انضباط منهجيّ.. لا استبدادٌ دينيّ.

 

كثيرًا ما يتطابق في الذهن أيّ تصوّر للانضباط بأنّه نوعٌ من أنواع الهيمنة والاستبداد ! لكنّ هذا التصوّر سرعان ما يزول عند التعمّق في فهم أسباب هذا الانضباط.

 

وقد باتت الشريعة الإسلاميّة اليوم مرمى سهام أبنائها، الذين رضعوها صغارًا فشبّوا في حلقات تدريسها ونشأوا بين أشياخها، فلمّا تعلّموا الرماية بدأوا برمي مشايخهم ومناهجهم، مسايرةً للرامين من كلّ صوبٍ وحدب، واتّقاءً للسهام؛ ليكون الهجوم خيرَ وسيلةٍ للدفاع.

 

وكثيرًا ما يتعرّض المشتغلون بعلوم الشريعة وفقَ ضوابط العلوم لانتقادٍ واسعٍ من قبل (المنفتحين أو المنفلتين !) بسبب تمسّكهم بتلك الضوابط، فهل هذه الضوابط استبدادٌ دينيٌّ أم أنّها انضباطٌ منهجيّ؟!

 

مفهوم (الانضباط الشرعيّ) مفهومٌ واسعٌ يشمل الانضباط على القواعد المعروفة في مختلف علوم الشريعة، وهذا هو الأصل في مفهوم الانضباط، كما يشمل الانضباط بالقواعد المصنوعة، والانضباط على المنهج العامّ للأمّة.

 

كما أنّ المنضبطَ على القواعد الموضوعة من قِبَلِ غيرِهِ كالمنضبطِ على القواعد التي يضعها لنفسِهِ إن كان من أهل صناعة تلك القواعد و(القوانين المنظمة) لحركة الشريعة اجتهادًا واستنباطًا وفهمًا للنصوص وقبولاً لها وتنزيلاً للأحكام على واقع الأمّة وحاضرها !

 

والأهمّ من هذا أنّ الانضباط لا يُتصوّرُ في حقّ من غيّر المنهج العامّ للأمّة، الذي سار عليه علماء الشريعة عبر قرون، المنهج الذي أدرك الناس أنّه يُقدّم للأمّة ما يجعلُها أهلاً لريادة العالم، كما كانت من قبل، مع توافر الظروف المناسبة !

 

لقد حصل تغيّر في أساليب إدارة الصراع من قبل أعداء هذه الأمّة، وينبغي أن تتطوّر آليّات التفكير والاستنباط لتوافق الأساليب الجديدة، لكنّ هذا التطوّر في الآليّات لا يعني ثورةً على كلّ معالم الانضباط الموجودة في مناهج علماء الشريعة الإسلاميّة.

 

وفي كثيرٍ من الأحيان فإنّ الجمود على الآليّات السابقة يُعطّل تجاوب الشريعة مع حركة الحياة، ويجعلها تبدو كأنّها لا تتناسب مع الواقع الذي تعيشه هذه الأمّة.

 

إنّنا نحتاجُ إلى فهم ليونة الضوابط نفسها، والقواعد، بقدر ما نحتاج إلى استيعاب ليونة النصوص ومطاوعتها للتغيّرات مهما كانت كبيرة في واقع الحياة، وهذا ما لا يُدركُهُ كثيرٌ من أرباب هذه العلوم الشرعيّة، فيتصوّر أحدهم أنّ الضوابط جامدةٌ حدّ التصلّب، وأنّ التغيير في فهم نماذجها وتطبيقاتها في واقع الحياة مستحيلٌ إلاّ بناءً على تفريعات الأوّلين ! دون إمكانيّة التفريع على القاعدة مباشرةً، ودون القدرة على استنباط الضوابط المناسبة لعصرنا، الضوابط التي تُحقّق لنا ما حقّقتُهُ الضوابط التي وضعها المتقدّمون لعصورهم فارتقت الأمّة بسببها، وتقدّمت تقنيًّا وعلميًّا وفكريًّا وعسكريًّا حتى ملكت نصف الأرض في نصف قرنٍ من الزمان !

 

لم يكن من السهولة على معاصري واضعي علوم الشريعة ومؤسسي مذاهبها المختلفة أن أن يعترضوا بالتسفيه على مخترعيها، الذين لم يُدوّنوها إلاّ لحاجة المجتمع العلميّ إليها، فاهتمّت بها الأوساط العلميّة والسياسيّة، وصار لأربابها مكانةٌ علميّة واجتماعيّة، وقد أدّى هذا الاحترام لجهد أولئك الذين أسّسوا تلك العلوم إلى احترام من جاء بعدهم ممّن يخدم هذه العلوم، لا سيما أنّ ارتباط هذه العلوم كان بالله تعالى وكتابه وسنّة رسوله وأحكام عبادة الله؛ فأورث ذلك بعض حمَلَة هذه العلوم نوعًا من الاعتداد بالرأي واستصغر المسلمون الذين لا يعملون بهذه العلوم أنفسهم أمام إمكانات أولئك ومكانتهم. وكانت تلك بداية الاستبداد العلميّ!

 

لكنّ الاستبداد العلميّ والاجتماعيّ لم يكن يُشكّل ظاهرة في عصر من العصور بل كان مجرّد حوادث فرديّة.

 

انتقلنا في زمننا هذا إلى توصيف جديد للاستبداد الدينيّ، فزعموا أنّ الاستبداد الدينيّ هو التمسّك بالمذهبِ، والمنهجِ، والمدرسة الفكريّةِ، وأنّ الخروجَ عن المذهب والتفلّتَ من قواعدِهِ هو السبيلُ إلى التحرّر من ذلك الاستبداد!

 

من المهمّ هنا أن ندرك أنّ جملة علوم الحياة التطبيقيّة والنظريّة لا تستقرُّ إلا بضوابط ومنهجيّة، ولا يُمكن لممارسها أن يبدأ بتغيير مناهج دراستها بنفسِه، فضلاً عن أن يُغيّر (ثوابتها) ويُحرّف أسسها، فكيف يمكن لمبتدئٍ أو مُنتَهٍ أن يُغيّر (وحدَه) كلّ أسس البحث والنظر في علمٍ ما؟ وكيف يُمكن لشخصٍ مهما بلغ علمُهُ أن يُقرّر أنّ من سبقه من جماهير العلماء في فنّهِ ليسوا على درجة إدراكه ووعيِهِ لمسائل هذا العلم، بل كيف تسوّل له نفسُهُ أن يتجاوز كلّ ذلك ليُعيدَ صياغة مداخيل هذا العلم أو مبادئه الأساسيّة؟! أمّا أن يتجرّأ أحدٌ فيزعم أنّ هذا العلم ليست له مبادئ وضوابط، وأنّه خالٍ من المنهجيّة أصلاً، فهذا لم يقل به عاقلٌ أبدًا .. إلا في علوم الشريعة ! فقد نال منها أبناؤها –وغيرهم- وزعموا أنّ تلك العلوم يُمكن أن تنال بلا ضوابط، ويُمكن أن يرقى المرء إلى ذراها وخواتيمها دون بدايات وأسس !

 

وحين يدقّق المتابع في حجم الحملة التي يُراد منها الانفلاتُ من المنهجيّة يُدركُ تمامًا أنّها لا يُمكن أن تكون (شريفة!) في منطلقاتها، وإن كثر المخلصون من مرتكبيها.

 

لكنّ عدم انضباط المنهجيّة يُشكّل ذريعةً أمام الراغبين في تقحّم الحديث حول الشريعة وفقهائها ومختلف علمائها باختلاف تخصصاتهم وتنوّعها.

 

فللمشتغلين بالفقه مدارس، تتنوّع الخلافات بين مؤسّسيها وأبنائها من اختلافات في الفروع إلى اختلافات في الأصول، إلى اختلافات في أصل المنهج، فترى من يأخذ بحديثٍ يرفضُ الاحتجاج به الآخر، وترى من يحكم بصحّة عملٍ يراهُ الآخر باطلاً من عبادةٍ أو معاملة !

 

وللمشتغلين بالحديث مدارس تتنوّع مناهجها وأصولها، فترى من يُصحّح حديثًا حكم عليه الآخر بالضعف أو الحُسن !

 

وللمشتغلين بالتفسير مناهج ومدارس !

 

وللمشتغلين بأصول الفقه أو أصول الدين مناهج ومدارس !

 

فهل تُشكّل هذه المدارس ذريعة حقيقيّة أمام الطاعنين؟

 

لعلّ من نافلة القول إنّ المتخصّص يعلم أنّ المدارس الفقهيّة والفكريّة الإسلاميّة كثيرًا ما تكون ثراءً في الطرح وتنوّعًا في زاوية النظر، لا ينقضُ بعضُها بعضًا، ولا يقطعُ بعضُها ببطلان بعض جملةً! بل ندرك أنّ بعضهم يكمّل بعضًا، ويفتقرُ إلى الآخر !

 

ولفهم طبيعة هذه الضوابط المنهجيّة نحتاج إلى ضربِ مثالٍ سريعٍ على أحدها فقط ، وليكن علمَ الحديث مثلاً:

 

من الضوابط المختلف فيها بين المحدّثين: متى يُحكم على الحديث بالصحّة، فمن المناهج ما يقتضي الحكم عليه بالصحّة عند اتّصال سندِه (بمعاصرة كلّ راوٍ لمن فوقَهُ مع ثبوت لقياه له) بنقل العدل الضابط عن مثلِهِ إلى منتهاه، مع سلامتِهِ من الشذوذ والعلّة.

 

ومن هم من يرى أنّ المعاصرة تكفي مع احتمال اللقاء، ومنهم من يرى التصحيح مع المعاصرة دون نظرٍ في إمكان اللقاء أصلاً !

 

فالانضباط يقتضي من صاحب أيّ قولٍ من هذه الأقوال ألاّ يُصحّح حديثًا إلا إذا وافق ضوابطه التي وضعها ..

 

وعدمُ الانضباط أن نُصحّح حديثًا على القول الثالث مرّة، وأن نشترط لتصحيحه الشرط الأوّل مرّة ثانيةً، إلاّ إن اختلف موضوع الحديث فقد تكون للمحدّث منهجيّة في التصحيح بحسب الموضوع، وهذا نادرٌ بين المحدّثين، إذ أكثر اهتمامهم ينصبّ على الاسانيد لا المتون.

 

وهكذا في أكثر الخلافات بين علماء المسلمين.

 

فهل يَقدَحُ في (القانون المنظّم) لعمليّة الرجوع إلى الشريعة، أو الاستنباط من النصوص بعد تتابع جماهير غفيرة من علماء الإسلام على هذا القانون تنقيحًا وتأصيلاً وتأطيرًا وضبطًا إلا من هو أهلٌ لبيان موضع الخلل ممّن يوازن من وضعَهُ أصلاً؟

 

إنّ اتّهام علماء الشريعة المنضبطين -بمختلف تخصّصاتهم- بالاستبداد اتّهامٌ خارجٌ عن سياق الإدراك لواقع علومهم، وطبيعة تكوّنها ونشأتها، وهو في ذات الوقت اتّهام يخلو من بيان جذور المشكلة وطرق حلّها، ويخلو من بيان الطريق الأنجع لتجاوز تلك الضوابط والقوانين المنظّمة لحياة الشريعة وحفظها.

 

وكما أنّ التسرّع في الاتّهام بالاستبداد لا يعدو أن يكون تهوّرًا غير مقبول، فكذلك التواطؤ على التستّر على المنحرفين عن الأصول المخترقين لنظام الضوابط لا يكون  إلا تعصّبًا مقيتًا أو شذوذًا فكريًّا وعصمةً عمليّةً للقائلين بهذه الأقوال الشاذّة.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين