الطبقات المترفة والطبقات البائسة

 

 

الترف والبؤس:

للترف تاريخ يضرب في أغوار القدم.

ولمظاهره المادية والأدبية آثار عرفها المتقدمون والمتأخرون من سكان هذه الأرض على اختلاف أقطارهم.

وللبؤس ـ كذلك ـ تاريخ تمتد جذوره في ماضي الإنسانية البعيد، ولصوره المادية الكئيبة، معالم عرفها الأسلاف والأخلاف جميعاً.

وكلا الأمرين ـ من ترف وبؤس ـ توارداً عاماً على أجيال البشر، لا كما يختلف الليل والنهار اختلافا منتظما، يستوي الأحياء كافة في الانتفاع بضيائه والهدوء في ظلامه.

بل هو توارد آخر، جعل ظلام البؤس قسمة لبعض الناس، يعيشون فيه أبدا، ويفقدون فيه أبصارهم ـ إذ أنها لا تري فيه شيئا -. .

وجعل شعاع النعمة مشرقا على بعض آخر، فهم يعيشون فيه أبدا، وهم يعمون فيه كذلك، من طول ما يبهرهم رونقه، ويأخذ أبصارهم تألقه !.

وفي ظهور الترف والبؤس، توجد الطبقات المترفة، والطبقات البائسة، ويولد نظام الطبقات، ويحدث التظالم الاجتماعي والسياسي.

وتنشأ معاني السيادة والرق، والقداسة والضعة.

وتقرر شتي التقاليد المرتبطة بهذه الأمور ارتباطا يقترب ابن المقفع من وصفه إذ يقول:

“إذا افتقر الرجل اتهمه من كان له مؤتمنا، وأساء به الظن من كان يظن به حسنا. 

فإذا أذنب غيره ظنوه، وكان للتهمة وسوء الظن موضعا.

وليس من خلة هي للغني مدح، إلا وهي للفقير عيب:

فان كان شجاعاً سمي أهوج، وان كان جوادا سمي مفسدا، وان كان حليماً سمي ضعيفاً، وان كان وقوراً سمي بليداً، وان كان لسناً سمي مهذاراً، وان كان صموتاً سمي عييا”.

سر هذا التقسيم:

وقر في النفوس: أن تفاوت الناس في اقتسام الأرزاق سنة إلهية، وان انقسام الأمم ـ تبعا لذلك ـ إلى طبقات، تتفاضل بحسب ما تملك من متاع الحياة وخيراتها، أمر طبيعي. قصد إليه الدين بل صرح به القرن الكريم، وفي تسويغ ذلك تساق آيات شتي.

 : [وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ العِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ] {الأنعام:165}.

: [وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللهِ يَجْحَدُونَ] {النحل:71}.

:[وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا القُرْءانُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ القَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ(31) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ(32) ]. {الزُّخرف}. 

ونحن نقول: بأن الدين منذ ـ فجر الخليقة ـ حارب فكرة انقسام الناس إلى طبقات، على أساس ما تملكون من أنصبة مادية، جليلة أو قليلة.

والآيات السابقة لا تخدم الغرض الذي تساق من أجله، ولا يجوز أن يبقي في ظلها نظام الطبقات المعروف بمآثمه ومغارمه ومظالمه.

فالآية الأولى، إنما تدل على أنَّ الله استخلف الناس في الأرض ليعمروها وليكدحوا فيها، وفاوت بينهم فيما منح من وسائل الأدبية والمادية التي تعين على ذلك.

والتفاوت في المواهب الإنسانية والجهود الإرادية حقيقة لا ريب فيها.

فالناس ليسوا سواء في الذكاء والغباء وليسوا سواء في العمل والكسل.

ومن ثم يجب ألا يتساووا في الأجر المادي والأدبي الذي يأخذونه بإزاء طاقتهم وجهدهم. وذلك معني الابتلاء الذي تضمنته الآية والتهديد الذي اختتمت به. إذ أن الله سائل كل امرئ حتما على قدر ما آته من خصائص، ومنحه من ملكات...

والآية الثانية صريحة في أن التفاضل في الرزق ـ إن جاء من أسبابه المشروعة ـ لا يسوغ أن يكون مثار جشع وحرص، يجعل الفاضل بخيلا به على المفضول، بل ينبغي أن يرد الممتازون بالمال بعض ما معهم على من تحت أيديهم، من الخدم والأتباع وغيرهم، شكر الله على ما ميزهم به من مواهب وسلطان.

وأما الضن بالخير على الفقراء إليه فجريمة لا يقرها دين.

وليس في الآية ما ينفي جعل التفاضل في الرزق تابعا للتفاضل في العلم والفن وخدمة الوطن والمجتمع، بل ذلك مفهوم من الآية الأولي ومن غيرها.

وأما الآية الأخيرة فهي تشير إلى أن جسم الأمة كجسم الإنسان، لابد فيه من رأس مدبر، وعقل مفكر، ومن أطراف تسخر للتنفيذ، وأعضاء يستعان بها على بلوغ الغايات المقصودة.

وهذه حقيقة مقررة في كل نظام إنساني، فان الناس لا يصلحون فوضي

والمصالح العامة لأية أمة لابد فيها من تنوع الوظائف إلى علمية وعملية، والي مدنية وعسكرية، والي زراعية وصناعية.

ومن هذه وتلك يوجد التافه والخطير، والدقيق والجليل.

ولكي تصلح الأوضاع يختار لكل وظيفة من يستطيع القيام بأعبائها، ومن ترشحه مواهبه للعمل فيها، وملكات الناس في ذلك متباينة أشد التباين.

فهذا مهندس للمصنع يعمل فيه بعقله، وهذا عامل مجرد يشتغل فيه بيده، وهذا يتبع ذاك فيما يشير به، لأن هذا يضع التصميم، وذاك يقوم بالتنفيذ.

والخضوع الواجب في مثل هذه الحالات، هو خضوع الجند لأوامر القيادة فليس هو البتة تسخير إذلال وقهر، ولكنه تسخير نظام وعمل.

هو ترتيب يشبه ترتيب الإعداد صعودا أو نزولا، فالأول قبل الثاني، والثاني بعد الأول.

وأساس هذا الترتيب أو هذا التسخير، هو الكفاية الذاتية وحدها! .

على أنَّ الملاحظ في البيئات التي يظهر فيها الترف والبؤس، ويوجد فيها نظام الطبقات غير ذلك.

إذ يقوم التفاوت المالي مقام التفاوت العقلي. ويستنكر بروز النابغين من الطبقات الفقيرة، أو توضع العوائق الكثيرة لعرقلة نموهم، وإخماد نارهم.

وهذا ما سجلته آية القران الكريم حين حكت الاعتراض على نزول الوحي في بيت فقير:[وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا القُرْءانُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ القَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ] {الزُّخرف:31} .

وحين ردت الأمور إلى نصابها، جاعلة التفاوت القلي وحده أساس انقسام الناس إلى حقير أو عظيم :[ اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ] {الأنعام:124} .

وهكذا تتخير الرحمة العليا محلها الذي تهبط إليه، غير معترفة بالأساس الجائر للتفاوت المادي بين الناس، فهو مقياس باطل لعظمة مزيفة.

ومن ثم تختم الآية بهذا التذييل :[ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ

إن الكلام في “النظام الطبقي” يحتاج إلى مزيد من البيان.

فان بعض الناس فوضوي الفكر يحسب أن كل امرئ من الناس ككل امرئ آخر لا فروق ولا خلافات.

ومن الناس من يتصور أن البشر خلق بعضهم ليسود والآخر ليضام.

ولا ريب أن هذه الأخيلة بعيدة عن الصواب الذي يقرره الدين، وعن المنفعة التي تقوم عليها الدنيا.

إن المساواة المطلقة خرافة، والتفاوت المفتعل لغير سبب معقول مرفوض من أساسه...

الناس سواء في الحقوق العامة، فحق الحياة مثلا لا ريب فيه لكل إنسان ولا يقبل إهداره لعذر مفتعل، فلو أن فيلسوف قتل حمالا لقتل فيه، ولو أن عملاقا قتل طفلة لقتل فيها..

ويمكن إحصاء الحقوق العامة وإقامة الشرائع المحترمة لحمايتها وصد العدوان عليها.

لكن هناك حقوقاً خاصة لابد من تقريرها ويستحيل قبول المساواة فيها، وهذه الحقوق تتبع التفاوت الطبيعي الموجود في الأشخاص والأشياء !!

إن الحجارة منها ما هو كريم يباع بأغلى الأثمان، ومنها ما هو خسيس يترك مكانه لأنه لا يساوي عناء حمله !

الاختلاف في مواد الأرض صورة للاختلاف بين طبائع البشر ومواهبهم. هناك البليد الذي لا يحس القريب من أنفه، وهناك الألمعي الذي يظن بك الظن كأنه قد رأى وقد سمعا.

وهذا التفاوت قدر أعلى، ويبدو أن الحياة لا تقوم إلا به، وقد تبدو له صور عجيبة، فهذا أخوان شقيقان رزق أحدهما رقة في حباله الصوتية، فإذا هو “فنان” وإذا فنه يورثه الضياع والقصور ورزق الآخر حنجرة عادية، لم تجد عليه قليلاً ولا كثيراً، فعاش في غمار الناس، لا سمعة ولا ثروة.

وإذا تركنا ميدان المال إلى ميدان النبوة العالي وجدنا هذا التفاوت بارزاً:[تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ] {البقرة:253} . 

إن هذا التفاوت بين الناس حقيقة لا يمكن إنكارها، ولا يمكن لنظام بشري أن يلغيها أو يغض من نتائجها..

وهذا ـ وحده ـ هو المقصود بقول الله [وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ]

ربما كان هذا الرفع بأصل الخلقة، وهو كثير، وربما كان بتوفير الظروف المعينة على الارتقاء، وهو أيضا كثير..

وهنا نسأل: هل معنى رفع الدرجة قرب المنزلة من الله؟، وكسب اختبار الحياة المفروض على الناس أجمعين؟.

والجواب السريع هو: لا، إن المواهب الرفيعة تتعرض لتجارب أشقّ، وامتحانات أصعب، بقدر ما تميزت به من طاقة، والحصيات التي تتحرك على ظهر الأرض في نطاق محدود غير الكواكب التي تقطع أحواز الفضاء في سرعة لاهثة.

وقد فسر القران الكريم هذا الاختلاف في الدرجات بأنه أساس للاختلاف في التكليف والابتلاء، فقال: [وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ العِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ] {الأنعام:165} .

 وظاهر مما أوضحنا أن “الدرجة” غير “الطبقة”.

الدرجة: صفة نفسية خاصة، أما الطبقة: فمجموعة من الناس ادعت لنفسها صفات وحقوقاً معينة..

قد تقول من حق المتفوقين من الناس أن يجمعهم عقد خاص بهم، ويتميزون به على غيرهم !!

ونقول: لو حدث ذلك لفرض هذا العقد على الدنيا نفسه، ولما نهض منطق يرفضه.

لكن تصور ذلك يناقض واقع التاريخ، وسير الجماعة البشرية !! ولننظر إلى الأمر بإنصاف وروية ..

هل هناك طبقات من الناس جمع بينها الذكاء والإنتاج والتفوق والإقدام وانتظم صفوفها طولاً وعرضاً ؟؟

وهل نظام الطبقات الذي شقيت به الإنسانية من قبل الطوفان إلى الآن قام على هذا الأساس؟؟

إننا نقول بملء أفواهنا: لا..

إن للناس عيوباً في هذا المجال يجب أن تذكر، ولنبدأ بأتفه العيوب وأشعيها!!

هل بياض الجلد منقبة تجمع بين أصحابها ؟ هل الانتساب إلى ملك ما، أو أحد الأنبياء، أو احدى الأسر ذوات العزة والمنعة، مناقب تعرف لذويها .؟

إن الطبقية في كثير من بقاع الأرض تقوم على هذا الأساس الخرافي، وتعطي مجموعات من الناس حقوقاً خاصة.!!

لقد اعترفنا بحقوق الكفاية العظيمة المادية والأدبية، فكيف نعترف بهذا الوهم.. ولكن يبدو أن بعض الناس يسره أن يكسب مجداً بدون جهد، وتقدماً بدون تعب، ولا عليه أن يغالي بالنسب العريق والجنس الراقي، فذلك يعود عليه بفوائد ذات بال!.

هل يمكن سوق آيات رفعة الدرجة في هذا المجال؟ كلا، وسوقها في هذا المجال تحريف للكلم عن مواضعه، وعبث بالوحي الإلهي يدور بين الجهل والكفر.. !!

والغريب أن النظر إلى الأنساب والألوان يعصف بالعقول قديماً وحديثاً عرفته الجاهلية العربية، وتعرفه المجتمعات الأمريكية والأوروبية سواء بسواء.

وربما قام نظام الطبقات على إبراز بعض الحقائق وإغفال بعض آخر فان قوانين الوراثة قد تنقل الخصائص الرفيعة من الوالد إلى الولد، وقد يمكن إلى جانب ذلك تطويع البيئة لخدمته، ودعم قواه وتنمية ملكاته !

ومن هنا يلد الكبراء كبراء، وينسل العظماء عظماء..

وهذا الكلام تصوير جانبي يصدق ويكذب، فان قوانين الوراثة غامضة النتاج، وهي تنقل الوضاعة والرفعة، كما أن السيطرة على البيئة قد تميت فساداً، وتحيي فساداً من لون آخر..

وقد استطاع فقراء أن يثبتوا إلى الملك، وجاء في أعقابهم المباشرين من عجز عن البقاء في دسته..

إن تحويل الامتياز الفردي إلى تفوق عنصري واستعلاء طبقي غير صحيح.

ونحن ـ مرة أخرى ـ نؤكد أن الدرجة غير الطبقية، وأن اختلاف الناس درجات غير انقسامهم طبقات. فالقوانين الطبيعية شيء، والأمراض الاجتماعية شيء آخر..

وتوجد محاولات عنيدة من قديم الزمان لتقسيم الناس طبقات على أساس شتى، دون نظر إلى القيمة الإنسانية الخاصة، ودون احترام لكفاح آحاد الناس نحو السمو والاكتمال.

وبديهي أن تكون الثروة، أو السلطة محاور لهذه الطبقية المتمردة! فتجد من بعض الناس استطالة لا معنى لها، واستهانة بالآخرين لا إنصاف فيها، وتجد شعوراً عارماً بحقوق خاصة، وذهولاً عن أي واجب مطلوب، في الوقت الذي يفرض هؤلاء على الآخرين واجبات لا حصر لها دون مقابل معروف.

وقد عمل الإسلام على هدم هذه الطبقية وإعلاء القيم الإنسانية وحدها، وأخذ ذلك الهدم مقصوداً صوراً شتى تلمحها في الأحاديث التي نسوق إليك طرفا منها..

عن أبي ذر رضي الله عنه  قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم  يا أبا ذر أترى كثرة المال هو الغنى! قلت: نعم يا رسول الله. قال: فترى قلة المال هو الفقر ؟ قلت نعم يا رسول الله. قال: إنما الغنى غنى القلب والفقر فقر القلب.!!

ثم سألني عن رجل في قريش قال: هل تعرف فلاناً؟ قلت: نعم يا رسول الله، قال: فكيف تراه ؟ قلت، إذا سأل أعطي، وإذا حضر أدخل!!

قال: ثم سألني عن رجل من أهل الصفة فقال: هل تعرف فلانا؟ قلت: لا والله ما أعرفه يا رسول الله... فما زال يحليه وينعته حتى عرفته، فقلت: قد عرفته يا رسول الله! قال: فكيف تراه؟ قلت: هو رجل مسكين من أهل الصفة.

قال: فهو خير من طلاع الأرض من الآخر!

قلت: يا رسول الله أفلا يعطى من بعض ما أعطي من الآخر ؟ قال إذا أعطي خيراً فهو أهله. وإذا صرف عنه فقد أعطي حسنة..

وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم  قال: احتجَّت الجنة والنار ـ أي نوه كل منهما بشأنه وذكر حجته ـ فقالت النار: فيَّ الجبَّارون والمتكبِّرون وقالت الجنَّة: فيَّ ضعفاء المسلمين ومساكينهم ! فقضى الله بينهما: انَّك الجنَّة رحمتي أرحم بك من أشاء ! وانَّك النَّار أعذب بك من أشاء ! ولكلكما عليَّ ملؤها.

وعن أبي ذر رضي الله عنه قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : انظر أرفع رجل في المسجد.. قال: فنظرت فإذا رجل عليه حلة، قلت: هذا.

قال، فانظر أوضع رجل في المسجد! فنظرت فإذا رجل عليه أخلاق ـ ثياب رثة ـ قلت: هذا.

قال أبو ذر: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لهذا عند الله خير يوم القيامة من ملء الأرض مثل هذا.. !

إن تلك الأحاديث ما يصح معناها إلا حيث سقناها فان الإسلام لا يخاصم الغني بل يعده فضل الله على عباده، ولا يخاصم الجمال والزينة بل يستحبها للناس، ويؤثرهم للمؤمنين خاصة، وإنما يرفض احتقار النفس الإنسانية لطوارئ القلة والقيلة ويرفض انتقاحها لظروف الثراء والسلطان.

وقد ترى ناساً من المشتغلين بالعلوم الدينية يرسلون فتاوى منكرة فيما يتراءى لهم من أحوال الناس، فإذا رأوا رجل تمكن من رياسة أو سلطة وسألتهم عن شأنه، هزوا رءوسهم ثم غمغموا: [قُلِ اللهُمَّ مَالِكَ المُلْكِ تُؤْتِي المُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ المُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] {آل عمران:26} .

وهذا استشهاد جهول، وفهم مستنكر، فان الاحتجاج بالمشيئة الإلهية لا يجوز في تسويغ غصب لمنصب، أو سرقة لعمل عام أو خاص.

وقد ترى هؤلاء يسكتون سكوت القبر لعامل بخس حقه وظلم أجره، وينظرون إلى من أوقع هذا الحيف ثم يقولون:[أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا] {الزُّخرف:32} 

إنَّ هذا الموقف بالغ الشرر فادح الضرر، جرئ الكذب على الله ورسوله! فان الإسلام يستحيل أن يسبغ ظلماً أو أن يقبل ضيماً.

وإذا كان الله قد جعل بعض الحيوان قوياً والآخر ضعيفاً، فهو لم يجعل ذلك ليعتدي قوي على ضعيف، وإنما خالف بين أنواع الموجودات لتستقيم الحياة ويصح العمران..

على أن علماء الإسلام في شتى القرون كانوا أوفياء للحقيقة، أسانيد للعدالة، ولم يحطب منهم في حبال الحكام الفجرة إلا النزر اليسير.

وجمهور الأئمة ومن تبعهم بإحسان كانوا مع الجماهير ضد المتسلطين والمعتدين غاية ما يؤخذ عليهم أنهم لم يترجموا تعاليم الإسلام ضد المظالم السياسية والاقتصادية إلى قوانين محددة، ودساتير مضبوطة..

وبعض العلماء المعاصرين من أهل الخير يمشي في هذا الخط، ويتجاهل ما حققته الإنسانية في سيرها العاني من تجارب ومقررات تحقق الخير للناس، وترسي رغبات الدين على قواعد متينة !

فإذا سألتهم: ماذا يصنع الإسلام لوقف الاستبداد السياسي والميل الاقتصادي ؟ . 

أجابوا أن أهل الحل والعقد يستطيعون باسمه أن يفعلوا كذا وكذا..

والواقع أن أهل الحل والعقد يمكن أن ينتظموا في سلك الأمور الثلاثة المشهورة، الغول والعنقاء والخل الوفي.!

إنهم في واقعنا المديد أمنية حالمين، ويجب أن نستفيد من الدساتير الحديثة التي قلمت أظافر الطغاة، وأتاحت لكتل الشعوب أن تتنفس في هدوء !

أوضاع معكوسة:

شتان بين ما هو كائن وما يجب أن يكون في بلاد الإسلام البائس المنكوبة، بأفانين من الاستعمار الداخلي والخارجي.

إن الغنى والفقر ـ وحدهماـ ميزان الطبقات هنا وهناك.

الغنى لا يعرف من أين جاء، والفقر الذي لا يعرف كيف الحل.

في مصر شعب تضطرب به سهول الوادي الفسيح، يكدح وينصب ليرتاح على ثمار جهوده نفر من الأعيان والوجهاء.

شعب أقعده الشقاء، وأضره الحرمان، وقلة أبطرها النعيم، وأغواها الطغيان.

وما هذه الفوضى الشاملة؟ وكيف تستقر هذه الحماقة باسم الدين؟

أهذا هو الإسلام الذي يجعل العلم وحده مناط رفعة الدرجة، ويجعل التقوى وحدها أساس امتياز الأفراد؟

أفتعطى الأعمال في مصر على أساس الكفاية في العلم والدين؟..إذا فما أسعد الوظائف بأصحابها!.أفينقسم الناس طبقات شتى على هذا الأساس عينه؟ إذا فما أشقى الفقراء بغباوتهم!. أم هي الأوضاع المنقلبة والحقوق المسروقة؟

أجل إنها كذلك، ولو استقام كل شيء على وجهه الذي يرضي الله لارتقت جماهير هائلة من الحضيض الذي تتقلب فيه، إلى مستوى آخر تسعد به ويسعد بها.

ما أحوج الشرق إلى أن تعمر العدالة الاجتماعية ربوعه الخربة، وأن تنقل إلى الحياة الصحيحة شعوبا أعياها اللغوب، وأضناها طول الغلاب...

أما استغلال الدين لتجريع الشعوب ما تغص به من مرارة الظلم وهضم الحقوق، فهو ضرب قبيح من ضروب الإلحاد، إن لم يكن أقبحها على الإطلاق.

رأسمالية قديمة:

استوقفت نظري هذه الآية الكريمة:[وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ] {يس:47} . 

فاني شعرت بأن التساؤل الذي انطوت عليه الآية، يتضمن اعتراضاً رأسمالياً صادقاً في تصوير حال قائليه.

وأدركت أن الفكرة التي يصدر عنها الأغنياء، في تصرفاتهم مع الفقراء تكاد تكون ـ قديماً وحديثاً ـ واحدة، لا تتغير ولا تتطور.

وأساس هذه الفكرة الغائرة في الماضي، الممتدة مع الأيام، أنَّ الله جعل الأغنياء أغنياء هكذا، لأن الله أحب لهم أن يستمتعوا بنعمة الغنى، وأن الفقراء، فقراء هكذا، لأنه شاء لهم أن يشقوا بمصيبة الفقر.

وأنه فاوت بين الناس، فخلق المكثرين والمقلين، قصداً إلى إقامة فوارق مادية طبيعية بينهم، على أساس التفاوت في ثرواتهم، وأنه لذلك فضَّل البعض على البعض في الأرزاق والمعايش، فليس يجوز إيجاد أي نظام يصادم هذه الحقائق.

وقد زيف القران هذا الكلام الذي لا يحمل مسحة من المنطق.

وبين قيمة أصحابه عندما عقب على تساؤلهم: [أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ] {يس:47}. بقوله: [إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ] {يس:47}.

وذلك أن الأغنياء ـ في نظر الإسلام ـ لا يجوز أن يبقى غناهم كاملاً، وأن الفقراء لا يجوز أن يبقى عليهم فقرهم كاملاً.

ولابدَّ أن يشترك هؤلاء وأولئك، في إقامة مجتمع، لا يوجد في الرجل المترف والرجل المحروم.

ولو أن التفاوت في الأرزاق كالتفاوت في المواهب، ما صح أن يكون ذلك ذريعة لإهدار المصلحة العامة، بل وجب أن يكون ذلك وسيلة إلى إقامة هذه المصلحة وتكليف كل فرد بنصيبه الشخصي منها ـ على قدر كفايته الذاتية الخاصة.

حقاً إن الله فضل بعض الناس على بعض، في الملكات والوظائف والحظوظ النفسية ـ ولا أظن الشيوعيين في بلادهم يستطيعون هدم هذا المبدأ الطبيعي فهم يعطون القائد أكثر مما يعطون الضباط أكثر مما يعطون الجندي ـ لكن هذا التفاضل في الأرزاق لا يعني التقاطع بين الناس والتظالم بين الطبقات، والتوقح على مقسم الأرزاق.

نقول له: مادمت قد أفقرت فلما تغني؟ وما دمت قد أغنيت فلم تفقر؟

بل يجب أن نجعل من ذلك مبدأ تعاون تام واشتراك عام. في بناء مجتمع ينتفي منه الترف والبؤس. ويسوده العدل الاجتماعي الشامل.

ومن الأقاويل التي سمعتها في تبرير الحرمان والهوان، الذي تلقاه الجماهير الفقيرة، أن الدين لم يفرض الزكاة في أموال الأغنياء، إلا على أساس اعترافه بالفقر والفقراء، ونظرته إلى ذلك نظرة لا غرابة فيها ولا إنكار!!

وعلى هذه الطريقة من الاستدلال يمكننا أن نقول: إن الدين لم يفرض الجهاد على المؤمنين، إلا على أساس اعترافه بالكفر والكافرين، ونظرته إلى ذلك نظرة لا غرابة فيها ولا إنكار !! 

ثم لكي نضمن بقاء فريضتي الزكاة والجهاد، يجب أن نعمل على بقاء الفقراء والكفر، وإلا لم يبقي للأغنياء والمجاهدين، عمل يقومون به إيمانا واحتسابا.. أرأيت كيف تنتهي الحماقة بأصحابها؟؟

إن الله عز وجل لا يحب من الناس، أن يشردوا أو يفسدوا وهو القائل: [إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الكُفْرَ] {الزُّمر:7} .

ولا يحب لعباده كذلك، أن يشقوا أو أن يفتقروا، وهو القائل: [يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ] {البقرة:185} .

فإذا كان اعوجاج الإنسانية على ظهر الأرض، وزيغها على سواء السبيل، قد أدى إلى ظهور الفقر والكفر هنا وهناك، فان رسالة الدين تقوم على علاج هذا الانحراف، وتستهدف رد الناس جميعاً إلى الإيمان والأمان.

كما تقوم رسالة الطب على علاج الأمراض وقتل جراثيمها، فهي لا تهادن المرض لحظة، وكما تقوم رسالة العلم على محاربة الجهل واكتساح ظلماته، لا تسكت على ذلك فترة.

فالقول بصداقة الدين للفقر، يشبه القول بصداقته للكفر، يشبه القول بصداقة العلم للجهل، والطب للمرض !! إن الخطأ قد يكون طبيعة في البشر.

وتاريخ الإنسانية لا يعدو أن يكون سعياً إلى الكمال، وتخلصاً من الآفات العقلية، والأوزار الاجتماعية التي تعترض هذا السعي الحديث، لكن بقاء الخطأ في طبيعة الإنسان، لا يرقى بالخطأ إلى اعتباره ضرورة من الضرورات المحتومة.

فمن الخبل أن يظن بالدين ميله إلى بقاء الفقر، لأنه أعد له ـ مثلاً ـ فريضة الزكاة.

أجل ! سيبقي الناس متفاوتين في أرزاقهم، بعضهم فوق بعض، أو بعض دون بعض، فتلك سنة الحياة.

ومهما اجتهدنا في تعميم العدالة وتوزيع الخيرات فسيبقى من يستحقون الرحمة والعطف، ممن يحيف عليهم الخطأ والنسيان، أو ممن تبطئ بهم قدراتهم فيتعرضون للعجز والعطل...ثم انه لن تعم الناس حالة يستغنون فيها لحظة عن رقابة الدين ويقظة الضمير. ما دامت منابع الظلم في شيمهم. لا يدركها جفاف !! ومن هنا لابد من توصية القادرين على الضعاف، والمتبوعين على الأتباع. وما يخلو مجتمع بشري من هذه الصفات المتناقضة، لكن إرصاد الأدوية للعلل المرتقبة لا يعني تشجيع الأوبئة على الانتشار...ونحن نلحظ في بلاد الإسلام ميلاً مجنوناً لدى بعض الناس كي يغتني من ألف طريق دون اكتراث بحلال أو حرام، وميلاً أشد إلى استبقاء جم غفير من الخلائق يحيون على الفتات، ويلازمون المسكنة، وهذا ما ننكره باسم الله.

 وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

المصدر : موقع الشيخ محمد الغزالي

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين