لم احتفلوا وماذا استفادوا؟!



الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حبيب إلى كل قلب، فإن صنائع معروفه طوقت أعناقنا، وثمرات جهاده الشاق هي التي تحيي ضمائرنا وتمسك كياننا.
وإذا كان المثل السائر: من علمني حرفاً صرت له عبداً، فكيف بمن هيأ لنا الرشد في الدنيا والنجاة في الأخرى؟ إن دينه في رقابنا ضخم، وجميله في أفئدتنا مغروس، ومع ذلك فقد كنت أقدم رجلاً وأؤخر أخرى، عندما كنت أدعى إلى احتفال المولد الشريف لأتحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم!!


كنت أشعر بأن هذه الأحفال صلة مفتعلة بين المسلمين ونبيهم، وأن الخطب التي تلقى فيها دعاوى حب لا يساندها دليل، ولا يؤيدها واقع!!
كانت هناك مدائح للنبي منظومة ومنثورة، وشارات فرح بذكراه مطوية ومنشورة، ولكن لم يكن هناك ما يدل على صدق الاتباع وحسن التأسي، بل لقد هرع إلى سرادقات الموالد بين المغرب والعشاء ناس لم يصلوا المغرب والعشاء!!
إن الأمر لا يعدو المشاركة في تقليد مكرر مألوف...
وذكرت أبيات البوصيري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخيل إليَّ أن الرجل كان يعني جماهيرنا عندما قال في بردته:


فإن فضل رسول الله ليس له=حد فيعرف عنه ناطق بفم!
وكيف يدرك في الدنيا حقيقته=قوم نيام تسلوا عنه بالحلم؟

 

نعم كيف تدرك هذه الأفواج النائمة الهائمة حقيقة النبوة التي أيقظت العقل من سباته، وبدلت ليل العالم إلى نهار، وفكت أغلال الذل عن أجيال طالما عاشت في الله؟!
لقد كنت أوقن وأنا أنقل الخطوات هنا وهناك أن المسلمين لا يعرفون حقيقة النبوة، ولا يفقهون معنى الرسالة، ولا يدركون ما يجب عليهم بإزائها، إنهم – كما عبر البوصيري – قوم نيام يتسلون عن الحقائق بالأحلام...!!!
والنيام الذين يبدون في صور الايقاظ كثيرون.
واسمع إلى أبي الطيب يصف فريقاً منهم وكأنه معنا في هذا العصر يصف المجتمع الإسلامي المعتل: 


أرانب غير أنهمو ملوك=مفتحة عيونهم نيام
بأجسام يحر القتل فيها=وما أسيافها إلا الطعام

 

تأمل في هذا الوصف لعبيد الشهوات، وصرعى الملذات، إنهم يظلون منكبين على دناياهم حتى يختنقوا داخلها كما يختنق دود القز بالافرازات التي ينسجها...
والأمم التي تستسلم لدناياها على هذا النحو لا تصلح للحياة، ولا تنتصر على عدو بله أن تتصدر القافلة الإنسانية وتخدم رسالة عالمية!!
وهذا الفريق من المخدرين في مشاعرهم، المتبلدين في أفكارهم عبء على العقائد التي يعتنقها، إنه يشينها ولا يزينها، ويلقى عليها أوزاره بدل أن يدعها تغسل عنه أوضاره... ومن حق لك ذي لب أن يسأل: هل المسلمون الذين يحتشدون ألوفاً ألوفا لتحية المولد النبوي منطقيون مع أنفسهم ومبادئهم؟
وما أظن الواقع ولا الخيال يجيبان بالإيجاب...
إن احتفالات المسلمين بميلاد نبيهم مع تركهم لأركان دينهم، وصدهم عن سيبله مرض نفسي واجتماعي يحتاج إلى الدرس والشرح!!
وقد لاحظت في تجاربي مع الناس أن البعض يكتفي في إثبات ولائه لأهل الصدارة وأولي الأمر بكلمات ملق يزورها ومظاهر زلفى يجيدها..!!!
فإذا تقاضاه الولاء المزعوم موقفاً صارماً أو مغرماً ثقيلاً كان أول الغاوين وكم في الدنيا من أناس يخدعون الآخرين بهذا الأسلوب الميسور، يقتربون منهم ما دام الاقتراب رخيص الثمن سريع النفع، فإذا بهظ الثمن أو عزَّ النفع لم تجد لهم أثراً!!
وقديماً تطوع المنافقون بالاقتراب - البدني - من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكروا أنهم يؤمنون به ونزل الوحي الأعلى يقول: [
إِذَا جَاءَكَ المُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ المُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ] {المنافقون:1}.
وشهادة الله على المنافقين بالكذب إنما جاءت بعد أن فضحت مواقفهم سرائرهم، فما صدقوا في جهاد فرض عليهم، ولا اطمأنوا لحكم صدر في قضاياهم، ولا بادروا إلى صلاة جامعة، ولا سارعوا إلى نفقة مطلوبة.
إنهم مؤمنون عندما يكون الإيمان كلاماً أما عندما يكون جداً وإقداماً فللأمر وجه آخر!! [
بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ] {المؤمنون:63}.
وقد كثرت الاحفال الرسمية والشعبية بميلاد الرسول الكريم، وأحياها مسلمو هذا العصر الذين هزمتهم شراذم اليهود، وأنزلت بهم خزياً ليس لسواده نظير في تاريخ المسلمين أجمع...فأي علاقة مفتراه بين أولئك المسلمين وبين نبيهم المجاهد الشجاع الصبور؟
إن العلاقة الوحيدة المقبولة بين المسلمين ونبيهم هي التأسي به والسير تحت لوائه والتزام سننه القويم وصراطه المستقيم.
فمن فعل ذلك فهو أولى الناس به في الدنيا والآخرة وإن لم يحي لمولده ذكرى!!..
ومن شرد عن هذا الهدي فقد انقطع بالرسول سببه وإن أقام لمولده عشرات السرادقات في أيامنا هذه التي نلتمس فيها أهل الفداء والنجدة ليذودوا عن العقائد والحرمات.
أرمق بالإجلال العميق ذلك الصحابي الذي يقول: إنه لا يبالي على آية سورة يموت...
سواء كسر رأسه، أم مزق صدره أم شق بطنه، أم قصم ظهرن، إن صور الهلاك كلها لا تقلقه، إنه معنى شيء واحد فقط، أن يموت وهو مسلم، فإن اطمأن إلى هذا المصير مات مستريحاً على أي جانب وبأي جرح...
ورجاؤه في الله أن يتقبل ذلك الفداء، وأن ينزل بركاته على أشلاء قطعت في سبيله:


ولست أبالي حين أقتل مسلماً=على أي جنب كان في الله مصرعي
وذلك في ذات الإله وإن يشأ=يبارك على أوصال شلو ممزع


هل تفرست في ملامح هذا الشهيد النبيل؟ هل تسمعت إلى هذا النغم الموقن الجليل؟ أولئك هم الرجال الذين رباهم م حمد وتعلموا منه كيف يحيون لله وكيف يموتون لله، وأولئك هم الرجال الذين دمروا معاقل الظلم، وتركوا اليهود وغير اليهود يولون الأدبار في أقطار الأرض...
والاتصال الصحيح بمحمد إنما يكون بمعرفة ربه، وإحياء وحيه وإحلال حلاله، وتحريم حرامه، وتوقير أحكامه، وتكوين الأجيال الجديدة على خلقه وعبادته وجهاده، إن محمداً صلى الله عليه وسلم هو ذلك الكتاب الذي تلقاه وعاش به وله، فما تكون حالنا إذا قال الرسول عنا: [
وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا القُرْآَنَ مَهْجُورًا] {الفرقان:30}.
لقد أحسست كرباً شديداً، وأنا أسمع قائد جيوش اليهود يقول: نحن نقاتل من أجل التوراة واليهودية وأرض الميعاد!! يقوله دون غموض ولا استحياء، ولا توجس على حين تنطبق شفاه الزعماء العرب والمسلمين فلا يجرءون على إرسال مثل هذا التصريح في الدفاع عن القرآن والإسلام والأمة الكبرى المحروبة تحت وطأة ألف هاجم من الشرق والغرب...
هل ذكر التوراة شرف، وذكر القرآن جرم؟
هل يتبجح الناس بباطلهم ونتوارى نحن بحقنا...؟؟
إن محمداً النبي الأمين هو أجدر إنسان في العالم بأن يقتفى أثره ويشاد بتراثه، وإن كتاب محمد هو الوحي الصادق الذي تلتمس النجاة في آياته، ويرتقب الخير من أتباعه، ويشرف الساسة بتلاوته وتدبره، والتنويه به، وجمع القلوب عليه.
إن ميلاد محمد ليس سوقاً اقتصادية لجر المنافع بالبيع والشراء، وليس استجلاء تاريخياً لبعض ما في المتاحف من آثار وأخبار.
إن أمر محمد ودينه وأمته أعظم عند الله وعند الناس من هذه الأحفال الرخيصة دينية أو دنيوية...
وإذا لم نقرر بناء مجتمعنا على عقيدة محمد وشريعته فلا داعي للاحتفال بمولده، وإظهار ولاء مكذوب له...
وبقيت كلمة حاسمة تتصل بمستقبلنا مع اليهود، إن الاعتقاد الديني يشد زناد النشاط الإنساني شداً هائلاً، ومن ثم يخرج العمل وكأنه قذيفة لا يقفها دون مداها شيء، فإذا قرر اليهود أن يعلنوا عليناً حرباً دينية، وأبينا نحن إلا أن نجعل الدين مظاهر لا تعمر قلباً ولا تصوغ خلقاً، ولا تسوي صفاً، ولا تحكم معاملة، ولا تصنع مثلاً أعلى فالويل لنا في القريب والبعيد...


وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم 


المصدر: مجلة لواء الإسلام السنة 22، العدد 9، جمادى الأولى 1388هـ، أغسطس 1968م.

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين