من الخصائص العامة للإسلام الربانية  – 2 –

 

تحدثنا عن المعنى الأول للربانية: وهو ربانية الغاية والوجهة وما لها من آثار في النفس وفي الحياة , ونتحدث اليوم عن:

ربانية المصدر والمنهج:

المعنى الثاني للربانية: 

وهو ربانية المصدر والمنهج، ونعني به أن المنهاج الذي رسمه الإسلام للوصول إلى غاياته وأهدافه منهج رباني خالص، لأن مصدره وحي الله تعالى إلى خاتم رسله محمد صلى الله عليه وسلم.

لم يأت هذا المنهاج نتيجة لإرادة فرد، أو إرادة أسرة، أو إرادة طبقة أو إرادة حزب، أو إرادة  شعب، وإنما جاء نتيجة لإرادة الله، الذي أراد به الهدى والنور، والبيان والبشري، والشفاء والرحمة لعبادة، كما قال تعالى يخاطبهم:[يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا] {النساء:174}.

[يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ] {يونس:57}.

وقال يخاطب رسوله صلى الله عليه وسلم:[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] {الأنبياء:107} . [...وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ] {النحل:89}. 

[كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ العَزِيزِ الحَمِيدِ] {إبراهيم:1}.

موضع الرسول من هذا المنهاج الإلهي:

الله تعالى هو صاحب هذا المنهاج، ولهذا يضاف إليه فيقال: المنهاج الله أو ـ صراط الله ـ على حد تعبير القرآن العزيز، وإضافته إلى الله تعني أن الله ـ جل شأنه ـ هو واضعه ومحدده، كما أنه غايته ومنتهاه.

أما الرسول صلى الله عليه وسلم فهو الداعي إلى هذا المنهاج أو هذا الصراط، المبين للناس ما اشتبه عليهم من أمره، يقول تعالى يخاطب رسوله: [وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الكِتَابُ وَلَا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلَا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الأُمُورُ] {الشُّورى:53}.

ويقول تعالى [وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآَنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ(15) قُلْ لَوْ شَاءَ اللهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ(16) ]. {يونس}.  ويقول [وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى(1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى(2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الهَوَى(3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى(4) ]. {النَّجم}.. 

ومن تدبر القرآن الكريم وجد الرسول صلى الله عليه وسلم، فيه مجرد عبد مأمور تخاطبه سلطة أعلى منه، محيطة به، قادرة عليه، تملك عتابه ولومه إذا اجتهد فأخطأ في بعض الأمور، كما في قصة ابن أم مكتوم، وأسرى بدر، والمنافقين المتخلفين في غزوة تبوك، وزينب بنت جحش، وغيرها، فالحقيقة أن القرآن هو كلام الله وحده وتنزيل رب العالمين.

فليس لمحمد صلى الله عليه وسلم من هذا القرآن إلا التلقي والحفظ :[سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى] {الأعلى:6}. ثم التبليغ والدعوة:[يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ] {المائدة:67}. ثم التفسير والبيان:[ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ] {النحل:44}. 

والسنة التي بينت القرآن، هي نفسها وحي إلهي، ولكنه وحي غير متلو ولا معجز كالقرآن الكريم.

وما جاء في هذه السنة عن طريق الاجتهاد، فإن الله تعالى لا يقره على الخطأ فيه، بل ينزل الوحي مصححاً ومصوباً.

ميزة الإسلام بين المناهج القائمة في العالم:

إن الإسلام هو المنهج أو المذهب أو النظام الوحيد في العالم، الذي مصدره كلمات الله وحدها، غير محرفة ولا مبدلة ولا مخلوطة بأوهام البشر، وأغلاط البشر، وانحرافات البشر.

والمناهج أو الأنظمة التي نراها في العالم إلى اليوم ثلاثة، فيما عدا الإسلام طبعاً:

1 ـ منهج أو مذهب أو نظام مدني بشري محض، مصدره التفكير العقلي أو الفلسفي لبشر فرد، أو مجموعة من الأفراد كالشيوعية والرأسمالية والوجودية وغيرها.

2 ـ منهج أو نظام ديني بشري كذلك، مثل الديانة البوذية القائمة في الصين واليابان والهند والتي لا يعرف لها أصل إلهي، أو كتاب سماوي فمصدرها إذن فكر بشري.

3 ـ منهج أو مذهب ديني محرف، فهو ـ وإن كان إلهياً في أصله ـ عملت فيه يد التحريف والتبديل، فأدخلت فيه ما ليس منه، وحذفت منه ما هو فيه ،واختلط فيه كلام الله بكلام البشر، فلم يبق ثمة ثقة مصدره، وذلك كاليهودية والنصرانية، بعد ثبوت التحريف في التوراة والإنجيل نفسيهما فضلاً عما أضيف إليهما من شروح وتأويلات ومعلومات بشرية، بدلت المراد من كلام الله تعالى.

أما الإسلام فهو المنهج الفذ الذي سلم مصدره من تدخل البشر وتحريف البشر، ذلك أن الله تعالى تولى حفظ كتابه ودستوره الأساسي بنفسه وهو القرآن المجيد، وأعلن ذلك لنبيه ولأمته فقال:[إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ] {الحجر:9}. 

وكان وعد ربي حقاً، فقد صدقت القرون المتوالية ـ على رغم ما حل بالمسلمين فيها من كوارث مروعة، ونوازل هائلة ـ هذه النبوءة القرآنية، وبقي القرآن، كما أنزله الله، وكما تلاه محمد صلى الله عليه وسلم، وكما نقله عنه أصحابه، وتلقاه عنهم من تبعهم بإحسان، ولم تزل الأجيال تلو الأجيال تتوارثه وتتعبد بتلاوته وترتيله وحفظه وكتابته، ولا عجب أن ظل ـ كما كان ـ مكتوباً في المصاحف متلواً بالألسنة، محفوظاً في الصدور، منقولاً إلينا نقلاً حرفياً، بنفس طريقة كتابته، منذ عهد عثمان، وبطريقة تلاوته ونطقه منذ العهد النبوي، حتى أصوات الغُنّ والمد والإظهار والإدغام، والإقلاب والإخفاء.

من ثمرات ربانية المصدر:

وإذا كان للربانية بالمعنى الأول ـ ربانية الغاية ـ تلك الثمرات والمزايا التي ذكرناها من قبل، فإن للربانية بالمعنى الثاني ـ ربانية المصدر والمنهج ـ مزايا وثمرات، لعلها أعظم خطراً، وابعد أثراً.

وكل هذه المزايا والثمرات نتيجة لسبب واحد، هو كمال الله تعالى، صاحب هذا المنهج ومصدره، أما المناهج الأخرى، فيلازمها نقص البشر وعجز البشر، وقصور البشر.

1 ـ العصمة من التناقض والتطرف:

من هذه المزايا أو الآثار: العصمة من التناقض والاختلاف الذي تعانيه المناهج والأنظمة البشرية والمحرفة.

فالبشر ـ بطبيعتهم ـ يتناقضون ويختلفون من عصر إلى عصر، بل في العصر الواحد من زمن إلى آخر، ومن قطر إلى قطر، بل في القطر الواحد من إقليم إلى آخر، وفي الاقليم الواحد من بيئة إلى أخرى، وفي الأمة الواحدة من شعب إلى آخر، وفي الشعب الواحد من فئة إلى أخرى، وفي الفئة الواحدة من فرد إلى آخر، بل في الفرد الواحد من حالة إلى أخرى، ومن وقت إلى آخر.

فكثيراً ما رأينا تفكير الفرد من مرحلة الشباب بناقض تفكيره في مرحلة الكهولة، أو الشيخوخة وكثيراً ما وجدنا آراءه ساعة الشدة والفقر، تخالف آراءه في ساعة الرخاء والغنى.

فإذا كانت هذه هي طبيعة العقل البشري، وضرورة تأثره بالزمان والمكان والأوضاع والأحوال، فكيف نتصور براءته من التناقض والاختلاف فيما يضعه من مناهج للحياة، سواء أكانت مناهج للتصور والاعتقاد، أم للعمل والسلوك؟ أن الاختلاف والتناقض لازمة من لوازمه لا ريب، وصدق الله العظيم إذ يشير إلى ذلك فيقول:[أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ القُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا] {النساء:82}.

ومن مظاهر هذا التناقض ما نراه ونلمسه في كل الأنظمة البشرية والدينية الوضعية والمحرفة، من إفراط أو تفريط، كما هو واضح من موقفها من الروحية والمادية، أو من الفردية والجماعية، أو من الواقعية والمثالية، أو من العقل والقلب، أو من الثبات والتطور، وغيرها من المتقابلات، التي وقف كل مذهب أو نظام عند طرف منها مغفلاً الطرف الآخر، أو جائراً عليه:

والسر في هذا ـ بعد القصور البشرى العام ـ أن تكفير الإنسان في وضع فلسفة أو منهاج، أو مذهب، غالباً ما يكون نتيجة ـ مباشرة أو غير مباشرة ـ لرد فعل، وانعكاساً لأوضاع آنية وأحوال بيئة، تؤثر في تصوره للأشياء، وحكمة على الأمور، شعر أو لم يشعر، شاء أم لم يشأ.

ولا يستطيع منصف أن ينزه أكابر الفلاسفة ـ وإن توافر فيهم الإخلاص في طلب الحقيقة ـ من التأثر بأزمانهم وبيئاتهم، فضلاً عن التأثر بوارثاتهم وأمزجتهم الشخصية.

2 ـ البراءة من التحيز و الهوى:

ومن ثمرات هذه الربانية في الإسلام:اشتماله على العدل المطلق، وبراءته من التحيز والجور وإتباع الهوى، مما لا يسلم منه بشر، كائناً من كان.

أجل، لا يخلو بشر غير معصوم، مهما يعل كعبه في العلم والتقى ـ من التأثر بالأهواء والميول والنزعات الشخصية والأسرية والإقليمية والحزبية والقومية، وإن كان في ظاهر أمره يرغب في الإنصاف، ويحرص على الحياد.

فإذا كان لهذا البشر هوى معين، أو ميول خاصة، توجهه وتلون تفكيره وتميل بحكمة إلى حيث يهوى ويحب، فهذه هي الطاقة فقد اجتمع فيها الهوى المتبع إلى القصور البشري الذاتي، فزاد الطين بلة، [وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللهِ] {القصص:50}.

وقد قال الله لنبيه داود: [يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ] {ص:26}. 

وسبيل الله هو سبيل الحق والعدل، المنزه عن التحيز والجور والانحراف.

ومقتضى ما ذكرناه: أنه لا يسلم منهج أو نظام وضعه البشر أو تدخلوا فيه من التأثر بالأهواء المضلة عن سبيل الله، المتحيزة إلى جانب دون جانب، أو فريق دون فريق.

أما نظام الله، أو منهاج الله، فقد وضعه رب الناس للناس، وضعه من لا يتأثر بالزمان والمكان لأنه خالق الزمان والمكان، ومن لا تحكمه الأهواء والنزعات، لأنه المنزه عن الأهواء والنزعات، ومن لا يتحيز لجنس ولا لون ولا فريق، لأنه رب الجميع، وكلهم عباده، فلا يتصور تحيزه لفئة دون أخرى، ولا لجيل دون غيره، ولا لشعب على حساب غيره من الشعوب.

ومن ثم اعتبر القرآن ما عدا شريعة الله وحكه (أهواء) يجب الحذر منها ومن أصحابها، يقول تعالى لرسوله: [ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ] {الجاثية:18}. [وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ] {المائدة:49}.

3 ـ الاحترام وسهولة الانقياد:

ومن ثمرات هذه الربانية كذلك أنها تضفى على النظام أو المنهاج الرباني قدسية واحتراماً لا يظفر بهما أي نظام أو منهج من صنع البشر.

ومنشأ هذا الاحترام والتقديس اعتقاد المؤمن بكمال الله تعالى، وتنزهه عن كل نقص، وفي خلقه وأمره، إنه تعالى أحسن كل شيء خلقه، وأتقن كل شيء صنعه، كما قال في كتابه:[ صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ] {النمل:88} .وكذلك أحكم كل شيء شرعه، وكل كتاب أنزله، كما قال تعالى عن القرآن الكريم:[ كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ] {هود:1}. 

فهو الحكيم فيما خلق وقدر، والحكيم فيما أمر ونهى: [مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ] {الملك:3}. ولا تجد في شرع الرحمن من تهافت، فتبارك الله أحسن الخالقين وأحكم الحاكمين.

ويتبع هذا الاحترام والتقديس: الرضا بكل تعاليم هذا النظام وأحكامه، وتقبله بقبول حسن، مع انشراح الصدر، واقتناع العقل، وطمأنينة القلب فهذا من موجبات الإيمان بالله ورسوله:[فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا] {النساء:65}.

ويلزم من هذا الاحترام والتقديس وحسن القبول: المسارعة إلى التنفيذ والسمع والطاعة في المنشط والمكره، دون تلكؤ أو تكاسل، أو تحايل على الهرب من تكاليف النظام والتزاماته، والتقيد بأوامره ونواهيه.

ونكتفي هنا بضرب مثلين يبينان مواقف المسلمين والمسلمات في العهد النبوي، من شرع الله تعالى وأمره و نهيه:

أولهما: ما وقع من المؤمنين بالمدينة عقب تحريم الخمر.

وقد كان للعرب ولع بشربها وأقداحها ومجالسها، وقد عرف الله ذلك منهم فأخذهم بسنة التدرج في تحريمها، حتى نزلت الآية الفاصلة تحرمها تحريماً باتاً وتعلن أنها [رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ] {المائدة:90}. وبهذا حرم النبي صلى الله عليه وسلم شربها وبيعها، وإهداءها لغير المسلمين، فما كان من المسلمين حينذاك إلا أن جاؤوا بما عندهم من مخزون الخمر وأوعيتها فأراقوها في طرق المدينة إعلاناً عن براءتهم منها.

ومن عجيب أمر الانقياد لشرع الله أن فريقاً منهم حين بلغته هذه الآية كان منهم من في يده الكأس، قد شرب بعضها وبقي بعضها في يده، فرمى بها من فيه، وقال ـ إجابة لقوله الله [فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ] {المائدة:91}. قد انتهينا يا رب!.

ولو وازنا هذا النصر المبين في محاربة الخمر والقضاء عليها في البيئة الإسلامية، بالإخفاق الذريع الذي منيت به الولايات المتحدة الأمريكية حين ارادت يوماً أن تحارب الخمر بالقوانين والأساطيل ـ لعرفنا أن البشر لا يصلحهم إلا تشريع السماء، الذي يعتمد على الضمير والإيمان قبل الاعتماد على القوة والسلطان.

وثانيهما: موقف النساء المسلمات الأول مما حرم الله عليهن من تبرج الجاهلية،

وما أوجب عليهن من الاحتشام والتستر، فقد كانت المرأة في الجاهلية تمر كاشفة صدرها، لا يواريه شيء، وكثيراً ما أظهرت عنقها وذوائب شعرها، وأقراط آذانها فحرم الله على المؤمنات تبرج الجاهلية الأولى، وأمرهن أن يتميزن عن نساء الجاهلية ويخالفن شعارهن ويلزمن الستر والأدب في هيئاتهن وأحوالهن، بأن يضربن بخمرهن على جيوبهن، أي يشددن أغطية رؤوسهن بحيث تغطي فتحة الثوب من الصدر، فتوارى النحر والعنق والأذن.

وهنا تروي لنا السيدة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها كيف استقبل نساء المهاجرين والأنصار في المجتمع الإسلامي الأول، هذا التشريع الإلهي الذي يتعلق بتغيير شيء هام في حياة النساء، وهو الهيئة والزينة والثياب.

قالت عائشة رضي الله عنها: يرحم الله نساء المهاجرين الأول... لما أنزل الله:[ وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ] {النور:31}. شققن مروطهن ـ أكسية من صوف أو خز ـ فاختمرن بها... رواه البخاري.

 وجلس إليها بعض النساء يوماً، فذكرنا نساء قريش وفضلهن، فقالت: (إن لنساء قريش لفضلاً، وإني والله ما رأيت أفضل من نساء الأنصار، ولا أشد تصديقاً لكتاب الله، ولا إيماناً بالتنزيل، لقد أنزلت سورة النور:  [ وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ] {النور:31}.فانقلب رجالهن إليهن يتلون عليهن ما أنزل الله فيها ويتلو الرجل على امرأته وابنته وأخته وعلى كل ذي قرابته، فما منهن امرأة إلا قامت إلى مرطها المرحل ـ المزخرف الذي فيه تصاوير ـ فاعتجرت به ـ شدته على رأسها ـ تصديقاً وإيماناً بما أنزل الله من كتابه فأصبحن وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم معتجرات كأن على رؤوسهن الغربان) رواه ابن أبي حاتم.

هذا هو موقف النساء المؤمنات مما شرع الله لهن، موقف المسارعة إلى تنفيذ ما أمر، واجتناب ما نهى، بلا تردد، ولا توقف ولا انتظار، أجل لم ينتظرن يوماً أو يومين أو أكثر حتى يشترين أو يخطن أكسية جديدة تلائم غطاء الرؤوس وتتسع لتضرب على الجيوب، بل أي كساء وجد، وأي لون تيسر، فهو الملائم والموافق، فإن لم يوجد شققن من ثيابهن ومروطهن، وشددنا على رؤوسهن، غير مباليات بمظهرهن الذي يبدون به كأن على رؤوسهن الغريان، كما وصفت أم المؤمنين.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 

المصدر: مجلة الوعي الإسلامي العدد 126 جمادى الآخرة 1395.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين