذكر أنه رحل في شبابه في طلب العلم إلى خارج الأراضي التركية، ولكنه أخذ عن الفقيه المالكي الكبير المعروف بالشيخ الأمير، محمد بن محمد بن أحمد السنباوي المصري، المولود في مصر سنة 1154 والمتوفى سنة 1232، وذلك أن السنباوي توجه في بعض المقتضيات إلى دار السلطنة، وألقى هناك دروساً حضره فيها علماؤهم، وشهدوا بفضله واستجازوه فأجازهم بما هو مجاز به من أشياخه، وكان منهم الشيخ عارف حكمت.

 ومع ما سبق ذكره يبدو أنه قد حج في سنة 1218 لأن ديوانه يتضمن أبياتاً في رثاء الشيخ صالح الفلاني المالكي، المتوفى في تلك السنة والمولود سنة 1166، إلا إن كان تلك الأبيات من ضمن كتاب للتراجم بدأ فيه عارف حكمت ولم يكمله، ولكن مصادر ترجمته تذكر صراحة أنه حج إلى بيت الله الحرام في سنة 1229، وتصادف أن احترقت سترة الكعبة الداخلية البيضاء اللون، فقال في ذلك شعرأ:

 

تحمَّل بيتُ الله عن كل زائر ... ذنوباً بها اسودت له الكسوة البيضا

فلما استحقوا النار من كثر مأثم ... فلم يرض إلا أن تحمّلها أيضا

 

وفي سنة 1231 جعله السلطان محمود الثاني على قضاء القدس، وصادف أن كانت تلك السنة في قحط وغلاء، فقام عارف حكمت بشراء القمح وتوزيعه على المحتاجين دون أن يُظهر اسمه.

 

 وفي سنة 1236 تولي قضاء مصر، فسافر في البحر تحفُّه الأخطار لاندلاع التمرد اليوناني، وفشلِ الحملات التي أرسلها السلطان محمود الثاني في إعادة الهدوء والقضاء على التمرد، وفي توليه قضاء مصر قال:

 

توليتُ مصرَ أسأل الله نُصرة ... بحكم القضا لما استقلوا المواليا

على أنني راض بأن أحمل القضا ... وأخلص منه؛ لا عليَّ ولا ليا

 

وفي سنة 1239 تولى قضاء المدينة المنورة.

 وفي سنة 1242=1826 عين رئيساً لمشيخة استانبول.

 وفي سنة 1245 جعل مسؤولاً عن إحصاء سكان الولايات الغربية المعروفة باسم روم إيلي، ولما رجع من هذه المهمة عين في منصب نقابة الأشراف سنة 1246 ، وبقي فيها إلى حين استعفائه منها سنة 1250، ونقيب الأشراف منصب عالي المرتبة يأتي في المراسم السلطانية بعد الصدر الأعظم، وكثير منهم كان من يقلد السلطان سيف السلطنة عند تسنمه العرش، وإن كانت مهمته الأساسية النظر في أمور السادة الأشراف وتمثيلهم لدى الدولة العثمانية.

 

وجرت في تلك الفترة حروب جسام خسرتها الدولة العثمانية، فقد انتهى تمرد اليونان باعتراف الدولة العثمانية باستقلالها في سنة 1246=1830، واحتل الفرنسيون الجزائر في نفس السنة، ثم أرسل محمد علي باشا من مصر ابنه إبراهيم باشا في سنة 1247على رأس حملة عسكرية استولت على مدن الشام، ومضت شمالاً حتى هزمت الجيش العثماني في قونية سنة 1248 = 1832، قبل أن تتدخل الدول الأوربية وتعيد محمد علي إلى حدود مصر.

 

وفي سنة 1249 جُعل رئيساً لمشيخة الأناضول.

 

 وفي سنة 1252 جعل رئيساً لمشيخة روم إيلي.

 

 وفي سنة 1255=1839 توفي السلطان محمود وخلفه ابنه السلطان عبد المجيد الأول، الذي باشر في إجراء إصلاحات واسعة على طريقة عمل الحكومة في استانبول وفي المقاطعات، وفي هذا الصدد أرسل السلطان بعد قليل من توليه السلطنة عارف حكمت في لجنة لإحصاء نفوس 360 قرية في مقاطعة روم إيلي، وعينه كذلك رئيساً للمحكمة العليا التي كانت تدعى مجلس الأحكام العدلية، وبعد عودته جعل عضواً في دائرة الشورى العسكرية، ويبدو أن والده عصمت توفي في سنة 1256 لأن ديوانه يتضمن قصيدة تركية تؤرخ وفاته في هذه السنة.

 

وفي ذي الحجة من سنة 1262=1846 توفي شيخ الإسلام مصطفى عاصم أفندي، فولى السلطان عبد المجيد عارف حكمت في منصب شيخ الإسلام، واستمر فيه سبعة أعوام ونصف عام، إلى أن أقيل في منتصف سنة 1270=1854، وعين السلطان محله عرب زاده محمد عارف أفندي، وبصفته شيخ الإسلام شارك عارف حكمت مع اثنين من كبار ضباط الدولة العثمانية؛ أمين باشا وفؤاد باشا، في وضع نظام الكلية الحربية العثمانية وتأسيسها في سنة 1264=1848، وهي الكلية التي تحول بها الجيش العثماني إلى النظام الجديد على النمط الأوربي في الدراسة والتدريب، وكانت مدة الدراسة بها 4 سنوات.

 

ومشيخة الإسلام منصب في غاية الأهمية، ودفعاً لما يتبادر للذهن من مشابهته لمنصب المفتي، فنتحدث عنه للفائدة نقلاً عن موسوعة الإمبراطورية العثمانية: بدأ استعمال لقب شيخ الإسلام في القرن التاسع الهجري أيام السلطان مراد الثاني، حيث كان ذلك لقب مفتى استانبول والذي كان رئيساً لكل المفتين في السلطنة، ثم أضيفت إليه مهام أخرى مثل التدريس في مدرسة السلطان بايزيد والإشراف على الأوقاف السلطانية، ثم أضيفت إليه مهمة تعيين كبار القضاة، المسميين قاض عسكر، وسائر القضاة ومدرسي المدارس ومشايخ الطرق الصوفية، وبلغ نفوذ شيخ الإسلام أوجه في أيام كمال باشا زاده وأبي السعود أفندي. وبعد القضاء على الإنكشارية في سنة 1242=1826، شملت الإصلاحات منصب شيخ الإسلام، فجرى نقل مقره إلى المبنى الذي كان يضم قيادة الإنكشارية، وسمي بالفتوى خانه، وجمعت في المبنى المحاكم العليا لاستانبول والأناضول وروم إيلي، وأصبح منصب شيخ الإسلام بمثابة أعلى محكمة يرجع إليها في نظام السلطنة العدلي، وأصبح شيخ الإسلام عضواً في مجلس الوكلاء ومكانته تعادل مكانة الصدر الأعظم أو رئيس الوزراء، وبقي منصب شيخ الإسلام أكثر من 500 سنة حتى إلغائه في سنة 1924، وكان ثالث أركان الحكم العثماني إلى جانب الموظفين الإداريين وضباط الجيش، والذين كانوا يسمون في الأيام العثمانية: القلمية والسيفية.

 

وكان شيخ الإسلام، رغم تلقبه بلقب أفندي، يتمتع بمكانة كبيرة في المراسم السلطانية احتراماً لمكانته العلمية والدينية، فهو الوحيد من رجال الدولة الذي يجب أن يستقبله السلطان واقفا، وبدلا من أن يقبل يد السلطان فإن شيخ الإسلام يصافحه بكلتا يديه ثم يقبل كتفه، ولا يخرج شيخ الإسلام في حملة عسكرية يقودها غير السلطان كالصدر الأعظم أو غيره، بل ينوب عنه في هذه الحالة أحد قضاة العسكر.

 

وفي آخر سنة 1263=1847 احتفل السلطان عبد المجيد بختان ولديه: السلطان مراد، والسلطان عبد الحميد، ودعا إلى الحفل وجهاء الولايات العثمانية، وكان منهم عن دمشق الشيخ عبد الرحمن الطيبي، والشيخ حسن بن إبراهيم البيطار، والد الشيخ المؤرخ عبد الرزاق البيطار، والمولود سنة 1206 والمتوفى سنة 1272، فصارت بينه وبين شيخ الإسلام عارف حكمت مودة مستحكمة، ذكرها الشيخ عبد الرزاق في كتابه: "حلية البشر في تاريخ القرن الثالث عشر"، فقال ساجعاً:

 

وكانت مشيخة الإسلام إذ ذاك لحضرة من تصرَّفَ من حين شبيبته بدراسة المعارف، وإفاضة العوارف، وكلف بالعلم حتى صار ملهج لسانه، وروضة أجفانه، السيد أحمد عارف حكمت بيك، فكان لوالدي منه الالتفات الوافر، والميل المتكاثر، وكان يكثر بينهم البحث والحديث، خصوصاً فيما يتعلق بالتفسير والحديث، فلذلك كان مقدَّماً عنده على ما سواه، وملحوظاً بعين عنايته ورضاه، وكلٌّ منهما أخذ عن الآخر وأجازه، وأسمعه حديث الأوَّلية وذكر معناه وحقيقته ومجازه، ثم قرأ كل منهما الفاتحة، ودعوا لهما وللمسلمين بالدعوات الصالحة، وقد مدح الأستاذُ الأعظم شيخ الإسلام والمسلمين الأكرم والدي بهذه الأبيات على الارتجال، من غير إمهال، وهي:

 

يا قلب أبشر بما ترجوه من منن ... فقد حظيت بشهم كامل فطن

حليفِ علم إمام سيد ثقة ... أخلاقه الشم قد جاءت على سنن

فقلت للقلب هذا ما تؤمله ... لقد بلغت المنى والأنس من حسن

 

فأجابه سيدي الوالد حفظه الله، وأحسن مثواه، بقوله:

 

شمس المعارف تغنينا عن السرج ... ومنهج الفضل لا يخفى لمن يلج

وطالع السعد لا يعروه كاسفة ... وعارف الدهر محفوظ من العوج

شيخ الأنام الذي طابت مآثره ... بحر الكمالات ذو الأمواج واللجج

فرع النبوة وصف الحسن لابسه ... فنوره ظاهر في وجهه البهج

شهم همام وللمختار نسبته ... فيا لها نسبة تسمو لمبتهج

رب المعارف والأبحاث شاهدة ... بكونه عارفاً حقاً بلا حرج

طود من العلم والإحسان جملَّه ... حلم به قد سما الأسمى من الدرج

فالله يحفظه من كل نازلة ... ممتعاً بسرور عنه لم يعج

ما نال كل المنى في مدحه حسن ... معطراً من ثناه نفحة المرج

 

وكانت لعارف حكمت علاقة وطيدة بالشيخ شمس الدين محمد الجابي أحد علماء دمشق، المولود سنة 1208 والمتوفى سنة 1298، ففي ديوان عارف حكمت بضعة أبيات كتبها إلى: الألمعي الأريب، واليلمعي الأديب، المحب المحابي، أخينا الشيخ محمد الجابي، الناشئ غصنا يافعا في ربى دمشق الشام، بأخلاق تحكي عواطر أعراف البشام، وهو حينئذ بقسنطينية نزيل، وبمجانسة الود لا يعد فينا من الدخيل.

 

 وفي سنة 1265 عين شيخ الأسلام عارف حكمت الشيخَ الجابي على قضاء بغداد، فمدحه عبد الباقي أفندي الفاروقي العمري بقصيدة طويلة أشار فيها لحسن اختيار شيخ الإسلام فقال:

 

فيه شيخ الإسلام ما ضن لكن ... ظن خيراً فأحسن الله ظنه

 

وفي سنة 1267 خرج من بغداد إلى استانبول شهاب الدين الألُّوسي، محمود بن عبد الله، المولود سنة 1217 والمتوفى سنة 1270، يريد أن يعاد إليه منصب الإفتاء ببغداد مع بعض الأمور الأخرى التي انتزعت منه، ودامت رحلته هذه سنتين ونصف، وكتب فيها كتابه "غرائب الاغتراب"، وتحدث فيه هناك عن لقائه الأول بشيخ الإسلام عارف حكمت، وذلك لتقديم تفسيره المسمَّى "روح المعاني" إلى السلطان عبد المجي.

 

 قال الألوسي: فأمرَّ عليه بَرْقَ نظره الحالي، فأمر أن أذهب به وأقدمه إلى الباب العالي، وقال: العادة تقتضي أن تعرضه على الصدر الأعظم هناك، فحينئذٍ يصدره إليَّ فأورده النظر الدقيق إذ ذلك، وسأعطيه إن شاء الله تعالى حقه، وأرصع بجواهر المدح طوقه.

 

وذكر الألوسي كيف تحوَّلت العلاقة الرسمية في أول لقاء إلى صداقة ومودة، وأن شيخ الإسلام عارف حكمت سعى له بمكافآت ورواتب من السلطنة، وتكلل ذلك بتعيينه قاضياً على أرزن الروم، وهو الأمر الذي لم يكن بخلد الألوسي الذي ما كان ليرضى ببلده بديلاً.

 

 قال الألوسي: فقلت: يا مولاي دون الإقامة، أهوال يوم القيامة، وكيف أترك أهلاً وأوطاناً، أم كيف ألتذ برفعة في غير بلدتي ولو أضحيت سلطاناً! 

 

 ولما عاد الألوسي إلى بغداد أهداه عارف حكمت ساعة قائلاً له: لتذكرني في كل ساعة.

 

ومما يفيدنا به الألوسي في رحلته أن شيخ الإسلام عارف حكمت كان قد بدأ في إنشاء مدرسته وإرسال الكتب لها، لأنه في معرِض الحديث عن إحدى نفائس المكتبات يضرب بها المثل فيقول: فكأنها كتب شيخ الإسلام، التي أوقفها وسيَّرها إلى مدينة النبي عليه الصلاة والسلام، وقيل لي: كيف كتبك بالنسبة إلى هذه الكتب النفيسة؟ فأنشدتُ - وحاشاني ولله تعالى الحمد - من نفس حسودة خسيسة:

 

هي كتبي فليس تصلح من بعدي لغير العطار والإسكافِ

 

هي أما مزاود للعقاقير وأما بطائن للخفاف

 

وكذلك يفيدنا الألوسي بمكانة شيخ الإسلام العلمية، فيقول: ولم أستجز أحداً من علماء هاتيك المغاني، غير شيخ الإسلام ... بل أقول في حقيقة أمرهم على سبيل الإيجاز: أنه ليس فيهم بعد شيخ الإسلام يستجاز، وأن شيخ الإسلام إنما نال ما نال، وحصل له ما حصل من الكمال، بواسطة علماء العرب الأمجاد، الذين اجتمع بهم فيما طافه من البلاد، فلقد طاف مصر والقدس والحجاز، فرأى علماءها الأجلة بين مجيز ومجاز، فحرَّك ذلك غيرته، فملأ من الإجازات الشريفة عيبته، ومن سِواه منهم أما قد عدم الغيرة، أو غشي على عينيه العجب فلم ير في العالم عالماً غيره، نسأل الله تعالى العفو والعافية، والقلوب السليمة الصافية.

 

ويختم الألوسي كتابه بمدح عارف حكمت ومعرفته بالأدب العربي وهو في ذلك فرد بين علماء الترك: حيث شعرت منه أنه يحب العلم، ويتمنى أن لا يكون له شغل سواه، وكم رأيته يتنفس الصعداء على أوقات له حلت ومرت، وجلت إذ تجلت فخلت وما استمرت، حيث كانت الفواكه العلمية أقواتاً لهاتيك الأوقات، والفكاهات الأدبية نزلاً لما يمر به من ضيوف الساعات، ومجلسه اليوم مع هذا غاص في كثير من ساعاته بالمباحث العلمية، وهو -سلمه الله تعالى- لا زال ينتهز الفرصة متى وجد أهلاً لكلماته فيحشي سمعه من درره البهية، لكن ذلك الأهل هنالك كالأبلق العَقوق، ومسايره في هاتيك المسالك أعز مثالاً من بيض الأَنوق، لأنه سلمه الله تعالى وقف لكثرة كتبه، على حقائق ودقائق لم يقف عليها جميع صحبه، وتضلع بحر أدب، من كل حبر من علماء جزيرة العرب، وعلماءُ القسطنطينية، أجهل الناس بالفنون الأدبية، ولذا ترى كلامه إياهم السكوت، وهم لا يسألون منه إلا المناصب والقوت، وأما الشعر العربي فطريقه بينهم بالكلية غير مسلوك، ولا بدع فالعربي بين الترك من قديم متروك.

 

وكتب الألوسي في عارف حكمت كتاباً أسماه: "شهي النغم في ترجمة شيخ الإسلام وولي النعم"، والكتاب يعطينا لمحات عن عارف حكمت، ولكنه لا يشفى الغليل، فقد كتبه الألوسي قبل لقائه لعارف حكمت في استانبول ليقدمه بين يدي اللقاء، ولذا كال له فيه الثناء كيلاً، فهو ليس بترجمة حقيقية من عارف بعارف، بل مديح من سامع يرغب أن يحوز القبول من ممدوحه، فينيله ما يريد.

 

وفي منتصف سنة 1270=1854 أقيل عارف حكمت من منصب شيخ الإسلام، فانتقل إلى السكنى في حصار روم إيلي في منزل كان السلطان قد منحه إياه لما تولى مشيختها.

 

وفي هذه السنة اكتملت مكتبته التي أنشأها في المدينة المنورة، وكان قد بدأها قبل بضع سنوات، فأمر بأن يقام مبنى قرب الحرم النبوي في الجهة الجنوبية منه قريباً من باب جبريل، على أرض يذكر أنه كانت عليها دار الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب، وبُني المبنى المربع الشكل بأحجار الحَرَّة السوداء تعلوه قبة عثمانية، وجعلت خزائنه من الخشب المتين الجميل، وقد أخذني والدي رحمه الله وأنا يافع في زيارة له لتلك المكتبة التي كان يزورها باستمرار إذا جاء للمدينة المنورة.

 

وتضم المكتبة قرابة 5400 كتاب في شتى المواضيع بما في ذلك الفلك والحساب والطب، ومخطوطاتها من أنفس المخطوطات، ذلك إن عارف حكمت اختار لها أهم الكتب من حيث الموضوع والمضمون، وأفضل النسخ من حيث الخط والجودة في الضبط والتذهيب، ولذا فإن كثيرا من مخطوطاتها هي بخط أفضل الكتاب في زمانهم، وقد ذكر الأمير شكيب أرسلان أنه شاهد في المكتبة نسخة من المصحف مكتوبة على جلد النعام بخط أندلسي مذهبة في آخرها، وقد جاء فيها أنها كتبت في المرية بالأندلس سنة 488، وأنه شاهد نسخة غير تامة من تفسير القرآن لعبد الله بن عباس على جلد غزال كتبت سنة 310، ومن أقدم كتب المكتبة بعد هذين كتاب تقويم الأبدان في الطب لابن جزلة البغدادي، المتوفى سنة 493، وقد نسخه ناسخه سنة497.

 

وفي المكتبة نسخة من تفسير الكشاف للزمخشري كُتبت أولا بمجلد واحد بخط مشرقي جميل وجداول مذهبة، ثم أضيف إليه في الهامش "الكشف على الكشاف"، بإلصاقه على جوانب المتن الثلاثة إلصاقا يكاد لا يظهر إلا للناقد البصير،  وتذكر بعض المصادر أنه قد كتب بخط يده على الصفحة الأولى أنه بذل لشرائه 300 جنيه ذهبي.

 

وفي المكتبة ديوان شعر بالفارسية اسمه غزليات شاهي، أمير شاهي المتوفى سنة 830، كٌتب سنة 855 بحروف من ورق قطعت تقطيعا دقيقاً بديعا، ثم ألصقت على صحائف من الورق الملون، فجاءت عجيبة معجزة لما هي عليه من غاية الجودة والإتقان وحسن التنسيق.

 

وفي إحدى مخطوطاتها اللغوية تجد أن أرقام الأبواب والفصول والمباحث كتبت بلون أغمق وأكبر من المستعمل في كتابة المخطوط، وتجد في مخطوطة حديثية أخرى سماعات وتوقيعات وبلاغات ومقابلات، وأنها مقروءة على عدد كبير من الحفاظ المتقنين، وعليها توقيعاتهم، وأنها منقولة من أصل صحيح.

 

وتتضمن المكتبة كذلك بعض الإجازات الحديثية الخاصة بعارف حكمت كما ذكر ذلك المحدث الكبير عبد الحي الكتاني في كتابه فهرس الفهارس، فقال بعد أن عدد أسماء من روى عنهم عارف حكمت: استفدت أسماء جلّ من ذُكِر ووقفت على عين إجازات جلِّهم له أثناء تفتيشي بمكتبته التي وقفها بالمدينة المنورة.

 

وكان في المكتبة سجل للزوار يطلب القائم عليها من الزائر أن يكتب فيه اسمه ولقبه وبلده وتاريخ الزيارة وما طالع في المكتبة من كتب، ويدون فيه آرائه وملاحظاته، وهذا السجل بحد ذاته تحفة أثرية لما يتضمنه من خطوط لكبار علماء ووجهاء العالم الإسلامي الذي زاروا المكتبة منذ تأسيسها.

 

ووقف عارف حكمت على المكتبة عقارات كثيرة في المدينة المنورة وفي استانبول، لا يقل دخلها آنذاك عن 15.000 جنيه ذهبي، وجعل لها نظاماً للتأكد من بقاء البركة فيها، وانتفاع طلبة العلم بها، فجعل لها ناظراً وأربعة مساعدين اشترط أن يكونوا: من العلماء الصالحين الذين صاروا فارغي البال، محمودي الخصال.  وإلى جانبهم مجلِّدٌ وبواب وسقاء وكناس، واشترط أن يبدأ القيمون على المكتبة عملهم بقراءة جزئين من القرآن الكريم يقرأهما اثنان بالتناوب، ومنع أن يُحرم طالب علم من الاستفادة من مراجعة كتبها، ومنع إخراج أي كتاب منها وأوصى بأن تجرد كل ثلاث سنوات بإشراف قاضي المدينة المنورة. وقد أزيل المبنى في توسعة الحرم النبوي ونقلت الكتب إلى مكتبة الملك عبد العزيز بالمدينة المنورة.

 

وكان من عزم عارف حكمت أن يهاجر إلى المدينة المنورة ويقضي بها بقية أوقات عمره، ويحمل معه بقية كتبه التي تعادل عدداً ونفاسة ما أوقف في المدينة المنورة، فقد كانت مكتبته تبلغ حوالي 10.000 كتاب، ولكن المنية أدركته في 16 شعبان من سنة 1275=1859، وتذكر بعض المراجع أن كتبه بيعت مع ترِكتِه بأبخس الأثمان، ومنها كتاب الأغاني الذي بيع بخمسة عشر جنيها، ثم باعه من اشتراه بستين جنيها، وطبع بعد ذلك عن تلك النسخة، ودفن في تربة أعدها في ضاحية أُسكدار لا تزال قائمة معروفة إلى اليوم، وفي ضاحية إيجادية من أسكدار يوجد حمام وقفي بناه شيخ الإسلام في سنة 1270 يعرف باسم حمام الجبل؛ داغ حمامي.

 

لا نجد ذكر أية أولاد لشيخ الإسلام عارف حكمت في كتب التراجم ولا في كتاب الألوسي الذي ما كان ليغفل ذكرهم أو الثناء عليهم في كتابه، ولكن نجد ذكراً لزوجته التي جاءت بعد وفاته للمدينة المنورة وتوفيت فيها، وأوقفت شيئاً من مالها على المكتبة كذلك، ذلك إن عبد الحي الكتاني، المولود سنة 1305 والمتوفى سنة 1382، التقى بها في المدينة المنورة في سنة 1323، وقال عنها في فهرس الفهارس: المعمرة الناسكة الفريدة فاطمة شمس جهان الجركسية المدنية، لقيتها بالمدينة المنورة فأجازتني بما ذُكر عن زوجها، وأجزت لها أيضاً، كما عندي إجازتها بختمها. أي أنه التقى بها بعد قرابة 48 سنة من وفاة زوجها.

 

وإلى جانب ديوان شعره، فإن لعارف حكمت مجموعة تراجم ، وله كذلك كتاب في فقه الأرض الزراعية اسمه "الأحكام المرعية في الأراضي الأميرية"، ألفه ليكون مرجعاً في الإصلاحات التي قام بها السلطان عبد المجيد بعد توليه السلطنة، والتي شملت التوسع في السماح بزراعة الأراضي المملوكة للدولة، كما يتبين من مقدمته التي قال فيها: "فلما اشتبه بعض أحكام الأراضي وكثر عنه السؤال، أردت أن أجمع ما عليه العمل من القوانين السلطانية ليتضح ما خفي من الأحوال، وأحرر ما يتفرع عليها من المسائل ليزول الإشكال، بعد ما صدر بذلك أمر حضرة من وجب لأمره الامتثال، وسميته بـ:"الأحكام المرعية في الأراضي الأميرية"، راجياً من الله سبحانه التوفيق والإعانة، إنه ولي الأجابة، وهو حسبي في البداية والنهاية. والكتاب باللغة التركية باستثناء هذه المقدمة الموجزة، وخطبة للكتاب جاءت في آخر النسخة المطبوعة باستانبول في سنة 1267، راعى فيها موضوع الكتاب، وهذا نصها نورده مثالا على نثر شيخ الإسلام عارف حكمت:

 

الحمد لله الذي وضع الأرض للأنام، فيها فاكهة والنخل ذات الأكمام، والحب ذو العصف والريحان، فسبحانه من متفضل جزيل الإحسان، والصلاة والسلام على من طابت ببركته الثمار، واخضرت من بقية وضوئه الأشجار، وعلى آله وصحبه الذين أحيوا أموات قلوبنا بهواطل الروايات، فنلنا من مزارع فضائلهم حصائد الخيرات والبركات، وبعد.

 

فإن خليفتنا الأعظم، وسلطاننا الأفخم، ولي نعمة العالم، المتحمل أعباء الخلافة من نوع بني آدم، خاقان البرين والبحرين، خادم الحرمين الشريفين، ظل الله سبحانه في أرضه، مالك الربع المعمور في طوله وعرضه، المتخلق بخلق الراحمون يرحمهم الرحمن، المتمثل لقوله سبحانه ?إن الله يأمر بالعدل والإحسان?، السلطان ابن السلطان ابن السلطان، السلطان عبد المجيد خان ابن السلطان الغازي محمود خان ابن السلطان الغازي عبد الحميد خان، خلد الله ملكه، وجعل الدنيا بأسرها ملكه، ولا زالت أيام دولته كالشمس وضحاها، ولا برحت ليالي سلطنته كالقمر إذا تلاها، وعساكره منصورة في غدوها ومسراها، ومواهبه شاملة للبرية أقصاها وأدناها، ما تبرج ظهور ظهر الأرض رافلة بالخلع الخضراء من وشي الربيع، وتبسمت ثغور الروض من محاسن الصنع البديع، لما اقتعد غارب سرير الخلافة، بسط بساط الإنصاف فائقاً أسلافه الكرام وأخلافه، وتيقظ في إزالة ظلم المظالم حتى إن أنام الأنام في أمان، وبهرت أيامه كالشامة في غرة وجه الزمان، وبالغ في الأمر وأمره مطاع، بقلع شقة الجور والاعتساف من البلاد والضياع، ومد على البرايا جناح الرأفة والشفقة، وعمهم بجزيل الإحسان والصدقة، فمن بدائع عواطفه البهية، وصنائع عوارفه السنية، صدور أمره الشريف بتوسيع الحقوق في الأراضي، وكان ذلك قاصراً في القانون الماضي، كما يطلع عليه من يطالع الصور المكللة المكملة، في بطون هذه المجلة المجللة المجملة، رحمةً للضعفاء وفقراء رعيته، ورغبةً للثواب الجزيل ومضاعفته، فأيدِ اللهمَ هذا السلطان الرحيم الحليم الأفخم، والملك الكريم السليم الأكرم، بالفتح المبين، والنصر على الأعداء والمشركين، بجاه سيد المرسلين، وخاتم النبيين، عليه وعلى آله وصحبه أفضل صلاة وأكمل تسليم، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين. كتبه الفقير، المستمنح آلاء ربه القدير، أحمد عارف حكمت بن إبراهيم عصمت الحسيني عوملا بعفو مولاهما الغني. آمين.

 

كان عارف حكمت ينظم الشعر بالعربية والفارسية والتركية، قال الشيخ عبد الرزاق البيطار في ترجمته له: كاد أن يقال ليس له مثيل، له ذهن يكشف الغامض الذي يخفى، وفكر لحل المشكلات أروق من الزلال وأصفى، يبصر الخفيات بفهمه، ويقصر فكها على خاطره ووهمه، فجاء بالنادر الذي أعجز، مع تبديل التطويل بالمختصر الموجز، ونظم عقود اللآلي في لبة القريض، ونثر درر المعالي على هام مادحيه فكانوا يفدون عليه وفود البحر الطويل العريض، وكان بعاصمة الروم سراً للإحسان، وحاكياً جود زياد وشعر حسان، وقد نظم ونثر، ما يزدرى رقة بنسيم السحر. ومن شعر عارف حكمت:

 

مدى ليل الشباب رقدت لهوا... وعيس الدهر بالأعمار تحدي

فأيقظني صباح الشيب لكن ... على ما فات حزني ليس يجدي

وقال:

قميص دجا شبابي شق دهري ... وكنت به أداري ضير

فمن كل الجوانب لاح شيبي ... فأرجو أن يكون صباح خير

وقال:

ألا أن أهنا العيش باكورة الصبا ... أوان الفتى في روضه يانع الغُصنِ

وأصعبه ما جاور الشيب حينما ... حكى البدنُ المنفوشَ من ناعم العِهْنِ

ومن جملة توسلاته:

يا من إليه الملتجا ... فيما يُخاف ويرتجى

أنت المجيب لكل من ... يدعوك في غسق الدجى

ولكم كشفت غياهباً ... من بعد ما انقطع الرجا

أنت المغيث لكل ملهوف ... حشاه تأججا

قد أقلق المهج الضعا ف أذى الزمان وأزعجا

يتلجلج النطق الفصيح ... لدى الرجاء تلجلجا

ولقد أضاق عليَّ من ... كل الجهات المخرجا

بين الجوانح والحشا ... حر الهموم تأججا

بحياة خيرتك الذي ... للخير أوضح منهجا

أزكى الصلاة مع السلا ... م عليه ما داعٍ نجا

ومنها:

إذت ما جن ليل الهم يوما ... وضاجعك العناء ولا براح

ترقَّب تجتلي فرحاً قريباً ... فهل ليل وليس له صباح

وختاماً نورد أبيات له في حبه للكتب ونهمه في مطالعتها:

أروح وأغدو في التهاب وغلة ... لفرط اشتياقي في مطالعة الكتب

إذا ما خلت نفسي وصرت جليسها ... أراني كعطشان على المنهل العذب

أهِمُّ ولو كانت بحوراً بشربها ... ولكنه لا يرتوي أبداً قلبي

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين