بين المتحرِّقين والباردين

 

كتب بعض الفضلاء: «ما رأيتُ أحمقَ ولا أجهلَ من «الإسلامويين» «الحركيين» الحزبيين!

أجهل من ابن يوم ... ويخوضون في كبار المسائل والتي ربما يتوقف فيها «المجتهد»!!

ثرثرة ليلَ نهار .. وإذا رأوا طلابَ علم يتدارسون مسألة من العبادات والطهارة سلقوهم بألسنتهم الحداد: أين الأمة ..وأنتم في الطهارة؟!!! وكأنهم لا ينامون الليل ولا يطعمون طعامًا حزْنًا على الأمة!!! وكأن الفقه هو من ذبح الأمة!!!

وكم جروا على الأمة من ويلات ... وكم أوردوها المهالك ... وسلطوا -بحمقهم- الجبابرة والظلمة فسفكت دماء الفقراء!!» انتهى.

وقد حفّزني كلامه إلى ان أقول:

أنا أشبّه أكثر هؤلاء «الحركيّين» ـ الذين يتكلم عنهم فضيلته ـ بذلك الصحابي الذي ركع دون الصفّ فقال له النبي ?: «زادك الله حرصاً ولا تعُد»

أنا لا أشكّ أن السواد الأعظم منهم صالحو النوايا، تملأ قلوبهم حرقة وغيرة على الإسلام والمسلمين يفتقدها كثيرون من المشايخ وطلبة العلم «التقليديين» الذين ماتت في قلوبهم مشاعرُ صادقة مخلصةٌ تتأجّج في صدور أولئك «الحركيين».

والحق أنّ الأمة ضاعت بين المتحرِّقين والباردين، وأنّ كلا الفريقين يلسعون ظهورَها بالسياط، ويقطعون منها النياط.

ولكن إن أردنا أن نقف قليلاً عند أولئك الحركيين؛ فإننا سنجدُ أنّ ما يظنونه مكمن قوتهم، هو المقتلُ الذي يُصابون منه الإصابة المميتة! وذلك هو أنّ في منهجهم العامِّ الكثيرَ والكثيرَ من الخطأ، بل الباطل، بل الضلال! 

وذلك أنّ الغاية العظيمة عندهم حجبتهم عن رؤية سبيل الوسيلة الصحيحة الموصلة إلى تلك الغاية التي لا يختلف معهم فيها أحد...

ونراهم لأجل ذلك يسلكون بنيّات الطريق، ويرتادون السبلَ المختصرة القصيرة، والطرق الملتوية المعوجّة، وهم يقعون ـ من حيث يشعرون أو من حيث لا يشعرون ـ في ميكيافيلّيّة مهلكة.

هم يستعجلون قطف الثمرة قبل نضجها، ويرون الانتظارَ إلى حصول النضج عائقاً عن لذيذ القطف! 

لأجل ذلك تراهم هانت عليهم علومُ الشريعة، وبسبب ذلك انصرفت نفوسهم عن الرغبة في إحسانها، فلما لم يُحسنوها ورأوا في أنفسهم عورات الجهل بها؛ زاد هوانها في عيونهم، ثم صاروا يُهوّنون فيها، ثم صاروا يُعادونها، وتواكَب ذلك مع معاداةٍ لأحكام الشريعة الإسلامية نفسِها، ولأهلِ الشريعة وحملتها والقائمين بها والمنافحين عنها.

لقد صار أولئك يريدون «الإسلام» المعدّل المنقَّح المتصرَّف فيه، فخطا كثيرٌ منهم خطوات ـ تتفاوت كثرُتها ونوعيتها ـ في طريق العلمانيّة، وصرتَ ترى بعضهم يتكلم عن الإسلام كما يتكلم العلمانيون، بل صار منهم ملكيّون ـ في العلمانية ـ أكثر من الملك، مع فارق المحافظة على أداء فرائض، وأطياف لحى، وأشباه حِجاب!

 

بل غدا يمارس بعضٌ ممن ينسبون أنفسهم إلى الدعوة إلى الإسلام ـ أو يُنسَبون كذلك ـ علمانيةً حقيقية تتمثّل في التسلُّط على جملة نصوص الإسلام الأولى وردِّها، والتجرُّؤ على أبوابٍ من أحكام الشريعة ورفضِها، وتهجموا على الأحكام المستقرة تهجُّمَ أعتى العلمانيين ـ بل الملاحدة ! ـ وابتدعوا من عند أنفسهم أحكاماً جديدةً في الفقه والمعاملات، أو اعتمَدوا اعتماداً حاسماً جازماً أقوالاً ومذاهبَ معتبرةً، لكن مع إلغاء الخلاف القائم القديم إلغاءً مبرماً، ولو أدّاهم ذلك إلى تسفيه أبي حنيفة مرّةً، والتطاول على مالك أُخرى، وتهوين الشافعيّ ثالثةً، وانتقاص أحمد بن حنبل رابعة!.

ولا ريب أنّ علاج تلك الحالة المرَضيّة الفاسدة المفسِدة لأولئك الحركيين لا يكون إلا بمحاولة ردّهم إلى الجادة، وتبصيرهم بضآلة علومهم، وضحالة مستوياتهم، وأنهم ـ في هذا السلوك ـ أشبهُ بأطفال صغار يرومون تناولَ القمر، ويُحاولون مسكَ النجوم! وأنهم لو سمح أحدهم لنفسه أن يكبر؛ لضحك على نفسه من فجاجة أفعاله، ولاستغفر ربّه من مغبّة أقواله.

إنّ على أولئك الغيارى المتسرّعين أن ينتظروا انتظارَ العاملين الجادّين، لا انتظار الكسالى المتواكلين، وأن يتريثوا ويتلبّثوا مستحضرين ما قاله الله تعالى لنبيه الكريم: ?ليس عليك هداهم?، وأن يعلموا أنهم يُصلحون الفسادَ عندما يتركون تهوّرهم العبثيّ الذي يحدوهم إلى  التخفُّف من أثقال أحكام الشريعة الإسلامية في طريق الوصول المنشود إلى الغاية الكبرى.

إنّ أولئك هم الفئة التي تقف في الجهة المقابلة للفكر الداعشي الذي يُريد الصادقون فيه أن يصلوا إلى غاية إقامة دولة الإسلام عبر القتل والعنف والقسر والإكراه والإجبار ومصادرة الناسِ آراءهم وحرياتهم وقناعاتهم بتصوُّر أن الإسلام يُفرضُ فرضاً شاء من شاء وأبى من أبى، ولو قدّم نفسه للبشرية امبراطورية قمعية ديكتاتورية تجثم على صدور من لا يرغبون بها، وتصنع رعية «منافقة» تتحين الفرصة للنكوص عن شريعة الإسلام «الفجة السمجة».

لا ريب أنّ إعلاء كلمة الله، وإقامة دولة الإسلام؛ هي الغاية التي تُبذل فيها النفائس، وتقدم لها الأرواح، ولكن سبيلها هو غير سبيل التطرف والقسر، وغير سبيل الحركية المتميّعة التي تقدّم إلى الناس إسلاماً ممسوخاً عبثت فيه أيدي القاصرين وأهواؤهم.

ولا ريب أن كلا الفريقين (المتحرِّقين والباردين) لم ينصرهما الله، ولا ينصرهما الله، ولن ينصرهما الله، ولا أقول ذلك تألياً عليه ـ وأستغفر الله ـ بل بشهادة نصوص الوحيين، وبشهادة التاريخ الذي لم تقم فيه للمسلمين قائمة، ولم تكن لهم فيه شوكة ومنعة وقوة وغلبة إلا عند تمسكهم بدينهم وإعلاء راية شريعتهم ودعوة الناس إليها بالحكمة والموعظة الحسنة، وحين ينجحون بإقناع الناس بها كما هي، غير مشوّهةً بإفراط المتنطعين، ولا تفريط المميعين. 

والحمد لله رب ا لعالمين.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين