الحروب الصفوية على الدولة العثمانية

 

حدث في التاسع عشر من ربيع الآخر 

 

في التاسع عشر من ربيع الآخر من عام 1012، الموافق 26 أيلول/سبتمبر 1603، بدأ الشاه عباس الأول الصفوي حربه على الدولة العثمانية في غرب وشمالي غرب إيران لاسترجاع البلاد التي كان قد تنازل لها عنها للسلطان مراد الثالث قبل حوالي 20 سنة؛ في سنة 933=1585.

 

وسبب هذه الحرب يعود إلى أن السلطان العثماني مراد الثالث، الذي تولى العرش سنة 982=1574، كان قد استغل الفوضى التي دبت بين خلفاء شاه طهماسب عقب موته في سنة 984=1576 وشن حرباً على فارس استولى فيها على أذربيجان، وكانت تعرف باسم شيروان كذلك، وعلى جورجيا ونهاوند وهمذان، ليصل بالإمبراطورية العثمانية إلى أوسع حدودها.

 

والفوضى التي نشير إليها هي أنه لما توفي الشاه طهماسب سنة 984=1576، تولى بعده ابنه حيدر، وقُتِل بعد بضع ساعات قبل دفن أبيه ودفنا معا، ثم تولى بعده أخوه إسماعيل بن طهماسب، وكان له ميل إلى التسنن، وكان يجمع علماء السنة مع علماء الشيعة، وينصر السنة، فتوفي بعد حوالي سنة مسموما في أواخر سنة 985، وخلفه أخوه محمد خُدابند وكان مكفوف البصر فسيطرت زوجته على أموره، واستقوت عليه قبائل القزلباش، وصارت البلاد في حالة مزرية من الفوضى والانقسام.

 

وانتهز السلطان مراد الثالث هذه الفرصة وأرسل الجيوش لمحاربة إيران والاستيلاء على أراضيها، وجعل مربيه لالا مصطفى باشا قائدا لها، فسار بجيوشه في أواخر سنة 1577 إلى إقليمي الكرج وشيروان، جورجيا وأذربيجان اليوم، وكانتا تتبعان الشاه، فاحتل مدينة تبليسي عاصمة الكرج بعد أن هزم جيشاً أرسله الشاه يقوده القائد دقماق، وذلك في معركة حصن جلدر في منتصف سنة 986= 1578، وقسمها إلى أربعة مناطق وعين أمراء لها تابعين للدولة العثمانية، ثم عاد بجيوشه إلى مدينة طرابزون لتمضية فصل الشتاء الذي لا يمكن استمرار القتال في غضونه لشدة البرد وتراكم الثلوج في هذه الأصقاع.

 

ورد الفرس على هذا الاحتلال بحشد جيوشهم بقيادة ولي العهد الأمير حمزة ميرزا، وهاجموا أذربيجان فاضطر حاكمها عثمان باشا إلى إخلاء مدينة شيروان والانسحاب شمالا إلى مدينة دربند، وسار الفرس لحصار مدينة تبليسي ولكن حاميتها دافعت عنها حتى أتى إليها المدد ورفع عنها الحصار عنوة سنة 1579.

 

وفي سنة 991=1583 سار عثمان باشا والي إقليم شيروان ليفتح بلاد الداغستان في الشمال على شاطئ بحر الخزر، المعروف اليوم ببحر قزوين، وسار منها براً عبر جبال القوقاز إلى بلاد القِرِم فسهول روسيا الجنوبية، وكان يريد عزل خان القرم محمد كراي عقابا له على امتناعه عن إرسال جنوده مدداً إلى الدولة العثمانية في الحرب السابقة، فوصل إليها في أسوأ حال بسبب وعورة الطريق ومناوشة الروس له، وبدلاً من أن يحاصر هو مدينة كافا عاصمة الخان، كان محمد كراي في انتظاره مع جيش عظيم من فرسان القوزاق، وحاصر عثمان باشا وجيشه، وكاد أن يهزمه ويبدد جيشه، لولا أن انقلب عليه أخوه إسلام كراي الذي استمالته الدولة العثمانية ووعدته بالإمارة، فخان أخاه ودس إليه من قتله في سنة 1584.

 

وعاد عثمان باشا إلى استانبول وسط مظاهر الابتهاج والتكريم، وعينه السلطان في منصب الصدر الأعظم، وقام عثمان باشا بإعداد جيش عرمرم من 260.000 جندي، وسار إلى أذربيجان فاحتلها دون كثير مقاومة، ثم اتجه جنوباً إلى تبريز عاصمة الشاه فدخلها في أواخر رمضان سنة 993= 1585بعد أن هزم ابن الشاه الأكبر حمزة ميرزا، وكانت هذه رابع مرة يدخل فيها العثمانيون تبريز، فقد سبق لهم انتزاعها من الشاه طهماسب في أيام السلطان سليم الأول في سنة 920=1514 الذي ما لبث أن أخلاها بسبب القحط وغلاء الطعام والأعلاف، ولكنه ساق معه إلى استانبول أكابر بلاد العجم وفضلائها وأماثلها وعظمائها، على ما كانت عليه طريقة الدولة العثمانية، ثم عاد السلطان سليمان القانوني فانتزعها من طهماسب ثانية في سنة 941=1534 وجعل عليها أميراً أذربيجانيا، ثم دخلها مرة ثالثة في سنة 955= 1548.

 

وسلك الوزير عثمان باشا في فتحه تبريز مسلكاً مشيناً دمر فيه مقومات البلد الاقتصادية والسكانية واكتسب به عداوة سكانها وكراهيتهم للعثمانيين، فقد أنهبها جنوده فعادت قاعاً صفصفاً، قال المحبي في خلاصة الأثر ناقلاً عن جده الذي كان مع الجيش العثماني وكتب كتاباً عن رحلته التبريزية: وفي الحقيقة هي من أحسن البلاد الأنيقة، ومعدودة كما هو معلوم من الأماكن الرشيقة، لكن تعرضت لها أيدي الحدثان وكان مقدراً عليها أن تصاب بهذا المصاب في هذا الأوان ... فلما دخل العسكر أُغمِضت عنهم العين فنهبوا ذلك جميعه، واسترقوا أولادهم وعيالهم، وأخذوا أرزاقهم وأموالهم، بحيث لم يتركوا من ذلك شيئاً أصلاً، وتتبعوا البيوت باباً باباً وفصلاً فصلاً، حتى أخذوا الأخشاب وجعلوها أحطابا، ولم يبقوا في المساكن طاقات ولا أبوابا، وكثيراً ما شاهدتُ أماكن ذات أبواب محكمة الصناعة، وآلات حازت من اللطف أنواعه، من عمل الصُّناع العوال، والأساتذة التي ليس لأساتذة بلادنا عندهم مجال، قد كسرت أبوابها فعادت مبنية على الفتح، وهدمت جدرانها من الأساس إلى السطح، فأضحت على عروشها خاوية، بعد أن كانت لأنواع النقوش والزخاريف حاوية، ولم يوجد فيها مكان إلا تهدم، ولم يبق من أكثرها كما قيل إلا دمنة لم تَكَلم!

 

ثم بعد أن أعطى الوزير لأهل تبريز الأمان، ورجع بعضهم إلى المنازل والأوطان، وفتحت بعض الدكاكين والحمامات، وأضحت مأنوسة بأهلها بعض المحلات، اتفق في ذلك الأثناء أن قُتِل في بعض الحمامات بعضُ أشخاص من العسكر، ونقل إلى الوزير أن جماعة من القزلباش مختفين بالمدينة باتفاق من أهلها فغضب من ذلك وتأثر، وأقسم أنه ينتقم من أهالي تبريز غاية الانتقام، وأمر فيهم حيث وجدوا بالقتل العام، واستوعبهم بالقتل واستأصل، وصار حالهم كما قيل

 

فما زالت القتلى تمج دماءها ... بدجلة حتى ماء دجلة أشكل

 

وقُتِلُ عند ذلك آمِنُهم، وأصبحوا لا ترى إلا مساكنهم، بل هي أصبحت مضمحلة لا ترى، ولم يذروا منها عيناً ولا أثرا، بحيث لم يبق منها إلا بعض المواضع، ولم يتركوا منها إلا الثلاث الأثافي والديار البلاقع، ولم يبق من أهلها إلا من كان طفلا، أو صارخة تصرخ صراخ الثكلى، وكان بقي لهم من رزقهم بعض باق، فنهب العسكر ذلك الباقي، ولم يتركوا لهم شيئاً يأكلونه فكادت أرواحهم من الجوع ترقى إلى التراقي، وصار حالهم إلى أسوأ الأحوال، وناهيك بالجرح على قرب الاندمال، وقد نُقل أنه قتل في جملة أولئك جمع من الأشراف الأفاضل، وجماعة من العلماء الأكامل، وكان ذلك فعلاً صادراً من غير رأي صائب، وأمراً يمجه الطبع ويحكم العقل بأنه أمر محذور العواقب، وكان الكف عن هذا الفعل أولى وأحرى، وإن صدر من بعض مجهولٍ جُرم فلا تزر وازرة وزر أخرى.

 

وفي سنة 995 أرسل السلطان فرهاد باشا فاستولى الوزير على لورِستان وهمذان ومناطق في أذربيجان وجورجيا، وظن العثمانيون أن الأمور قد استتبت لهم فيما فتحوه من مناطق.

 

وانتهز الأزبكيون الفرصة فجاءوا من الشمال الشرقي في سنة 995= 1587 وقد أعدوا لغزو كبير يستولون فيه على خراسان، فقام عباس ابن الشاه خدابند،  بخلع أبيه وتولى الحكم وهو في السابعة عشرة من عمره، وجرى ذلك بتدبير من مرشد قولي خان زعيم قبيلة القزلباش والوصي على عباس، والذي أتى به من هراة إلى قزوين عاصمة الصفويين ليعلن خلع الأب ومبايعة الابن، وتمت الأمور بيسر إذ لم يبد الأب أي اعتراض أو مقاومة، وهكذا صار عباس شاه حاكم إيران الإسمي، أما حاكمها الفعلي فكان مرشد قولي خان الذي بث أعوانه في المناصب الكبيرة في الدولة، وأصبح عباس شاه في حكم المحجور عليه في قصره لا حول له ولا قوة.

 

وتابع الأزبكيون والأتراك توسعهم في الأراضي الإيرانية، وفي سنة 996=1588 سار القائد العثماني فرهاد باشا من جورجيا واستولى على كراباخ دون أن يبقى مقاومة تذكر من قبائل القزلباش التركية الأصل، أما الأزبكيون فاستولوا على هراة في سنة 996=1588 وأفنوا سكانها، فسار مرشد ومعه عباس شاه لاسترجاع خراسان، وفي رمضان سنة 997= 1589 دبر عباس شاه مع أربعة من زعماء القزلباش  اغتيال مرشد قولي خان أثناء مأدبة إفطار ليصبح بعدها الحاكم الفعلي لإيران.

 

وكان من أول ما فعله الشاه عباس أن وقع معاهدة مع العدو الأقوى ليستطيع مواجهة العدو الأضعف، فأنهى الحرب مع الدولة العثمانية بمعاهدة وقعها مع فرهاد باشا في 14 جمادى الأولى سنة 998=21/3/1590 تنازل بموجبها للدولة العثمانية عن جورجيا وأذربيجان وإقليم لورستان ومدينة تبريز، وكانت هذه تسوية تحمل بذور انتقاضها، فما كان للدولة الصفوية أن تقبل بخسارة تبريز ولو طال الزمن، واتجه عباس لبناء جيش قوي يستطيع بواسطته طرد الأزبكيين ثم استرجاع ما خسره من بلدان في اتفاقية فرهاد باشا المذلة، وبحلول سنة 1010 كان قد استرد من الأزبكيين ما أخذوه من أراضي إيران ومنها هراة ومشهد.

 

وتوفي السلطان مراد الثالث في 8 جمادى الأولى سنة 1003= 1595، عن 50 سنة، وبعد حكم دام حوالي 21 سنة، وتلاه ابنه محمد الثالث، وكان عمره 29 سنة، والذي ترك الأمور في يد وزرائه فتسلطوا على البلاد والعباد، وباعوا المناصب، وتلاعبوا بعيار العملة، وكانت والدته السلطانة صفية سيدة ذات شخصية قوية، فتدخلت في أعمال السلطنة مما زاد الأمور تعقيداً.

 

وكان من الطبيعي أن ينتهز أعداء السلطنة هذه الفرصة، وتمرد في رومانيا أميرها ميخائيل وساعدته النمسا واستطاع هزيمة الجيوش العثمانية مرة تلو الأخرى، ودبت الحمية في السلطان محمد الثالث فسار إلى ميدان الحرب، وحقق انتصارات بارزة أعادت للدولة العثمانية هيبتها بين الشعوب التي تحكمها والدول التي تجاورها، واستمرت هذه الحرب من 1593 إلى 1606 ولذا سميت بحرب السنين الخمس عشرة.

 

ولكن لم يستطع السلطان محمد الثالث التخلص من نفوذ والدته ولا من الحاشية الفاسدة المتنافسة التي أحاطت به، وأخفى الطرفان عنه ما يجري في داخل البلاد، وبسبب من ذلك واجه السلطان سلسلة لا تنتهي من المشاكل الداخلية، منها سلسة من أحداث التمرد الداخلي اصطلح على تسميتها جميعاً: التمرد الجلالي، واندلع تمرد في الأناضول في سنة 1009=1600 قامت به إحدى فرق الجيش العثماني التي نفيت إليه بسبب فرارها من المعركة، وتزعم التمرد رجل اسمه عبد الحليم قره يازجي ثم أخوه حسن، وانضم إليه والي ولاية قرمان، واستفحل أمر التمرد، فلجأت الدولة إلى السياسة مع حسن يازجي وأجزلت إليه العطايا وأغدقت عليه الهبات، ثم عرضت عليه ولاية البوسنة، فقبل وسافر إليها بأتباعه وجنوده واضمحل شأنه وباد عسكره في المعارك مع دولة المجر والنمسا.

 

وجاءت ثالثة الأثافي بتمرد جنود السِباه، أي الخيالة، والذين طلبوا أن تعوضهم الدولة ما فقدوه من ريع الإقطاعات المعطاة بسبب الفتنة السابقة، ولما كانت خزائن الدولة خاوية، ولم يكن في وسع الدولة تلبية طلبهم، تمردوا وثاروا وطالبوا بإعطائهم مما في المساجد من التحف الذهبية والفضية، فاستعانت الدولة عليهم بجنود الإنكشارية وقمعتهم بعد اشتباكات دامية، ولو أن الإنكشارية انضموا لهم لكان في ذلك نهاية الدولة العثمانية، ودفع ثمن هذا التمرد عدد من الوزراء الذين قتلهم المتمردون.

 

وعلى الجانب الإيراني مقابل هذه الأحداث كان الشاه عباس منذ أن وقع اتفاقية التنازل قد صرف عنايته لإصلاحات إدارية ومالية تمكنه من إعداد جيش دائم قوي ومدرب، فلا يبقى تحت رحمة أمراء الأقاليم وقبائل القزلباش وما يقدمونه له من جنود في حالة الخطر أو الحرب، فحول الإقطاعات التي كانت الدولة تمنحها لهؤلاء إلى أراض تتبع خزينة الدولة، ونزع الإمرة المتوارثة عن أمراء عدد من المناطق وجعل من خَلَفهم موظفين تابعين لحكومته، فأصبح يتحكم بنصف أراضي مملكته ويحصل على دخلها مباشرة، وخشية من أي ينقلب عليه أمراء أسرته، بدّل الشاه عباس تقاليد فارس التي تقضي بأن يكون أمراء الأسرة الحاكمة أمراء على الأقاليم، وقلد العثمانيين في أن جعل أمراء أسرته رهن حرم قصورهم لا يختلطون بالناس ولا يمارسون شيئاً من أمور الحكم، ولم يتردد في قتل ابنه محمد باقر ميرزا في سنة 1023= 1615 عندما شك في أنه قد يحاول الإطاحة به.

 

وعلى الصعيد العسكري قلد الشاه عباس نظام الإنكشارية لدى العثمانيين، وأنشأ قوات من الأسرى الذي اعتنقوا الإسلام، ويدعى واحدهم غلام، وأغلبهم من أصول جورجية أو شركسية أو كردية، وكان ساعده الأيمن في ذلك قائد جيشه المدعو الله وردي، وهو أسير جورجي اعتنق الإسلام، وأبدى من الكفاءة والولاء للشاه عباس، ما جعله يصبح خلال فترة وجيزة الرجل الثاني في الدولة، واستعان الشاه عباس بنبيل إنجليزي مأجور يدعى السير روبرت شيرلي، قام بتدريب جيشه ومدفعيته على أحدث الطرق الأوروبية، وبفضل ذلك كله، أصبح لديه جيش دائم  يتألف من 3.000 جندي هم حرس الشاه، و10.000 خيال، و مدفعية تتكون من 12.000 جندي مع 500 مدفع، وإلى جانبهم 12.000 جندي مشاه مسلحين بالبنادق النارية التي كانت قد اخترعت حديثاً.

 

وكأي زعيم حاذق التفت الشاه عباس إلى النهوض بالفرد العادي، فشجع الحرفيين على إحياء حرفهم وصناعاتهم المختلفة وخفف الضرائب عليهم، وأنصف اليهود والأرمن وغيرهم من الطوائف من تعدي وجور الموظفين والمسؤولين، وفتح أسواق بلاده للتجار فراجعت سلع إيران وازدهرت الصناعات والاقتصاد في عهده ازدهاراً تضاعفت معه ثروة البلاد، قال المحبي في خلاصة الأثر: وللشاه عباس في سياسة الرعية والرعاية لجانبهم والذب عنهم، وإكرام التجار الواردين إلى بلاده من أهل السنة أحوالٌ مستفيضة شائعة، وبالجملة فلم يجئ من سلسلتهم مثله.

 

وجعل الشاه عباس عاصمته أصفهان بدلاً من قزوين، ونقل إليها جبراً آلافاً من الحرفيين والصناع من الأرمن والأتراك والفرس، ولا تزال عظمته ظاهرة في ميدانها الفريد الجميل الذي أسماه: نقش جهان، أي صورة العالم، فكأنه أراد أن يجمع الدنيا في ميدانه، الذي تغير اسمه إلى شاه ميدان ثم إلى إمام ميدان، وبنى الشاه عباس في أصفهان المساجد والمدارس والقصور والأسواق والخانات حتى بزت عواصم أوروبا في ذلك الوقت، وصار عدد سكانها أكثر من نصف مليون، وفتح الشاه عباس بلاده للمرسلين الكاثوليك ليقوموا بالدعوة لمذهبهم بين نصارى إيران، وكان يأمل أن يستثمر ذلك في كسب ود الدول الغربية، والتحالف معها لحصار الدولة العثمانية من الشرق ومن الغرب.

 

ولما قدر الشاه عباس أن الفرصة قد حانت ليثأر من العثمانيين ويستعيد تبريز وغيرها من المناطق التي كانت خاضعة لإيران، شن هجومه في 19 ربيع الآخر من عام 1012 = 26/9/1603، أي  بعد 12 سنة من الاتفاقية التي تنازل فيها عن هذه المناطق.

 

ولم يكن العثمانيون يتوقعون أن يهاجمهم الصفويون على جبهتين متباعدتين، بل لم يكونوا مستعدين لهجوم واحد، ولذلك كانت خسائرهم فادحة ومتلاحقة، فسقطت نهاوند في يد الشاه عباس الذي هدم قلعتها ليحرم العثمانيين من التحصن فيها إن استولوا على نهاوند ثانية، ثم استعاد تبريز في 15 جمادى الأولى سنة 1012=21/10/1603، مستفيداً لأول مرة من الإسناد المدفعي، ورحب أهل تبريز بالجيش الصفوي وأمعنوا فتكاً وتمثيلاً بكل من وقعت عليه أيديهم من الأتراك، انتقاماً مما فعلوه بهم عند استيلائهم على المدينة، وبعدها بأيام استولى الصفويون على نخجوان في الشمال بعد أن انسحب منها العثمانيون، ثم حاصروا يروان، واستولوا على تبليسي وعلى وسط وشرق جورجيا، وعادت إلى الشاه عباس الأراضي التي تنازل عنها قبل سنوات.

 

وفي 12 رجب سنة 1012= 16 كانون الأول/ديسمبر 1603، توفي السلطان العثماني محمد الثالث، وترك البلاد بعد حكمه لها 9 سنين في حالة يرثى لها من الفوضى الداخلية والمخاطر الخارجية، وتولى الحكم من بعده ابنه أحمد الأول الذي أرسل القائد جيكالا باشا، وأصله من جنوا الإيطالية، على رأس جيش سار من استانبول في صيف 1604 ليصل بعد حوالي 5 أشهر إلى ميدان القتال ويجد أن الصفويين قد احتلوا يروان واتجهوا منها نحو قارص، وبدلا من أن يهاجم قوات الشاه عباس تذرع جيكالا باشا بفصل الشتاء لتأجيل المواجهة وألقى أحماله في وان، ولكن قوات الشاه بدأت في التقدم نحو أرضروم أهم مدن الشرق في تركيا، فتحرك مضطراً لإيقافها، وأثار تباطؤ جيكالا باشا كثيراً من الاستياء في صفوف القوات العثمانية.

 

وفشل جيكالا باشا في تحقيق أية انتصارات، فقد هزمه الصفويون قرب بحيرة أورميا هزيمة منكرة في  منتصف سنة 1014= آخر 1605، وهزموا كذلك قوات والي أرضروم، وانسحب العثمانيون إلى قلعة وان ثم منها جنوباً باتجاه ديار بكر، وتوفي جيكالا باشا أثناء الانسحاب، وبحلول منتصف سنة 1606 كان الشاه عباس قد استرجع ما أعطاه للعثمانيين في أذربيجان.

 

وركزت الدولة العثمانية جهودها على الحرب في الجبهة الأوروبية وقاد جيوشها الصدر الأعظم لالا محمد صقولو زاده باشا، وحقق نجاحات على الجبهة الهنغارية مهدت لعقد اتفاقية صلح في سيستوفا، وبعد ذلك عين السلطان أحمد لالا محمد باشا قائداً للجبهة الشرقية على أمل أن يحقق فيها ما حققه في الغرب، ولكنه توفي فجأة في أول سنة 1014= منتصف سنة 1605.

 

ولم يكن الشاه عباس وحده في استغلال ما مرت به الدولة العثمانية من تخبط واضطرابات وتمرد، ففي إطار ما يسمى التمرد الجلالي، ظهر متمردون كثير منهم والي حلب جان بولاد الكردي، والأمير فخر الدين المعنيّ الدرزي في لبنان، وقوي سلطان المتمردين واتسعت أراضيهم، وصارت هيبة الدولة على المحك.

 

وفي سنة 1015= 1606 عين السلطان عجوزاً تجاوز الثمانين في منصب الصدر الأعظم، وهو الوزير مراد باشا الملقب بقويوجي، الذي كان والياً على دمشق في نحو سنة 1001، وكان السلطان قد تزوج ابنته، فقرر الصدر الأعظم الجديد أنه قبل مواجهة الصفويين لا بد من القضاء على الفوضى والتمرد الداخلي، ورغم كبر سنه ووهن قواه قاد مراد باشا الجيوش وحارب المتمردين بهمة وصرامة حتى استتابهم أو أفناهم، ويقدر عدد من قتلهم في الأناضول بعشرات الألوف، ولكثرة من أذاقهم المنية لقب بقويوجي أي حفار القبور، وبفضل هذه الصرامة الدموية عاد شيء من الاستقرار الداخلي إلى ربوع الدولة العثمانية.

 

ولما بدا أن مراد باشا بدأ ينجح في سحق المتمردين وإعادة النظام، أدرك الشاه عباس ما يحمله ذلك من أخطار عليه، إذ لا قبل له وحده بمواجهة الدولة العثمانية إن كانت قوية متعافية، فأرسل في سنة 1608 السير روبرت شيرلي في مهمة دبلوماسية إلى الملك جيمس الأول ملك إنجلترا وغيره من أمراء وملوك أوروبا، على أمل تجميعهم في جبهة واحدة يتحالف معها الشاه عباس ضد الدولة العثمانية التي سيصبح عليها أن تقاتل مجدداً على جبهتين، وزار شيرلي ملوك وأمراء بولندا وألمانيا والبابا وفلورنسا وميلانو وجنوا وبرشلونة، ومنحه أغلبهم ألقاب النبالة، ولكن لا توجد أية دلائل على نجاحه في بناء التحالف أو حصوله على مساعدات غير ما اشتراه الشاه بأمواله.

 

وبعد ذلك اطمئنانه للجبهة الداخلية سار مراد باشا على رأس جيشه في سنة 1610 إلى تبريز لقتال الشاه عباس، ورغم تقابل الجيشين إلا أنهما لم يقتتلا، فقد كان تقدير مراد باشا أن ميزان القوى ليس في صالحه، ولذا انسحب في الشتاء إلى ديار بكر، وبدأ مراسلات ذات طابع تفاوضي مع الشاه عباس، وهو في الوقت ذاته يعد لحملة أخرى، وفي أثناء ذلك توفى هذا الوزير في سنة 1020= 1611 عن أكثر من 90 سنة، وعين السلطان محله نصوح باشا في منصب الصدر الأعظم وقائد الجبهة الشرقية.

 

وأجرى نصوح باشا مباحثات مع الشاه عباس الذي كان يسعى لاتفاق سلام بعد أن حقق أهدافه، ولأجل ذلك أرسل نصوح باشا دفترداره الشيخ خضر بن حسين المارديني الحلبي للتباحث مع الفرس، وتمخضت هذه المفاوضات عن اتفاقية وقعها الطرفان في أواخر 1021=1611 ودعيت باسم اتفاقية نصوح باشا، وتضمنت أن تترك الدولة العثمانية للصفويين جميع الأراضي التي استولوا عليها، وكانت هذه أول معاهدة تتنازل فيها الدولة العثمانية عن أراضيها.

 

ولم يدم هذا الصلح طويلاً، فقد كانت الاتفاقية تتضمن أن يقدم شاه إيران 200 حمل حرير للسلطان العثماني، ولكنه امتنع عن إرسالها فأعلنت السلطنة الحرب عليه من جديد، وفي سنة 1025=1616حاصر الصدر الأعظم داماد محمد باشا مدينة يروان مدة شهرين دون أن يستطيع فتحها، فعاد لحلول الشتاء إلى ديار بكر.

 

وفي آخر سنة 1026=1617 توفي، عن 39 سنة، السلطان محمد الثالث، ولصغر سن ابنه أوصى بالملك لأخيه المولود سنة 1001: مصطفى الأول، والذي لم يبق في الملك إلا 3 أشهر، عزلته بعدها الحاشية لاختلال عقله وأقاموا مكانه السلطان عثمان الثاني ابن السلطان أحمد، وكان عمره 14 سنة، وقام الصدر الأعظم محمد باشا بحشد جيش كبير من 100.000 جندي، وكانت خطته أن يغزو أذربيجان ثم تبريز ومنها إلى أردبيل وقزوين، وعلم الشاه عباس بهذا الحشد، وقدر الخطة التي رسمها محمد باشا، وكانت خطته المضادة أن يستدرجه للعمق الإيراني ثم يقضي عليه، وهكذا كان، واغتر محمد باشا باستيلائه على تبريز فسار منها لحصار أردبيل، وهي مدينة مقدسة عند الصفويين لكونها مقر الطريقة الصوفية التي يعود إليها أصلهم، وكمن له الشاه عباس بجنوده في منطقة سراب فانقضوا عليه في 20 رمضان سنة 1027= 10/9/1618، وأوقعوا به هزيمة بالغة قتل فيها 3 من كبار قواده وأسر اثنان، وتمكن الوزير من لم شعث الجيش، وانتهى الأمر بعد أسبوعين بمعاهدة أردبيل التي خفضت أحمال الحرير إلى 100 حمل بدلاً من 200.

 

وفي سنة 1031=1622 تمردت القوات الإنكشارية بتأييد من العلماء على السلطان عثمان الثاني وقتلته، وتدعى هذه الحادثة في التاريخ العثماني: هائلة عثمانية، وأعادت الحاشية السلطان مصطفى الأول رغم اختلاله العقلي، وانتهز هذه الفوضى ولاة الأقاليم فأعلن والي طرابلس الشام انفصاله، ثم تبعه محمد أباظا باشا والي أرضروم، وتبعه من في سيواس وقره شهر، وادعى بعضهم أن حركته للمطالبة بدم السلطان عثمان الثاني، وفي نهاية المطاف عادت الحاشية فعزلت السلطان مصطفى الأول في آخر سنة 1032=1623 وولوا مكانه ابن السلطان أحمد: السلطان مراد الرابع، وكان عمره 14 سنة.

 

ورغم المعاهدات السابقة قام الشاه عباس باحتلال بغداد في 3 ربيع الآخر سنة 1033=26/1/1624، ولذلك قصة ملخصها أن رئيس الشرطة في بغداد بكر باشا قتل واليها واستولى عليها، وطلب من السلطان أن يجعله والي بغداد، فرفض ذلك السلطان وأرسل حافظ باشا والي ديار بكر لقتاله واسترداد بغداد، فطلب بكر من الشاه عباس مساعدته لقتال العثمانيين، على أن ينضوي تحت سلطته، ويبقى والياً على بغداد، وظن بكر أنه يلعب على الحبلين ويضرب هذا بذاك، ولما سمع بذلك حافظ باشا استرضى بكراً حتى أعلن ولاءه للسلطان من جديد، ولكن الشاه عباس أتى بعسكره إلى بغداد، وحاصرها حصاراً مضيضاً، فسلمها إليه محمد بن بكر مضحياً بوالده، فدخل الشاه عباس بغداد وبغى وطغى، وقتل بكراً وجميع أهله شر قتلة، وقتل كبار علمائها ونال من رموز السنة فيها مثل أبي حنيفة وعبد القادر الجيلاني، ثم خرج الشاه منها، وأقام فيها خاناً من خاناته، واستولى الشاه عباس بعدها على الموصل وكركوك، والنجف وكربلاء اللتين زارهما الشاه وقد أصبح حاكم العراق دون منازع، وبدأ فيها سياسة لتحويلها إلى بلد شيعي المذهب فارسي اللسان والثقافة.

 

وكانت تلك ضربة من أقسى الضربات التي تلقتها الدولة العثمانية حتى ذلك التاريخ، فأعدت جيشاً قاده أحمد باشا الحافظ، والي دمشق الذي عين في منصب الصدر الأعظم، ورغم محاولات الشاه المستميتة استطاع هذا الجيش الوصول إلى بغداد في سنة 1035= 1625 وحاصرها من ثلاث جهات واستطاع اختراق أسوارها الأولية بنسفها بالبارود، فأسرع الشاه عباس بجيشه وهاجم العثمانيين وحاصرهم وقطع عليهم الإمدادات حتى رفعوا الحصار.

 

وفي مساعيه للحصول على أحدث التقنيات العسكرية بدأ الشاه عباس في اتصالات مع الدول الأوربية وعلى رأسها بريطانيا، وفي سنة 1627 تلقى في عاصمته قزوين السير دودمور كوتون أول سفير بريطاني إلى إيران، والذي جاء بصحبته المرتزق السير روبرت شيرلي الذي لقي نحبه في منتصف سنة 1628.

 

في سنة 1038=1629 عاود العثمانيون الكرة على بغداد وقاد الجيش العثماني الغازي خسرو باشا، ولكن الشتاء القارس والأمطار والفيضانات في العراق جعلت الحرب متعذرة، وتوفي في هذه الأثناء الشاه عباس بأصفهان في 25 جمادى الأولى سنة 1038=1629، وكان عمره يناهز 60 سنة، وتولى بعده حفيده شاه صفي بن محمد الباقر ميرزا، وكان في الثامنة عشرة من عمره، فانتعشت آمال الدولة العثمانية في الانتصار، وقرر خسرو باشا أن يهاجم الشاه في عقر داره، واتجه إلى إيران وهزم القائد الإيراني زين العابدين بكدلي في موقعة مهدي دشت قرب كرمانشاه في 21 رمضان سنة 1038=4/5/1630، ثم هاجم بعدها همذان وأنهبها جنوده وتركها خرابا.

 

ومع وفاة الشاه عباس وتولي حفيده شاه صفي المعروف بعكوفه على اللهو والملذات، بدأت المتاعب تطل برأسها في فناء الدولة الصفوية، فتمردت بعض الأقاليم في جورجيا، وقوى هذا من موقف العثمانيين فرفض الصدر الأعظم عرضاً فارسياً بطلب الصلح.

 

وفي المقابل كان عود السلطان مراد الرابع يشتد واستقلاله بالدولة يزداد، وبدأ فمنع والدته من التدخل في شؤون الدولة منعاً باتاً، فانكفأت في قصرها إيذانا بتغير كبير، وأعقب ذلك مراد بتعقب كل المتمردين والمتحكمين في الدولة، سواء من ظهر منهم أو احتجب وراء الستار، فبطش بهم قتلاً وسجناً ونفياً حتى خشي سطوته القاصي والداني، ثم سار في سنة 1044 على رأس جيش جرار لاستعادة ما خسرته الدولة العثمانية من أراض، وحقق الجيش انتصارات غير متوقعة واستطاع دخول تبريز، ولكن الشاه صفي استعاد تلك المناطق بعد شهور، فما كان من السلطان مراد إلا أن توجه بنفسه في سنة 1048=1638 فحاصر بغداد مصمماً ألا يعود إلا وقد استعادها، ودام الحصار 40 يوماً، وقتل في أثنائه الصدر الأعظم محمد باشا الطيار برصاصة أصابته في جبينه، فأشبه والده والي بغداد الأسبق الذي استشهد قبل سنين في بغداد برصاصة صفوية، واستسلمت حامية بغداد بعد أن وصلت مدافع الحصار الثقيلة إلى الجيش العثماني عن طريق نهر دجلة، ورفض الاستسلام 20.000 جندي صفوي كانوا في قلعتها الداخلية، فأبيد أغلبهم في قتال دموي.

 

وأمر السلطان مراد بإزالة القاذورات من مرقد الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان ومرقد الشيخ عبد القادر الجيلاني، وأمر بتجديد عمارة محليهما وأحكم أمرهما غاية الإحكام، وأخرج السلطان مراد عدداً كبيراً من شيعة بغداد وبثهم في أنحاء العراق، وأتى بعشرات الألوف من سكان الأناضول وأسكنهم بغداد، ولما قيل له أن يزور قبر أبي حنيفة قال: إنني خجل من أزوره في هذه الحالة. ثم زاره لاحقاً بعد أن تم إصلاح المسجد والقبر.

 

وكان الشاه صفي أثناء حصار بغداد قد طلب من السلطان مراد التفاوض على الصلح فأبى، فلما فتحها أجابه إلى ذلك، وبعد مفاوضات دامت 10 أشهر وقع الطرفان في 21 جمادى الأولى سنة 1049=19/9/1639 اتفاقية زُهاب أو قصر شيرين والتي حددت حدود الدولة العثمانية الشرقية، وهي أساس الحدود الدولية اليوم التي تضم تركيا وأرمينيا والعراق وإيران، وبذلك انقطع تماماً الوجود الإيراني في العراق.

 

وعاد السلطان مراد إلى استانبول والمرض يستشري فيه يوماً بعد يوم، ولما وصلها خلَّد هذه الفتح العظيم بأن أمر المعمار قاسم آغا بإنشاء كشك بغداد الذي يعتبر من روائع العمارة العثمانية، وذلك قبل شهر من وفاته في 16 شوال سنة 1049=9/2/1640، وكان عمره 28 سنة، وما لبث ملك إيران شاه صفي أن توفي بعد قرابة 3 سنوات في 12 صفر 1052=12/5/1642.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين