ما الذي يحدث عندما يشتغل الفقيه التراثي في أفق حداثي؟

 

عادة ما نضطر في بداية حديثنا عن موضوع ما أن نمهد له بفكرة بدهية تمثل جسر العبور إلى تلك الفكرة الجوهرية التي نريد. 

 

من أجل ذلك فإنا نمهد لموضوعنا بالقول: إن الطرف الذي يمتلك أدوات القوة الحضارية هو الذي يفرض التحولات الكبرى في هذا العالم، وهو الذي يفرض قيمه داخل مجالاته المتعددة (ثقافيا واقتصادياً وسياسياً وعسكرياً)، ثم يقوم بتعميمها على الآخرين، ومن البدهي أن هذا الطرف الأقوى اليوم هو ما نطلق عليه (الغرب)، والذي نسمي مجموع ما أنتجه في تلك المجالات (حداثة غربية)، ونحن عربياً وإسلامياً، وبما أننا الطرف الأضعف، فمن الطبيعي أن ننخرط في هذا التحول ونقوم باستهلاك منتجاته بشكل أو بآخر، والتأثر المباشر وغير المباشر بأفكاره وقيمه.  

 

هذا الانتاج من طرف، والاستهلاك من الطرف الآخر، يفرض تحدياته على المستهلك في أصعدة كثيرة، نحاول في هذا المقال أن نقف مع واحدة من تلك التحديات التي نعتبر أن النقاش فيها لا يزال جديدًا يستحق الدراسة والتحليل.

 

يتمثل هذا التحدي في الوضع الحرج الذي تفرضه الحداثة الغربية على الفقيه الذي يمارس دوره اليوم، لا نزعم أننا سنقدم للفقيه هنا وصفة جاهزة في كيفية التعامل معها، لأننا لا ندعي امتلاكها، وإنما قصارى ما نملك أن نساهم في لفت النظر إلى ضرورة التفكير في التحدي نفسه، وأن نثير النقاش حول آثاره وتحدياته على اشتغاله الفقهي. 

 

فأمام هذه الإيقاعات المتسارعة لتحولات العالم التي لا تكاد تتوقف؛ لا نكاد نتوقف نحن أيضاً عن مطالبة الفقيه بالانخراط في فقه النوازل التي تنتجها هذه التحولات، إيمانًا منا بالأهمية البالغة لذلك في فقه التنزيل. 

 

غير أن ما يلاحظ على هذه الدعوة لفقه النوازل أنها غالباً ما تُطرح ضمن نظام معرفي/إبستيمولوجي محدد، وهو (التكييف الجزئي) لتلك المنتجات التي يفرزها لنا هذا الواقع، هذا النظام يفرض نفسه كـ(براديغم) مغلق يتحكم في ذهن الفقيه أثناء إنتاجه لتلك الأحكام، كما أنه يفرض عليه تعاطياً مجتزئًا لهذه المسائل مقتطعا لها من السياق الكوني الجديد الذي يفكر داخله فقهيا، دون أن يجري عملية موازنة بين السياق التاريخي أو الحضاري للمدونة التراثية التي ينتج من خلالها أحكامه .. والحداثي الذي ينزل عليه تلك الأحكام.

 

لا تهمنا هنا النتيجة التي ينتهي إليها الفقيه في هذا التكييف، وسواء في ذلك اختار طريق المنع أو الإباحة، أو إعادة ترميم تلك المسائل من جديد حتى تتوافق مع اجتهاد فقهي معتبر داخل المدونات الفقهية، الذي يهمنا هو نظام التعامل مع هذه النوازل أو المسائل التي يتم تنزيلها على واقع جديد. 

 

نستطيع القول أننا أمام نوعين من الفقهاء: الفقيه الجزئي/ والفقيه الكلي.

 

الفقيه الجزئي: هو ذاك الذي يقوم بفرز مكونات تلك النوازل، ثم مقايستها بما هو مدون عند الفقهاء، أي ضمن مهمة (التكييف الجزئي)، فيفكر كيف يُكيِّف الواقعة الجديدة مع تلك المدونة، فيتعاطى الفقيه مع مفردات المسائل بشكل جزئي، يستحضر شروط المسألة كما هي مدونة في كتب الفقهاء ثم يطبقها على الواقعة الجديدة ثم يصدر الحكم.

 

أما الفقيه الكلي: فإنه يقوم بمهمتين؛ الأولى تلك التي نسميها (التكييف الجزئي)، لكنه قبل أن يصدر أحكامه وفق هذا التكييف، يقوم بمهمة أخرى وهي (تأسيس إطار كلي) جديد راهن مستوعب لطبيعة هذا السياق الكوني المتأثر بقيم الحداثة الغربية والذي سيُعمل فيه تلك الجزئيات، ثم يقوم بتركيب هذين المهمتين فينظر كيف سيكون الحال لمسألة فقهية يتم إعمالها داخل هذا الإطار الكوني الجديد.

 

حينها سيخوض الفقيه تحدياً كبيراً، فهو في حالة المنع سيقف مكتوف الأيدي أمام هذا السيل الجارف من النوازل التي تفرض نفسها على الناس ليتعاملوا معها، هذا في حال كان المنع يقوم على آلية اجتهادية متوازنة ولا يصدر عن تفكير ذرائعي يغلب جانب الحظر على جانب الإباحة.

 

 أما في حالة القبول أو إعادة الترميم؛ فهو يقوم بدور استهلاكي لتلك النوازل، هذا الدور هو الذي أنتج ما نسميه اليوم بالأسلمة، لا نتحدث هنا عن الأسلمة في سياق العلوم الانسانية، وإنما نتحدث عن أسلمة المسائل أو الواقع المستجد من خلال تكييفه داخل المدونة الفقهية. 

 

هذه الأسلمة اشتغلت على أشكال المسائل وظواهرها أكثر من اشتغالها على مضامينها ومناطاتها، سواء في ذلك تلك المسائل الممنوعة أو المباحة، وهو ما طرح سؤالاً مشروعاً في كثير من تلك القضايا التي تمت أسلمتها والذي يعكس لنا طبيعة التحدي الذي يتعرض له الفقيه: ما الفرق الحقيقي بين المسائل المؤسلمة والمسائل الممنوعة الشبيهة بها ..؟

 

وكمثال في قضايا الاقتصاد، يتم طرح السؤال التالي: ما الفرق بين كثير من المعاملات البنكية المؤسلمة والمعاملات الربوية إذا كانت النهاية والمحصلة أن الفوائد متقاربة بل قد تكون المعاملة الربوية أيسر من جهة وأقل تكلفة من جهة أخرى؟! فالناس لا يكادون يفرقون بين هذا الشكل الذي تمت إباحته والشكل المحرم الذي منعوا منه..

 

ومن أجل ذلك ودفعا لهذا التحدي يقوم الفقيه بعملية شرح دقيق لتلك الخيوط الرفيعة التي تفصل ما بين هذين النوعين من المعاملات .. وفي أحيان كثيرة يقول أشياء لا يستوعبها المتلقي الذي يبحث عن الفرق.

 

لكن الفقيه وهو يجتهد في بيان هذه الفروقات لا يُسائل نفسه ما الذي أفرز له هذا التحدي ..؟ لماذا تقلصت هذه المسافات بين الممنوع والمباح حتى لم يعد الفرق يُرى بالعين المجردة .. ؟ وأصبحنا نحتاج لمناظير خاصة نكتشف من خلالها تلك الفروق .. 

 

والأمر نفسه نجده في مسائل مشابهة في مجالات أخرى غير المعاملات المالية كما سيأتي .. 

 

لا فرق هنا في حالة الفقيه الجزئي بين من يسمى الفقيه (المحافظ) والفقيه (الإصلاحي)، فكلاهما يشتغل وفق ذات الآلية الجزئية، ولا يغرينا الصراع الذي يخوضه الفقيه (المحافظ) ضد صاحبه، حيث يرى الأول أن صاحبه (الإصلاحي) ينتج أحكامه تحت ضغط الحضارة الغربية. فالواقع أن كليهما يواجه المشكلة نفسها، ويقف على أرضية واحدة، ويستجيب للضغط نفسه، فكليهما يُفكر ضمن ذات السياق، وهو سياق (الحداثة الشاملة) التي فرضت نفسها على العالم سواء في مجالها الاقتصادي أو الاجتماعي أو السياسي. كما ستوضح ذلك الأمثلة التي يشترك فيها المحافظ والإصلاحي. 

 

لقد ظن الفقيه المحافظ وهو يتهم صاحبه التجديدي بالوقوع تحت ضغط الثقافة الغربية أنه متعالٍ على هذا الضغط .. بينما لم يكن الأمر كذلك.. إنهما يعانيان من مشكلة واحدة .. 

 

نستطيع القول أن هذا هو أهم تحدٍ وقع فيه الفقه اليوم فهو يشتغل في سياق كوني جديد كل الجدة عن السياق الذي نشأ فيه الفقه التراثي. 

 

وعندما نقول "سياق كوني" فنحن لا نقصد بكونيته أنه سياق متعالٍ على الإطار الزماني والمكاني الذي نشأ فيه، وإنما نقصد أنه سياق تمت عولمته، و فرض نفسه على السياقات الأخرى، وأصبح متداخلاً معها ومتأثرا بها بدرجات متفاوته.

 

نعم ثمة قلقٌ موجودٌ عند كثير من الفقهاء اذا ما سمعوا مثل هذا الكلام حول سياقنا اليوم والذي يختلف عن سياقات الفقهاء السابقين، وهو خوف يجد مبرره في أن مقولة كهذه عادة ما تقال في سياق فكري حداثي أيضاً يريد القطع مع كل التراث الفقهي لأنه ينتمي لعصور غابرة.

 

غير أن حديثنا هنا لا يندرج في هذا السياق، فنحن لا ندعو إلى القطع مع هذا التراث الفقهي لأن فكرة القطع في المعرفة فكرة خاطئة من الأساس.. فالفكر الحداثي نفسه يمارس الاتصال مع ماضيه بشكل ما.

 

هذا أولا، وثانيا نحن ضد القطع، فهناك في التراث الكثير مما هو صالح للبقاء وما زالت لديه القدرة على الإجابة والتفاعل مع الواقع الجديد ولم يستنفد دوره بعد.

 

وثالثا: أننا، كما يعبر الجابري، كائنات تراثية بوجه ما، التاريخ والماضي جزء منا، ولا يمكننا أن ندعي الانفصال عنه. 

 

ما ندعوا إليه على وجه التحديد هو الوصل مع هذا التراث ولكن مع استحضار وفهم الفقيه طبيعة هذا العالم الذي يشغل فقهه فيه.

 

سأطرح هنا مجموعة أمثلة نوضح من خلالها ما الذي يحصل عندما يفكر الفقيه التراثي اليوم داخل سياق حداثي جديد. وحتى تتضح الفكرة فسنختار نماذج مختلفة، واحد في الاجتماع، والثاني في الاقتصاد، والثالث في السياسة. 

 

إذا جئنا إلى المثال الأول، وأخذنا في تحليل طبيعة العلاقات الاجتماعية، فإن القيمة الأبرز التي أفرزها النموذج الحداثي الغربي في هذا السياق هي (الفردانية)، فقد حوّل هذا النموذج النزعة الفردية عند الإنسان من كونها نزعة استثنائية في المجتمع إلى نمط حياة يحكم سلوك المجتمع. المزاج الفرداني هو المزاج الأكثر انتشارا اليوم، هذا المزاج الذي يفضل تلك العلاقات العابرة والمؤقته على العلاقات التي تتصف بالثبات والاستمرار والاستقرار. وهو الذي أطلق عليه باومان (الحب السائل). هذا المزاج الذي أصبح يعبر عن نفسه بعدم الرغبة في الزواج لأنها علاقة تفرض عليه الكثير من القيود التي لا يريدها، والتي يفضل العيش متحررا منها. هذا المزاج الذي يعبر عن نفسه في ازدياد نسب الطلاق بين الجيل الشبابي الجديد الذي كان المفترض أنه أكثر وعياً في اختيار شريك/ة الحياة ورفيق/ة الطريق. 

 

والآن أمام هذا المزاج الذي عولمته الحداثة الغربية بفعل ما تملكه من أدوات التأثير = كيف يفكر الفقيه وهو يقارب مسائل الزواج ؟

 

كثير من الفقهاء اليوم يقاربون موضوع الزواج بذات الطريقة التي ذكرناها عن الفقيه الجزئي، وحتى تتضح الفكرة يمكن أن نأخذ مثالاً من مسائل الزواج هو: (الزواج بنية الطلاق). 

 

فمن يفتش داخل المدونة التراثية الفقهية يجد جمهور الفقهاء متسامحين مع هذا النوع من الزواج ضمن شروط معينة، لا تعنينا الآن بقدر ما يعنينا نفس التسامح مع هذه المسألة.

 

يأتي الفقيه الذي تعرض عليه المسألة اليوم، ويفتش في تلك الأقوال ثم يقارن بين الأدلة ثم يرجح الجواز، أو سوغان القول فيها، دون أن يجري أي عملية مقارنة بين السياق الاجتماعي الذي طرحت فيه هذه المسألة قديما والسياق الاجتماعي الذي نعيشه اليوم !! 

 

تراثياً تم طرح هذه المسألة ضمن ثقافة مجتمع (جماعي) متماسك، كانت الأسرة فيه متماسكة بأشكالها التي تصنف حديثا في علم الاجتماع (المشتركة والممتدة)، أي على النقيض تماماً من حالة المجتمع (الفردانية) التي يتم عولمتها اليوم..

 

الفرق بين السياقين كبير جداً، ففي المجتمع التراثي نحن أمام مجتمع متماسك، ما يجعل من وقوع مسألة كهذه وقوعا هامشيا ومحدودا وقليل الحدوث وإلى الندرة أقرب، ونحن أمام مجتمع لا يعرف مشكلة اسمها (مشكلة الطلاق)، المرأة تتطلق من جهة، وتتزوج بكل سهولة من جهة أخرى، وكتب التاريخ والسير والأدب حافلة بذكر نماذج لنساء يقع عليهن الطلاق لمرات، وتتزوج لمرات دون أي شعور بحالة من النقص والتعثر، فهناك حالة من السهولة واليسر في صور الزواج المستقر وبدائله الشرعية مع سيولة ويسر في حال المرأة المطلقة، مما يشي بمحدودية الأثر السلبي لهذا النوع من الأنكحة، إن طرح المسألة في هذا السياق الاجتماعي لن يخلق ذات المشكلة التي ستحصل اذا ما تم طرحها في السياق المجتمعي الحديث؛ فالأمر على النقيض من ذلك فنحن هنا أمام سياق اجتماعي لا يريد الثبات ولا الاستقرار ولا الديمومة بل يخلط الحاجات بالرغبات، ويتعدى حق المرأة في ديمومة عيش قد استقر طلبها ولو استقرارا عرفيا على الأقل، فضلا عن كونه من حكم الشرع في الزواج فلا يخطر ببال المرأة أنها ستخوض عما قريب العنت الذي تلقاه المطلقة في مجتمعاتنا.

 

الفقيه اليوم وهو يتسامح مع هذا النوع من الزواج ويستحضر الإرث الفقهي الذي تسامح معها يساهم بشكل أو بآخر في توسيع هذا المزاج الحداثي/الفرداني ويدفع باتجاهه ولكن بشكل وفي إطار تراثي إسلامي.

 

المثال الثاني: في الاقتصاد، حيث الأفق الذي نعيش فيه هو الأفق الرأسمالي، ونحن نعيش سياقـاً عالميـاً  تحكمه الرأسمالية، وتنقسم فيه المجتمعات انقساماً حادا إلى أغنياء وفقراء، ويتم احتكار المال في أيدي قلائل من الناس، عالم لا تحكمه قيم التراحم والتكافل والتعاون، عالم يغيب فيه القرض الحسن ويحضر فيها التعامل المبني على الربح سواء في ذلك المحتاج وغير المحتاج، الغني والفقير.

 

من جهة أخرى نحن نعيش في عالم استهلاكي بدرجة أولى، تحول فيه الاستهلاك نفسه إلى قيمة، وتنافست شركاته على تعزيز وترويج ثقافة التسوق التي حولت الكمالي إلى حاجي، والحاجي إلى ضروري، وأصبح جزءاً من ماهية السعادة والراحة والاطمئنان أن تكون مستهلكا بشكل أكبر. 

 

في هذا العالم المادي الاستهلاكي الجشع، وأمام هذا الاقتصاد المتوحش، تأتي البنوك الإسلامية/ أو النوافذ الإسلامية لتقدم لعملائها مجموعة من المعاملات التي تحمل فتاوى مبيحة لها، وفقاً لهيئات علمية فقهية معتبرة، هذه البنوك تشتغل داخل هذه المنظومة التي أنتجها الاقتصاد الرأسمالي، وتعمل بذات المكينة وذات الأهداف والغايات، وفي مقابل ذلك تتزايد لدى الناس النزعة الاستهلاكية، وتوفر لهم البنوك التسهيلات المطلوبة، هنا يأتي الفقيه فيبلس قبعة البنك الرأسمالية ويفكر بذات الطريقة، فينخرط معها في أسلمة تلك المعاملات ذات النزعة الاستهلاكية من خلال تسهيل المعاملات التي تعزز هذه النزعة، وضبط الشروط والقيود التي تنقلها من دائرة الحرام إلى دائرة المباح، وأحيانا يتم ذلك من خلال استحضار مسائل تراثية كالتورق مثلاً وتشغيلها داخل منظومة بنكية مختلفة استشهادا بتلك الأقوال الفقهية، دون أن يدرك أن المسألة اليوم تتداول ضمن نظام رأسمالي متوحش، وهذا ما يجعل الرجل العادي يتسائل عن الفرق الحقيقي بين تلك المسائل وبين الربا الذي يأكل أموال الناس بالباطل، بل يجد أن الفائدة الربوية ربما تكون أقل ضررا عليه من التورق الذي أبيح له.

 

ماذا يعني لشخص محتاج لا يجد من يتفضل بإقراضه قرضاً حسنا، فيضطر للذهاب إلى البنك فيجد أن الفائدة في المعاملة بشكلها الربوي لا تتجاوز ???، فإذا ذهب للنافذة الإسلامية وجد أن الفائدة تتجاوز ??? ؟.

 

هل هذا هو النموذج الذي يقدمه الفقيه إذا ما أراد أن يؤسلم المسألة ؟ لاشك أن الفقيه لايريد أن يخرج بنموذج يفاقهم المشكلة على المقترض، لكن لماذا لايسأل الفقيه نفسه ما الذي أخرج المسألة بهذا الشكل؟

 

المثال الثالث: في الجانب السياسي، حيث الأفق الذي تشتغل فيه الدولة هو أفق الدولة الحديثة التي أنتجتها الحداثة، وأحد أهم خصائص هذه الدولة أنها تدخلية، وقادرة على التحكم في كل شيء، ومراقبة كل شيء، والمعاقبة على أي شيء.

 

هنا يأتي الفقيه اليوم وبمجرد أن ينخرط في مؤسسات الدولة يلبس قبعة الدولة الحديثة ويفكر فقهيا بذات الطريقة، فالدولة وفرت له إمكانية التدخل في كل شيء، والسيطرة على كل شؤون الناس الدينية، وهو -مدفوعـاً بحرصه على تطبيق أحكام الشريعة- يستغل هذه المنظومة كأداة شمولية لمراقبة الناس في كل شؤونهم الدينية، ويتدخل في أمور لم يكن من الممكن التدخل فيها قبل نشوء الدولة الحديثة. ويتوسع في فرض عقوبات على أعمال لم تفرض عليها الشريعة نفسها أيـة عقوبة. 

 

كثير من الفقهاء اليوم وهم يشتبكون مع قضايا تقنين الفقه أو قضايا تطبيق الشريعة في النظام الديمقراطي لا يستحضرون هذا السياق.

 

هل على الفقيه الذي تمنحه الدولة الحديثة السلطة في إدارة الشأن الديني أن يهيمن على كل شيء ديني ؟ هل له -إذا ما استطاع- أن يتوغل في حياة الناس الخاصة والعامة، ويتأكد من سلامة موافقتها للدين؟ 

 

في واحدة من كتب الفتاوى المعاصرة، يوجه المفتي المكلف بإدارة الشأن الديني رسالة إلى وزير الداخلية يطلب منه أن يصدر أمراً بإيقاف السيارات التي تسير في الطرقات حتى يؤدوا الصلاة في جماعة، نعم الدولة الحديثة بأدوات السيطرة فيها بإمكانها أن تفعل الكثير من ذلك ، والفقيه هنا يتماهى بشكل أو بآخر مع (نموذج الهيمنة). 

 

الأمر نفسه في اختيار الرأي الفقهي، فيأتي الفقيه إلى المدونة الفقهية ويرجح اختيارا فقهياً معيناً، ولأن الدولة الحديثة وفرت له إمكانية تعميم هذا الاختيار بشكل لم يكن مسبوقاً، ووفرت له إمكانية إلزام الآخرين به فإنه لا يتردد في استخدام أداتها الشمولية لتعميمه، فـمسألة كمسألة كشف الوجه، هل من حق الفقيه الذي يمتلك أدوات تدبير الشأن الديني إذا ترجح له وجوب تغطية الوجه، أن يُعمم هذا الاختيار على الناس ويلزمهم به؟ 

 

ما هي الحدود الفاصلة بين ما يمكن التدخل فيه وما لا يمكن؟  

 

ليست هناك حدود واضحة عند كثير من الفقهاء المعاصرين في ذلك .. 

 

تزداد صورة هذه النماذج تعقيداً إذا انتقلنا إلى مايسمى "فقه الأقليات" الذي يعتني بالمسائل التي تقع للمسلمين في "بلاد الغرب"، فمهما قلنا عن تأثر المجتمعات الإسلامية بقيم الحداثة الغربية تبقى النسخة الأصلية لهذه الحداثة في المجتمعات الأم أكثر تعقيداً، والتعامل الفقهي معها أشد التباساً.

 

هنا يتعرض الفقيه لتحدٍ آخر تفرضه الحداثة الغربية وأنماط العيش فيها، ولنضرب لذلك مثلاً بمسألة في السياق الاجتماعي، وهي مسألة (الولي في النكاح)- عند من يشترط ذلك- فهل تعامل الفقيه مع هذه المسألة في المجتمعات الإسلامية التي تحتفظ كثير من قطاعاتها بموقع معتبر للأب، ولايزال له تأثيره داخل الأسرة، هو ذات التعامل في بيئة من المعتاد أن تخرج فيها الفتاة من سلطة الأسرة منذ وقت مبكر من حياتها، وتنفصل عنها ولا ترتبط بها إلا بشكل رمزي في أعياد ومناسبات خاصة، حتى اذا أسلمت وأرادت الزواج طُرحت عليها مسألة الولي؟ 

 

إن الفقيه عليه أن يتسائل قبل أن يصدر حكمه: ما موقع الولي هنا .. وما موقعه هناك؟ ما معنى اشتراطه هنا .. وما معنى اشتراطه هناك؟ وما معنى أن يختار الفقيه بديلاً عنه في حال لم تجد لها ولياً فيقول: "فإن لم يوجد كحال الجاليات المسلمة المقيمة في بلاد الغرب: زوّجها رئيس المركز الإسلامي، فإن لم يوجد زوّجها إمام المسجد، أو عالم من علماء المسلمين، أو رجل عدل من المسلمين".

 

وهذه المسألة ليست يتيمه، بل لها أخوات في السياق الاقتصادي والسياسي، لابد أن يواجهها الفقيه، ولابد أن يفكر فيها بجدية.

 

إن الفقيه تجاه هذه المسائل يواجه تحدياً أكبر من تلك التحديات التي سبقت، يفرض عليه من النموذج الحداثي أيضاً ولكن بطريقة مختلفة، فهل عليه أن يفكر فقهياً في هذه البلاد بالطريقة ذاتها التي يفكر بها في البلاد التي خرج منها؟

 

إنه إذا فكر بطريقة واحدة دون اعتبار للاختلاف الكبير والعميق جداً بين البيئتين؛ سيلتزم بأقوال تأسست على معاني ومناطات لاتوجد في تلك البيئة الأخرى، حتى يبدو الالتزام بها فاقداً لمعناه.

 

هذه النماذج بسياقاتها المختلفة تكشف لنا نوعية التحديات التي تواجه الفقيه وهو يقوم بإعمال فقهه في أفق حداثي، وتبين آثار هذا الاشتغال على الفقه والفقيه والمجتمع. 

 

الآن وبعد كل ذلك .. نطرح سؤالين نختم بها هذا المقال: سؤال يتعلق بالفقه، وآخر يتعلق بالفقيه:

 

أما السؤال الأول: لماذا حصلت كل هذه التحديات أمام إعمال الفقه في هذا الواقع؟

 

إن هذه الصورة التي تبدو فيها بعض أحكام الفقه -إذا افترضنا صوابها- شاقة وحرجة، وبعضها الآخر عصي على التفعيل؛ هي نتيجة تفاوت رهيب بين مجموعة نماذج متعاكسة: نموذج تراثي في مدونات الفقه يطلب منه شيء، ونموذج مجتمعي (أفرادا وجماعات ومؤسسات) يطلب منه شيء، ونموذج حداثي معولم محمّلاً بقيمه وأفكاره الجديدة يفرض عليه شيء آخر. وأمام هذه النماذج المتعاكسة سيتعرض الفقه لولادة عسيرة جداً، ليس من السهل أن يخرج خلالها صحيحا معافى. إن الفقيه التراثي عليه وهو يُعمل ذهنه في فقهه أن يستحضر جيدا أنه أمام واقع مركب من نماذج غير متجانسة، بل ومتعاكسة أيضاً.

 

أما السؤال الثاني الذي يتعلق بالفقيه، فهو: هل المطلوب من الفقيه أن يغير هذا المسار الكوني ؟

 

بالتأكيد .. لا .. لأنه ببساطة خارج قدرته وإمكاناته، فمهما صنع وحاول لن يقدم لنا حلولا جذرية، لأن المشكلة أكبر منه، ونحن إن أعدنا النظر في تحليل تلك النماذج سنواجه بالسؤال التالي: هل المشكلة هنا هي مشكلة فقه أم مشكلة حضارة؟ 

 

تكشف لنا تلك النماذج أن المشكلة أكبر من أن تكون مجرد مشكلة فقهية، إنها بالدرجة الأولى والثانية والثالثة مشكلة حضارية، ثم هي من بعد ذلك مشكلة فقهية.

 

الحضارة الأقوى هي التي تفرض نماذجها، ونحن -الأضعف- لا نملك إلا استهلاك تلك النماذج، الفقيه هو واحد من الأفراد الذين يعيشون ضمن هذه الحضارة، وهو بالتالي يقوم بدور مماثل لتلك الأدوار الاستهلاكية في التعامل معها شعر بذلك أم لم يشعر، وسيظل الفقيه يمارس ذات الأدوار، ويقع في ذات الحرج، وينتج ذات الإشكالات مادام وضعنا الحضاري على ما هو عليه !! 

 

وفي عبارة لها دلالة عميقة جداً يقول باومان: "إن المشكلات التي تصيب المدن المعاصرة لا يمكن حلها بإصلاح المدينة نفسها، مهما كان الإصلاح جذرياً، فلا توجد -دعوني أكرر- حلول محلية لمشكلات عولمية".  

 

إذا كان الفقيه غير قادر على تغيير المسار الكوني الجديد فإن هذا لا يعني أن عليه الانخراط في تعزيز هذه المشكلات المعولمة، بل عليه أن يتدافع معها، وأولى خطوات هذا التدافع هي أن يفهم بشكل أعمق هذا المسار الكوني الجديد وأن يعيد ترتيب تفكيره الفقهي بناء على فهمه لهذا المسار الذي لا يعدو أن يكون فيه "ترس بسيط في آلة ضخمة".

------------------------------------------------------------

  مدير مركز نماء للبحوث والدراسات – بيروت، والمحاضر بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة الملك عبد العزيز بجدة.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين